خاض الغرب في تاريخه الحديث تجربتي مصالحة مع الذات في أعقاب أزمتين طاحنتين، جاءت الأولى طلبا للخروج من باراديغمات القرون الوسطى وسعيا للتحول نحو نموذج المجتمع الحديث، وذلك عقب ما عُرف بـ«الإصلاح» و«الإصلاح المضاد»، البروتستانتي والكاثوليكي، وما رافقهما من انتهاكات فظيعة. لِتلِي ذلك تجربة مصالحة ثانية أعقبت الحربين العالميتين بضراوتهما غير المعهودة، أعادت تشكيل الهوية المنفتحة بعدما داهمها الوهن جراء موجات الانغلاق القومي، خصوصا مع موجتي الفاشية والنازية. وقد عبّرت المصالحة في شكلها الأول والثاني عن مسار تاريخي تطوري، هدف إلى بناء المجتمع المدني في أنقى تمثلاته الديمقراطية والمدنية.
لم يأت البحث عن صيغ الوئام الاجتماعي والتعايش السلمي في الغرب الحديث، ضمن مسار متدرج وسلس؛ بل جاء في أعقاب مسارٍ وعرٍ مشحون بالاضطرابات والعنف والتهجير والقتل، ران ردحا طويلا حتى خُيِّل للناس ألا مخرج من تلك الأوضاع. ولعل أبرز المحطات الدامية ما يُعرَف في التاريخ بحرب الثلاثين عاما (1618-1648)، التي انجرفت إليها العديد من الدول الأوروبية. وشكّل الصراع أثناءها على الدين عمق الأزمة، بعد أن توزّع دَورُ وكلائه بين أمرين: إضفاء الشرعية على الملَكيات القائمة، ودعم أسس الدولة الثيوقراطية المحكومة بالنظام الهيروقراطي، أي الخاضعة لسلطة رجال الدين.
واللافت في تاريخ الدين في الغرب أنه غالبا ما شكّلَ بحثُ المؤسسة الدينية عن ملاذ في السلطة، وتحت السلطة، ورطةً وتفريطاً في استقلاليتها، ودفع باتجاه مغامرة دنيوية غير مأمونة العواقب. فعلى سبيل المثال حين واجه البابا ليون الثالث انتفاضة شعبية أجبرته على الفرار من روما، كان الفضل لشارلمان في إعادته إلى عرشه. حينها لم يجد البابا سبيلا إلى إسداء الشكر له سوى بتتويجه إمبراطورا، أثناء مشاركته في قداس أعياد الميلاد في كاتدرائية القديس بطرس في روما. فقد مثّل إغواء السلطة للكنيسة تجربة عسيرة، اقتفت أثناءها خطى السلطة الزمنية، استلهاما لما يرد في إنجيل لوقا: «يا رب ها هنا سيفان». وهو ما ولَّد مفاهيم على غرار «الإمبراطورية الرومانية المقدسة»، و«القيصرية البابوية»، و»نظرية السيفين في غمد واحد»، أي الاستحواذ على السلطتين الزمنية الروحية.
المجتمع المنفتح
في خضم تلك الأوضاع مثّل ظهور البروتستانتية أبرز لحظات التحدي لكنيسة روما، وترتّب عن ذلك عنف اجتماعي وفتنة استمرت طويلا، ولم تتجه الأمور نحو التسوية سوى في أعقاب صلح أوغسبورغ بين الدول المتنازعة. تمخضت الأوضاع حينها على قاعدة (cuius regio eius religio)، أي أن كل حاكم يقرّ دين رعاياه بمعزل عمّا تمليه عليه كنيسة روما، وهو ما سيخلّفُ تحولات جذرية سوف تغير المشهد الديني التقليدي الذي خيم قرونا على العقول والضمائر. تميزت الأوضاع عقب قبول البروتستانت المحتجين على الخارطة الدينية، بتحولات جوهرية: في المجال التشريعي، تولّد مفهوم سيادة الدول، أو بشكل أدق سيادة الملوك على ممالكهم؛ وعلى المستوى الفعلي لممارسة السلطة، دبّت روح جديدة في الملكيات المطلَقَة باتجاه التحول نحو الملكيات المتنوّرة؛ وبالنهاية في المجال الديني، خوّلت الأوضاع للملوك إمكانية تحديد دين رعاياهم دون الرجوع في ذلك إلى كنيسة روما، مع ضمان التسامح لمن يدينون بأديان أخرى.
الكنيسة وحقوق الإنسان
بشكل عام ما كان الاعتراف بالمكونات الاجتماعية الناشئة، يجري ضمن خط تطوري مستقيم، بل غالبا ما يتخلل التحول مد وجزر. فقد كانت السلم الاجتماعية المنشودة عرضة للارتدادات والانتكاسات. ولعل أخطر لحظات التصادم بين التيار المحافظ والتيار الحداثي ما جاء في أعقاب الثورة الفرنسية، التي تطلعت إلى بناء مجتمع حديث يقطع مع الماضي القروسطي. وهو ما كان يتناقض مع النموذج الكنسي الكاثوليكي، الذي لم تفلح موجة الإصلاح البروتستانتي في الحد من هيمنته وسطوته. مثّل رفض كنيسة روما التعايش مع الأوضاع الجديدة، ولا سيما مع مبدأ الحرية الدينية مربط الفرس، خشية ما قد يسببه من زعزعة لمقاليد السلطة، المتلخصة على وجه الخصوص في القول بعصمة البابا، من انهيار مؤسسة الكنيسة برمتها. وقد عبر عن توجسات الكنيسة في تلك الفترة لوي فيكونت دو بونال (1754-1840)، وهو سياسي ناصب الثورة الفرنسية العداء وهاجم إعلان حقوق الإنسان، وعبر عن العلاقة الإشكالية بقوله: «انطلقت الثورة بإعلان حقوق الإنسان والمواطن وتنتهي بإعلان حقوق الرب». هذا التضارب بين حقوق الإنسان وحقوق الرب مثّلَ جوهر الخلاف بين الكنيسة والحداثة. لكن ينبغي ألا نغفل أن الثقافة الكاثوليكية ما كانت كلها تسير بحسب هذا التوجه؛ فقد سعت توجهات ليبرالية داخلها إلى إيجاد مصالحة بين المعتقد الكاثوليكي المتصلب وتوجهات العصر الحديث، غير أن تلك التوجهات كان نصيبها المحاصرة والإدانة. وفي العام 1861 ظهر كتاب في فرنسا، للكاتب الكاثوليكي ليون نيكولا غودار «مبادئ إعلان حقوق الإنسان والمواطن الفرنسي والمعتقد الكاثوليكي» ذهب صاحبه إلى أن 17 مبدأ من جملة المبادئ الواردة في الإعلان الفرنسي لا تتناقض مع روح المعتقد الكاثوليكي، لكن غودار أُجبر حينها على التوجه إلى روما للمساءلة بشأن آرائه.
ضمن هذه التحولات الكبرى، لم يأت إقرار الكنيسة بالعلمانية، والفصل بين الديني والدنيوي، والإذعان إلى قيم الحداثة، ضمن خيار داخلي؛ بل تحت ضغوط قاهرة حملتها قسرا على تبني المسار الذي باتت تسلكه المجتمعات الأوروبية. لكن ما إن استوت الأمور على الجودي مع الكنيسة وتم ترويضها، حتى التأمت عناصر تحدٍ أخرى للغرب تولدت من داخل طبيعة نظامه الرأسمالي. فلم يكن اندلاع الحرب العالمية الأولى التي أعقبتها حرب ثانية، نتاج أزمة سياسية تولدت جراء اغتيال وريث عرش الإمبراطورية النمساوية المجرية وزوجته فرانس فرديناند في الثامن والعشرين من يونيو 1914، ولكن كانت الأوضاع حصيلة اهتزاز قِيَم أجيال بأكملها أدمنت أفكار الحرب والهيمنة والمركزية والاستعمار.
مراعاة التنوع
في تجربة التصالح الثانية للغرب مع ذاته، التي أعقبت الحربين، بلغ اليقين في أوساط النخبة على تنوع مشاربها الفكرية والسياسية، أن التعايش بين مختلف المكونات هو السبيل الأوحد لاستمرار مكتسبات عصر الأنوار، وهو ما يعني استمرار الغرب كمثال يحتذى للكون بأسره، ولن يتسنى ذلك التعايش سوى على أساس ديمقراطي ومدني وليبرالي.
فقد أدرك الغرب أن قوته في مراعاة ذلك التنوع الكامن فيه، وعلى ذلك الأساس تواجدت في الساحة الفكرية والسياسية والدينية رؤى متضاربة ومتنافرة، آمن جلها أن شرط التواجد رهين بمراعاة الخصم، وأن التنافس ينبغي أن تتوفر فيه حظوظ متساوية للجميع. كان لا بد لمعادلة التوازن الهش تلك من توفر حاضنة ديمقراطية، وهو ما عمل الغرب على ضمانها. ولا يعني أن التوجهات السياسية والفكرية التي صنعت الحربين الأولى والثانية قد اندثرت وامحت بعد الحرب، ولكنها بقيت حاضرة في النسيج الاجتماعي مع إلزام لها بالنهج السلمي في الترويج لآرائها، لذلك لم تنقرض الفاشية يوما من إيطاليا، ولا النازية من ألمانيا، ولا غيرها من التوجهات اليمينية «المتطرفة» أو اليسارية «المتطرفة»، ولكن التحول الكبير حدث في الحضور السلمي داخل المجتمع.
وفي التجربة الإيطالية في الصلح بعيد الفاشية. ما كان لإيطاليا أن تعبر البرزخ الفاشي باتجاه إيطاليا الديمقراطية لولا التصالح بين القوى اليسارية والليبرالية والقوى الدائرة في فلك الكنيسة. ولم يبق التصالح عائما في حدود النخبة السياسية، بل امتد إلى الشرائح المثقفة إيمانا بألا سبيل لنهوض البلد سوى بتقبّل التعايش بين هذه الأطراف. وفي الحقيقة لم يأت هذا التعايش من فراغ، بل انبنى على مراجعات داخل التكتلات الأيديولوجية الكبرى. جرت مراجعة اليسار علاقاته بالاتحاد السوفييتي، ولا سيما عقب ربيع براغ، وبالمثل اتخاذ مواقف واضحة من الصين وسياسة التصلب الماوية. وانتهاج خط جديد عرف بالاشتراكية النقدية، كما أن الكتلة اليمينية الكنسية عرفت مراجعات من داخلها بلغ اليقين فيه أن الاستحواذ على المجتمع ما عاد مناسبا، في ظل مناخ ديمقراطي تتساوى فيه حظوظ للجميع وألا سبيل للهيمنة الدوغمائية على المجتمع.
في مقطع جميل لإيتالو كالفينو في كتابه «مدن لا مرئية» يقول: «لو أخبرتكَ أن المدينة التي أشدّ إليها الرحال هي غير مستقرّة في الزمان والمكان، وحينا أكثر انسيابا وآخر أكثر كثافة، ينبغي ألا تيأس في البحث عنها»، هكذا يبدو السير نحو مدينة السلام مسكونا باليقين والآمال والإصرار.
* أستاذ بجامعة روما
تطرف لكن مضبوط!
أذكرُ في بداية عهدي في إيطاليا، منذ ما يربو عن العقدين، أن شاءت الأقدار أن أسكن في حي يغلب على متساكنيه التوجه اليميني، وهو «الحي الأفريقي»، الواقع في قلب العاصمة روما، وأسماء الشوارع «شارع ليبيا» و«شارع غدامس» و«شارع الصومال» و«شارع إثيوبيا» وهلم جرا، تذكر بذلك الشره الاستعماري الدفين. استرعى انتباهي حينها كثرة النوادي والجمعيات ذات المنحى الفاشي، هذا إلى جانب الاستعراضات والتظاهرات لأصحاب «القمصان السود» في الشارع العام، وقد كنت أحسب الأمر من الماضي أو من المحرمات السياسية، إلا أني أدركت أن الأمور مباحة على قدر متساو بين الجميع ما لم تتحول إلى فرض وإلزام، وإلى ما يهدد السلم الاجتماعي. ثم عرفت بعدها أن حفيدة موسوليني أليساندرا علمٌ من أعلام المسرح السياسي الإيطالي التي غالباً ما تردد محاسن وفضل جدها على أفريقيا الذي نقلها من الخيمة إلى القصر ومن البعير إلى السيارة.
جريدة الاتحاد الاماراتية