اسحق الموسوي
أفهم مما أقرأه عن مشروع (الدولة الحضارية الحديثة) أن الحضارة في مظهرها الأحدث هي أكثر رقيا وتقدماً في افكارها وقيمها ومبادئها من أفكار وقيم ومبادئ الحضارات السابقة وأنه كلما تقدم الزمن في الجنس البشري كان أكثر ابداعا وأسمى انسانية وعقلانية وأخلاقية. وهذا يعني أن من يريد أن يكون متحضراً (بمعنى أن يكون ذا حضارة ) عليه أن يتبنى مفاهيم وقيم آخر الحضارات أو الحضارة التي لها السيادة اليوم, أيّ قيم ومفاهيم ومبادئ الحضارة الغربية الحديثة والمعاصرة.
أي أن على الانسان أن يفكر بنفس الطريقة التي وضعتها الحضارة المعاصرة للتفكير وإلا فإنه لن يكون متحضرا. مثلا عليه ان يتخلى عن الكثير من الأفكار والتصورات والقيم التي لازالت موجودة في بيئات حضارية أخرى لأنها أفكار وتصورات وقيم لا تتقبلها طريقة تفكير الحضارة الغربية المعاصرة فعلى ابن الحضارة الهندوسية أن يتخلى عن فكرة ألوهية البقرة وعبادتها وعلى البوذي أن يتخلى عن تقديم الهدايا والعبادة لتمثال بوذا وعلى المسلم أن يتخلى عن فكرة المهدوية وعن أشياء كثيرة أخرى لأنها في الحقيقة لا تلتقي بأي شكل من الأشكال مع طريقة تفكير الحضارة الغربية القائمة على نزع السحر (الغيبية والغنوصية) عن العالم وأخذ العالم كما هو في ظاهره عالما ماديا بحتاً ولا يمكن معرفته وفهمه إلا من خلال الطريقة المعرفية القائمة عل أساس التجربة الحسية والمختبرية ولايوجد علم صحيح يمكن الحصول عليه من أي طريق أخرى مهما كانت هذه الطريق. ومن الواضح أن هذه الطريقة ذا نتائج كاسحة وناسفة لأكثر أفكار ومفاهيم الحضارات السابقة على الحضارة الغربية المعاصرة.
إذن فالدولة التي يريد مشروع الدولة الحضارية الحديثة إقامتها هي الدولة القائمة على أسس الحضارة الغربية المعاصرة. ولايمكن أن تُقام دولة حضارية حديثة على أسس حضارات سابقة لها. قد يقال أن مشروع الدولة الحضارية الحديثة لا ينفي بعض القيم والمبادئ التي جاءت بها بعض الحضارات السابقة للحضارة الغربية المعاصرة بل هي تحتفي بها وتتضمنها ومنها فكرة الألوهية والنبوة والمعاد. ولكن في الحقيقة أن وجود هذه الأفكار والمبادئ في مشروع الدولة الحضارية الحديثة لا يختلف في وزنه وحضوره ودوره وأهميته عن وزنه ودوره وحضوره وأهميته في الحضارة الغربية المعاصرة وهو حضور هامشي لا يُفعّل دوره إلا عند الحاجة إليه في تحقيق الأهداف المادية للحضارة الغربية المعاصرة.
إن فهم الحضارة الغربية المعاصرة على أنها حضارة مادية بحتة هو فهم خاطئ ايضا بلا شك فهذه الحضارة الحديثة أقيمت على أسس انسانية سامية وكانت فكرة المساواة بين بني البشر هي إحدى أهم الأسس التي حركت النهوض الحضاري الأوربي الحديث . فالحضارة الغربية ذات بعد معنوي وعالمي فضلا عن البعد المادي, إلا أن السياسات الخارجية للدول الغربية لم تبنَ على تلك الأسس والأبعاد واكتفت بتطبيقها في داخل مجتمعاتها فقط وأهملت تطبيقها في تعاملها مع الشعوب الأخرى غير الغربية بسبب مصالحها القومية والنزعة المركزية الأوربية أولا والغربية لاحقا. علما أن المصالح القومية والنزعة المركزية الغربية هما محل جدل ثقافي وفكري وسياسي وعلمي كبير في داخل الغرب بسبب تضاربهما مع قيم انسانية أخر قامت عليها الحضارة الغربية نفسها.
النتيجة التي نصل إليها أنه لا مانع من إقامة الدولة الحضارية الحديثة على أسس حضارة معينة هي الحضارة الغربية ولكن مع فهم علمي دقيق عميق للحضارة الغربية المعاصرة وليس كما تعكسه السياسات الخارجية للدول الغربية التي تهدر مصالح أغلبية شعوب الأرض من أجل مصالح عدد من شعوب الدول الغربية. وفي نهاية المقال لابد من أن أحلَّ التعارض بين قولي في بداية المقال أن الحضارة الأوبية مادية بحتة وبين قولي في نهايته انها ذات ابعاد روحية ومعنوية وأخلاقية, لكن هذا التعارض ليس في أفكار المقال بل هو كامن أيضا في الحضارة الغربية المعاصرة فهذه الحضارة تنظر الى الحياة نظرة مادية وترى أن العلم مصدره الصحيح والوحيد هو التجربة الحسية والمختبرية وفي نفس الوقت تؤمن بقيم انسانية راقية وعظيمة كالمساواة بين البشر والحرية والعدل وكرامة الانسان أينما كان وهذه القيم هي قيم معنوية ومصدر معرفتها والعلم بها ليس العلم التجريبي الحسي والمختبري بل هي معرفة انسانية معنوية راسخة في الوجود الإنساني تنبع من روحه وعقله وجوهره الانساني.
ملاحظة: المفهوم المعروض للحضارة في بداية المقال لايعني أنه هو المفهوم الوحيد للحضارة فهناك مفاهيم أخرى لها وسوف أعود لتقييم هذا المفهوم بالقياس الى المفاهيم الأخرى في مقالات لاحقة إن شاء الله تعالى.