فيلم (نباح) للمخرج جمال امين في مؤسسة الحوار الانساني بلندن إستضافت مؤسسة الحوار الانساني بلندن الفنان والمخرج العراقي جمال أمين يوم الاربعاء 4 نيسان 2018 في أمسية سينمائية عرض وناقش فيها فيلمه الروائي القصير الاخير “نباح” وهو من انتاج عام 2018 ،وهو فيلم أجتماعي حديث يناقش ضياع الجيل الثاني من المهاجرين في أوروبا. الاستاذ جمال امين مخرج وممثل سينمائي ، حاصل على دبلوم الاخراج السينمائي عام1981 في بغداد، تنقل بين العراق والكويت والاردن والدانمارك ،صنع الكثير من البرامج والافلام الوثائقية في هذه الدول.عضو اتحاد المخرجين الدنماركيين وعضو اتحاد الصحفيين الدنماركين.حاصل على جائزة مهرجان القاهرة الفضيه للبرامج عام 1997عن برنامج مسابقات عربية ، اخرج عددا من الافلام منها “فايروس” و “اللقالق” و “العتمة الأبدية” ، كما مثل في عدد من الافلام المهمة في تاريخ السينما العراقية منها بيوت في ذلك الزقاق , صائد الأضواء ، العربانة ، الكعكة الصفراء . الفيلم وانطباعات النقاد عنه بالرغم من الصعوبات الانتاجية التي واجهها المخرج جمال امين في انتاج فيلمه القصير “نباح” الا ان الفيلم حضي بانتباه النقاد وكتب عنه عدد من العروض والمراجعات منها القراءة التي قدمها احمد جابر العبودي ؛ قراءة في فيلم “نباح” سيناريو و إخراج جمال أمين أحمد جبار العبودي يتصدى صناع فيلم ” نباح ” لموضوع غاية في الخطورة بدأ يفرض ذاته مؤخراً على حياة الفرد العراقي المهاجر في أوربا ، موضوع يكاد أن يكون مسكوت عنه ، شبه مقموع ، و هو صراع الهويات بين جيلين جيل الآباء ، و جيل الأبناء الذين لا يحملون من هوياتهم المرجعية شيء ، إنه صراع ثقافي – و جودي – لغوي .. الخ . صراع فرضه المناخ السسيوثقافي الأوربي الذي أولى عناية فائقة في فرض نسق أخلاقي و سلوكي لجيل المهاجرين الشباب ، و هذا المناخ آل إلى محو مبرمج للهوية الثقافية العربية ، عبر غياب تام لكل العادات و التقاليد التي تعلو من سلطة الأب داخل فضاء أسرته ، مما جعل سلطة الأب تقوض تماهياً مع النسق الثقافي التفكيكي الذي دمر كل السرديات الكبرى ، و شكك في أي مركزية يمكنها فرض سلطتها على حرية الفرد الأوربي المعاصر . هذا هو المدار الفكري الذي سيدور حوله شكل الفيلم للتعبير عن الموقف النقدي لصناع الفيلم عبر قراءة عمودية نهض بها متن حكائي أطره صراع ساكن بين ثلاث شخصيات محورية ، أب ( جمال ) أستاذاً جامعياً مرموقاً يقترب من خريف العمر يعاني من ثلاث أزمات نفسية حادة ، الأولى هو أغترابه من الوسط الجامعي و اختيار العزلة ملاذاً له ، و الأزمة الثانية هي إحساسه القاتم بفقد زوجته ، أما الأزمة المركزية الثالثة و التي شكلت المحور الأساسي للصراع السايكودرامي لجمال مع ولديه ، شابين ( فتاة – وولد ) ، و الصراع نفسي بامتياز لأنه بين عاطفتين متناقضتين ، الأولى إنهم أولاده يحنو عليهم ، و في ذات الوقت يشكلون عبئاً عليه ، يثقلون كاهله عبر تقويضهم لتراتب السلطة ، حيث تبرز هيمنتهم عليه عبر كل تفاصيل حياتهم ، التي يدعنا الخيار الجمالي لسردية الكاميرا بالولوج إلى أعماقهم ، و تصفح دواخلهم ، و الاقتراب الحثيث من أفعالهم اليومية . و السؤال الأكثر إشكالاً : ماالذي أراد أن يقوله صناع الفيلم عبر تشيد ذلك البناء السردي الذي سنحلل مبناه التتابعي بالتفصيل ؟ إن أي قراءة سريعة للفيلم ستستنطق قول صناع الفيلم ، و غايته الأساسية في نقد تلك المركزية الجديدة التي فرضت ذاتها كسلطة مشوهة داخل أسوار الأسرة ، إنه صرخة مدوية ضد انقلاب التراتب ( الأب / الأبن ) ( الأبن / الأب ) ، صناع الفيلم أرادوا ترسيخ صرخة إحتجاج مدوية على النسق الثقافي الذي آل إلى قلب ذلك التراتب و إعلائه لسلطه الهامش . و السؤال الآخر الذي فرضه علينا صناع الفيلم ، لماذا وسموا الفيلم ب ” نباح ” ، و كأن الفيلم لوح منذ البداية على إنه بناء كنائي صريح ، و نقد حاد للسلوك الحيواني الذي سيمارسه أحد أقطاب الصراع ، و لهذا أعد حسب تقديري الشخصي بأن عنوان الفيلم كان هو البؤرة الدلالية الكبرى التي أراد صناع الفيلم التعبير عنها. 1. ينفتح السرد الفيلمي على لقطة عامة لحديقة تبدو إنها خلفية ، حيث تقبع خلف منزلٍ متواضع في مدينة أوربية ، الكاميرا يبدو عليها اضطراب بسيط حيث تتمايل يميناً و شمالاً و كأنها وجهة نظر ذاتية لساردٍ لا نراه ، لكنه يعلن لنا عن وجوده ، مصحوب بموسيقى فيها حزن قاتم و عميق . 2. ننتقل إلى داخل منزل جمال ( غرفة أبنه ) حيث يرن هاتفه ، يصحو من نومه ليرد على صديقة له يبدو إنه تأخر عن موعده معها ، و أثناء متابعة الكاميرا المحموله لفعل الرد على الهاتف ، تكشف لنا المكان الذي يعبر عن عبثية الشخصية فالأشياء متناثرة ، و علب المشروبات الغازية ، و الحاسوب الذي يبدو إنه لم يغلق خلال ساعات الليل ، هكذا أثث صناع الفيلم عبر إشتغال عفوي لألة التصوير عن نظام علامي أفصح بحدة و بذكاء عن طبيعة الشخصية عبر هذا التقديم السريع من خلال الفعل ، يرتدي ملابسه على عجل ثم ينادي على والده ليطلب منه إصاله الى مكان الموعد . 3. ننتقل لغرفة والده ( جمال ) ليؤكد الاستجابة السريعة لطلب الأبن ، حيث يرتدي ملابسه . 4. يخرج الولد من غرفته في علية المنزل ، و ينادي على والدة بصوت تبدو الحدة واضحة على نبرته ” بابة .. أنت جاهز ” ، في حين يجيب الأب بنبرة فيها ضعف إنساني ووهن كبيرين ” أي بابة أني جاهز ” ، هنا أسس صانع الفيلم عبر تفعيل الممكنات الدلالية لنبرة أداء الممثل على إنقلاب التراتب السلطوي بين الأب و ابنه ، إضافة إلى موقع الأبن المسيطر في أعلى السلم ، و الأب المسيطر عليه في أسفل السلم ، و هذا مكمن الذكاء في استغلال زمن الأستهلال الفيلمي في التلويح بالفكرة الأساسية للفيلم . 5. يخرج الأب من المنزل متجهاً إلى سيارته ، يتبعه الأبن ، و في لقطة بليغة يفعل من خلالها صانع الفيلم عمق المجال ، حيث نرى في مقدمة الكادر من داخل السيارة لقطة قريبة للأب الذي تبدو على ملامحه سيماء الحزن و الشيخوخة ، و الهم ، و في العمق يحث الخطى الأبن خارجاً من باب المنزل ليلج الى فضاء السيارة ، و يعد هذا المشهد المواجهة الأولى بين الأب و ابنه ، مشهد بسيط لكنه في منتهى العمق لخص من خلاله صناع الفيلم الهوة العميقة بينهما ، و كأنه إحالة دلالية سنتلمس تجلياتها في المشاهد المقبلة ، فلا يمكن أن يحتويهما مكان حميمي كالسيارة ، فبينهما هوة إنسانية عميقة بكل معنى الكلمة ، تستمر الكاميرا بمتابعة الولد حتى جلوسه في السيارة ، و من إيماءات وجهه نتصفح منظوره الشخصي تجاه أبيه فلا يمثل بالنسبة له سوى سائق ليس إلا ، يحاول الأب تشغيل السيارة ، و لكن عبثاً ، لا تشتغل يستاء الأبن بطريقة عجيبة و كأن أبيه هو السبب في هذا الخلل الفجائي ، و يبدأ بالثرثرة التي تعيق آذان الأب ، صوتياً عبر انثيال مصحوب بجرس نبري مزعج ، و ضرب حاد بأصابعه على مقدمة السيارة … مما يستفز الأب و يحطم أعصابه ، يثور الأب ” شبيك .. شبيك ” ضارباً مقود السيارة بقوة و حدة ، يهبط الولد من سيارة أبيه و يركلها بقدمه مع سيل من السباب و اللعنات ، و لا يجد الأب أمام كل هذا الأنثيال إلا أن يقول له ” حقير ” هذا المشهد يكثف عبر فضائه الخانق حدة الحالة الإنفعالية بين الشخصيات ، فالأبن ليس سوى كلب ينبح أبداً صوتياً و جسدياً ، هنا تتمثل الدلالة الكبرى لعنوان الفيلم ، و هكذا سيستمر نباح الشخصيات التي تعلن عن تراجعها الإنساني تجاه سلطة الأب المهمشة بامتياز ، يسير الولد متجهاً صوب عمق الكادر ، هنا تدخل موسيقى غربية صاخبة تصبح خلفية لعنوانات تايتل الفيلم لتشكل رمزاً بين ثقافة جيلين مختلفين أبداً بالذوق ، هكذا قدم لنا صناع الفيلم الشخصيات المحورية ، و جسد لنا الوضعية الأساسية ببساطة عالية اشتغلت فيها الكاميرا كسارد عفوي و كأننا أمام فيلم وثائقي بامتياز ، و هذا التمازج الأسلوبي الذي طبع شكل الفيلم بالكامل سنؤجل الحديث عنه في نهاية البناء التتابعي للفيلم . 6. يجلس الأب وحيداً يكتب خاطرة على حاسوبه ، في فضاء معتم يتسيد فيه اللون الأسود القاتم ، هكذا يتوسل صناع الفيلم بتفعيل حدة الحالة الإنفعالية بين الضوء و الظل للتعبير عن العتمة الداخلية للشخصية ، التي تراقبها الكاميرا باهتزاز بسيط وزاوية مستوى نظر ، و كأنها سارد ينظر لحزنه ببرود كبير ، مع صوته من خارج الكادر ” أعد الأيام على أصابعي ، و عليها أيضاً أعد أصحابي و أحبابي ، و في يومٍ ما لن أعد على أصابعي سوى أصابعي ” مع الجملة الأخيرة ننتقل إلى لقطة قريبة تأكيداً على عجز الشخصية عن الإنسجام الإنساني مع الشخصيات المحيطة به ( أبناؤه ) ، و تعمق الموسيقى من الإحساس العميق باغتراب الشخصية و انكفائها على ذاتها في الطابق الأرضي من المنزل ، و ترك أولاده كل في فضائه الخاص ، المغلق في عليته . 7. يشعر الأب ( جمال ) بإرهاق صحي مفاجئ ، ينادي على ابنته ( هنادي ) دون أي استجابة ، ثم ينادي ( هادي ) دون استجابة أيضاً . 8. فالأبن منشغل في عالمه الخاص حيث المخدرات و العبث مع الصديقات في الفيس بوك ، و الموسيقى الصاخبة ، التي تشكل جواً يعزله بالكامل عن عالم ابيه و اخته . 9. يحاول الأب الاتصال هاتفياً بابنته .. لكنها تتجاهل الاتصال ، و تهمله كما يهمل أي اتصال غير مهم تماماً ، منشغلة بالرقص على انغام أغنية غربية صاخبة ، و هذا المشهد هو الظهور الأول للبنت ( هنادي ) لخص من خلاله صناع الفيلم منظورها تجاه والدها ، إنه لا يمثل بالنسبة لها إلا هامش الإهمال هو الاستحقاق الطبيعي له ، هنا مكمن التكثيف و الإيحاء الذي يمتاز به الفيلم الروائي القصير ، و هذا مكمن التحدي على مستوى الكتابة ، و البحث عن المعالجة الفنية التي من خلالها نقول الكثير عن الشخصية بشريط سينماتوغرافي قصير زمنياً عبر توسل صناع الفيلم بحدث يلخص كيان الشخصية مظهراً و جوهراً . 10. يحاول الأب الاتصال بابنه ، الأبن يستجيب لاتصال ابيه ، يسعفه بكوب ماء . الحقيقة إن هذا الحدث يعد مركزياً في بنية السرد لأنه فجر الممكنات التعبيرية للمكان ، حيث أثث صناع الفيلم المنزل كفضاء جامع للشخصيات الثلاث بالشكل التالي : غرفتين في علية المنزل واحدة للولد و الأخرى للبنت ، و غرفة الأب في الطابق الأرضي ، لقد عبر البناء المعماري للمنزل عن الهوة العميقة بين الشخصيات ، كما إن وجود الأولاد في علية المنزل عمق من الثيمة الفلسفية التي أراد تركيزها صناع الفيلم في أذهاننا ، وهي قلب التراتب ( السلطة للأولاد ) حيث يقبعون في موقع يدل على الهيمنة على الأب ، بل وسحقه إنسانياً و نفسياً ، و هذا بحد ذاته إدانة من قبل صناع الفيلم لميكانزم تصميم العمارة التي تمثل منظور السلطة الإجتماعية في أوربا على تعزيز التشظي الأسري ، فتركيب البنية المعمارية للمنزل يمنع أو يحد من ألفة الشخصيات مع بعضها البعض . 11. و في مقاربة ذكية جداً يخلق المونتاج مقارنة بين فعلين : الأول الأبنة هنادي تتحدث بغنج مع صديق لها على الفيس بوك عبر الكاميرا ، قطع نرى جمال يجلس في حديقة عامة مع صديقة له ، ليعزز حدة المفارقة بين جيلين جيل ألكتروني بامتياز التحول التكنولوجي بلد مشاعره ، و ألغى بينه وبين الآخر حدود الزمان و المكان ، و جيل مازال متشبثاً برومانتيكيته الأولى ، يشكو جمال لصديقته أزمته مع الأولاد ، لكنها تبدو كشخصية معادلاً موضوعياً لشخصيته ، تعلن بشكل مضمر عن عجزها في إيجاد حل لأزمته ، و تنصحه بالعودة إلى الجامعة أو الأنشغال عنهم ، و بهذا يلخص لنا هذا المشهد عقم الحوار الإنساني بين الأبن و أولاده ، يبدو هذا المشهد بعيداً عن جو الفيلم القاتم الذي تسيدت فيه المشاهد الداخلية ، إلا إنه يشكل لحظة إنفراج ولو ضئيلة يتطهر منها جمال من أدران أولاده ، و يعلن لها بشجاعة عن استسلامه فهو من جيل أدمن الهزيمة منذ وقت مبكر من حياته ، فهو من جيل عاصر الحروب و الحصارات و الخسارات التي لا تنتهي . 12. في المطبخ يستغرق جمال بغسل الصحون على أنغام فيروز ، و في علية المنزل يجن جنون بنته لأنها تكتشف إن الإشتراك في الأنترنت قد انتهى ، تهرع و بوقاحة و هستيريا مدمن على التواصل الألكتروني مع الآخر ، توبخ والدها بقسوة شديدة لأنه نسى أو تناسى دفع الاشتراك ، يقف إزائها الأب عاجزاً و مبهوتاً من هذا الفعل الغير إنساني تماماً ، فعل حيواني يشتغل فيه صراخ البنت استعارياً كنباح الكلب ، ينتبه الأبن المستغرق في عالمه ، لصراخ اخته . 13. يهبط الأبن محاولاً مواساة أبيه ، بينما تقبع البنت في غرفتها تبكي بحرقة ، و كأنها نادمة ، وفي مشهدٍ بليغ جداً يجلسان في الحديقة الخارجية للمنزل حيث تجمعهما لقطة عامة من زاوية مستوى النظر ، تحافظ الكاميرا على أسلوبها الذي طبع الفيلم منذ بداية الفيلم حيث حركتها المهتزة و كأنها تعبير عن وجهة نظر ذاتية لمراقب يلفت الإنتباه لذاته ، حيث نرى في مقدمة الكادر جذع شجرة مهمل محترق مسود ، و في عمق الكادر يجلسان ( الأب و ابنه ) إن البناء التشكيلي لهذه اللقطة يعبر بحدة عن الموقف الرمزي الذي أراد صناع الفيلم ترسيخه ، و هذا مكمن البلاغة التي يفجرها صناع الفيلم لإعمال عقل المتلقي ليبحث بنيوياً على العلاقة الدلالية بين الدوال المتجلية في فضاء الصورة ، واستنطاقها للوصول إلى الوضع النفسي المأزوم للشخصية ، هكذا يتوسل صناع الفيلم بالمدركات البصرية للتعبير عن البعد النفسي الغائب ، فالجذع المتفحم مثير إستعاري بامتياز على المزاج القاتم لجمال الذي بكى بحرقة بعد اشتباكه مع بنته ، و انهزامه أمام غطرستها ، و توحشها الإنساني و نباحها بوجهه عبر ثرثرة لسانية و جسدية تفجرت من خلالها ممكنات الأداء التمثيلي الذي أجاد مخرج الفيلم تثويره لدى الممثلة . 14. بعد هذه المواجهة الحادة ننتقل إلى مشهد مواجه صامت يتم فيه تفعل اللقطة القريبة بأقصى مدياتها التعبيرية ، حيث تشتغل سيماء وجوه الممثلين لتعبر بصمت عن الموقف العدائي بين أقطاب الصراع على مائدة الطعام ، حيث نتلمس بحدة من خلال التحولات المونتاجية بين الوجوه الثلاث الصراع الخفي بين الأب و أبنه من جهة ، و الأب و ابنته من جهة أخرى ، كما يتلمس سراً خفياً بينهما ينتظر أن يتفجر أمامه ، كما نتلمس حدة الحالة الإنفعالية بين الأخ و اخته ، و بين الأبن و أبيه .. الخ ليكون هذا المشهد في مجمله بناء استعاري عن الخراب الإنساني بين أفراد العائلة الواحدة ، و يحيلنا هذا المشهد عبر معالجته الفنية التي توسلت باللقطة القريبة إلى الوضع العدائي الذي يطبع المجتمع العراقي الذي تنتمي إليه هذه الأسرة ، ليشكل علامة دالة على إن الإتلاف بين هذه الكيانات البشرية مستحيل فالهوة بينهم تتسع حتى وهم في أشد اللحظات حميمية ، و هنا تتفجر أزمة أخرى بين الأقطاب المتصارعة ، حيث يكشف هادي أمام والده في مواجهة صريحة مع اخته بأنه يعلم بغيابها الدائم عن المدرسة ، و انجرافها في علاقة مع أحدهم ، تحاول تكذيبه ، ولكن عبثاً ، لذا تلجأ إلى الأسلوب المضاد في كشف إدمانه ، هكذا يتعرى الأبناء أمام أبيهم في أداء تمثيلي على مستوى عالٍ من التلقائية والعفوية والصدق في تجسيد المشاعر . 15. ويختتم الفيلم باشتباك هادي و هنادي أمام أبيهم عبر صراخ و ثرثرة خاوية لا تنتهي سببها استحواذ هنادي على علبة شراب الريد بل العائدة لهادي ، يستمر الاشتباك و بقوة أم الأب المستغرق في قراءة كتابه ، يحاول إسكاتهم عبر قذف كل ممتلكاته المعرفية المتمثلة بالكتب ، كإحالة مباشرة على عجز كل هذه المدونات على تكوين شخصية قوية مؤهلة لاحتواء أبنائها ، لا يحصل على أي استجابه فالصراخ في تزايد و الأشتباك بالأيدي قائم دون حساب لوجوده ، فلا يمكنه تذكيرهم بوجوده إلا عبر ذلك الفعل الاستسلامي المتمثل بالبكاء المر كفعل يواجه به هذا النباح المقيت ، يتوسل بالبكاء فعلاً يمكنه من خلاله ردم الهوة بينه و بين أولاده ، حيث تمت معالجة هذا المشهد فنياً عبر تفعيل عمق المجال مرة أخرى حيث يتسيد الأبناء في صراعهم الجسدي في مقدمة الكادر ، و الأب يقبع في العمق عاجزاً عن فهم و حل هذا النزاع بين أثنين أعلنوا عن تراجعهم الإنساني . من خلال القراءة المتأنية لهذا التتابع الفيلمي نجد إن تركيب البنية الدرامية ظل أفقياً و في تقديري الشخصي إن البناء الأفقي لهذه البنية جاء تعميقاً لشخصية الأب المستسلم أبداً للاإنسانية أبنائه ، فعلى مدار السرد أصر صناع الفيلم على خلق شخصية غير درامية إطلاقاً شخصية عاجزة عن المواجهة ، شخصية تنظر بحنو لأبنائها الذين استغلوا هذا الحنو و أعلنوا سلطتهم التي لا خيار للأب سوى الإنصياع لها و القبول بالتراتب الجديد الذي فرضه المزاج الإجتماعي في أوربا كما أسلفنا ، و من خلال لقاء الأب مع ابنه ، بعد مشادته مع البنت ، أعلن الأب بأن الأستسلام خيار على وعي تام به فالأب يجب أن يقدم كل التنازلات الممكنة للحفاظ على كينونة الأسرة و منعها من التيه في غياهب الإنفلات التام . أما على مستوى إستراتيجية تركيب الزمن ، فقد كان شكل البناء السردي تتابعياً ، لا يحمل في تضاعيفه حضوراً للذاكرة التي تكسر السرد و تعود به إلى الماضي ، فماضي الشخصيات ( الولد – البنت ) المسببة لمحنة الشخصية المحورية لا يشكل أهمية دراماتيكية بالنسبة لمتن الفيلم ، فالإشكالية معهم بدأت مع نضجهم ، الصراع بدأت تجلياته الأن ، و لهذا نجد إن التركيز على الحاضر زمناً يمثل نقطة البدء باشتباك الشخصيات ، و تحول مصير الشخصية المحورية إلى شقاء أبدي ساعده في ذلك التحولات التكنولوجية التي جعلت الشاب الأوربي المعاصر ينفلت من أي أسر ، كما إن المزاج الإجتماعي و النسق الثقافي يشكل محرضاً للفرد على الإنفلات من أي سلطه ، و البناء السردي مهما يكن نسقه لا بد من أن يتوسل بسارد يشييد معماره ، و الحقيقة إن صناع الفيلم توسلوا بالكاميرا كسارد عليم بكل شيء قادر على الإقتراب الحثيث من الشخصيات خاصة في مشاهد المواجهة بينهم ، و قادر على أن يتموضع بهيئة شاهد على الحدث عبر تأمله بملاحظة طويلة فجر من خلالها ممكنات التشكيل البصري خاصة عن طريق تفعيل عمق المجال ، و مراهنته على إعمال عقل المتلقي على البحث في العلاقات بين الدوال المدركة و البحث عن كل إحالاتها السايكودرامية ، و ما يجعلنا أمام اشتغال فريد للكاميرا كسارد عليم بكل شيء هو قدرة هذا السارد ( الكاميرا ) على أن يكون حرباء يبدل مواقعه و يغير وجهات نظره عبر تحولات التوليف ، و تشبثه بالحركة الطفيفية التي يكاد اضطرابها أن يكون غير محسوس بأننا أمام سارد يلفت الإنتباه لذاته عبر حضوره في قلب الحدث ، متمسكاً بحياديته في انتقاء زوايا تصوير منقادة للأحتمال الفيزيائي ، و يحاول أبداً أن يكون بمستوى النظر ، و الحقيقة إن هذا الإشتغال التعبيري لآلة التصوير من الناحية السردية يفصح بحدة عن السيرة الجمالية لصناع الفيلم و يحيلنا بشكل مباشر على إنفتاحهم على كشوفات السرد في الإتجاهات السينمائية المعاصرة التي برزت في سينما الدول الأسكندنافية ، فنجد شكل الفيلم يتعالق عبر إيقاعه المتأمل في مناقشة موضوع الفيلم بأفلام برغمان ، وولوجه إلى أعماق الذات الإنسانية و الكشف عن محنتها الوجودية عبر جو نفسي قاتم يثير السأم و الملل ، كما إن التقشف الواعي بتفعيل وسائل التعبير السينمائية ، و التشبث الدائم عبر مدار السرد الفيلمي على تجسيد المتخيل في أماكن حقيقية ، و بكاميرا حرة تذكرنا أبداً بقواعد العفة التي أعلن عنها صناع أفلام الدوغما 95 ، و بهذا نكون أمام تجربة سينمائية تعلن عن فرادتها فكرياً عبر البحث في المسكوت عنه في العلاقات الإنسانية لحياة المهاجرين العراقيين في أوربا و اغترابهم الأبدي و ضياع هويتهم الوطنية و الأخلاقية و الثقافية ، و على المستوى الجمالي أثبت صناع الفيلم إنهم على وعي تام بتعبيرية الوسيط السينمائي المتحرر من قيود الأدب و المسرح عبر شفراته الخاصة التي لا تشبه إلا ذاتها ، أما على مستوى الأداء التمثيلي فقد كنا إزاء ممثلون قادرون على تجسيد شخصياتهم المركبة و المحملة بمحمولات نفسية معقدة جداً بتلقائية نفتقدها في تجارب الكثير من صناع السينما في العراق ، أما الصوت فقد كان له حضوراً بليغاً فقد اشتغلت الموسيقى للتجسيم المحنة الوجودية التي يعاني منها جمال الشخصية المحورية ، أما الحوار فقد حمل في تضاعيفه كل المضمرات النفسية للشخصيات ، في حالات كثيرة نجدة يومياً متداولاً لكنه قادراً على أن يحيلنا إلى منظور الشخصيات تجاه بعضها البعض ، إضافة إلى المونولوجات التي كان جمال يرددها مع ذاته كشفت لنا البعد الثقافي المقموع لشخصيته ، كونه بعداً فشل في خلق كيان قادر على المحافظة على سلطته كأب داخل أسوار أسرته . كذلك ما كتبه الاستاذ عبد العليم البناء عن الفيلم ؛ (نباح) فيلم يناقش ضياع الجيل الثاني من المهاجرين في أوروبا حوار أجراه ـ عبد العليم البناء: ليس جديدا على مخرج مثل الفنان المبدع جمال أمين، أن يخوض غمار تجربة حياتية والتماهي معها الى أقصى الحدود، لاسيما حين نعلم أنه قد عاشها بقضها وقضيضها، وذاق حلاوتها ومرارتها، وكان من باب أولى أن يعكسها في فيلم روائي قصيرحمل عنوان (نباح)، الذي يضاف الى سلسلة من الافلام الروائية القصيرة، أو الوثائقية الأخرى التي سبق له أن تصدى لاخراجها، وجميعها تتناول المنفى والغربة والهجرة، وبالاخص الجيل الثاني، وما يعانيه شبابنا العراقي في الغرب، فهو امتداد الى فيلم اللقالق، و ياسين يغني، والعتمة الابدية، وفايروس، وجبار. فيلمه الروائي القصير الجديد (نباح)، اشترك فيه مع السيدة حنان عناد في كتابة السيناريو، وهو من بطولة الحسن النعيمي، ومليكة شيرازي، وشفاء جبر، وجمال امين، وشارك في انجازه طاقم فني ضم الفنانين: مدير التصوير يحيى الحسني، والمونتاج ليحيى الحسني، والصوت لشاكر المدني، والموسيقى موكريان بوبكر، ومساعد مخرج شاكر المدني، والمسؤول التقني وتصحيح الالوان ماجد نصرالله، والاشراف الموسيقي للموسيقار علاء مجيد، والفيلم من انتاج فيلم ارت – غولدماس. يتحدث فيلم «نباح» الذي تبلغ مدة عرضه 20 دقيقة عن عائلة مكونة من أب، وابن، وبنت، يعيشون في بيت واحد في لندن، والابناء مندمجون بالمجتمع الأوروبي، ونرى بأنهم غير متفقين مع بعض، ولديهم الكثير من المشكلات، وبغية الوقوف عند حيثيات هذه الفيلم وصناعته شكلا، ومضمونا، وتمثيلا، وتصويرا، واخراجا، كانت لنا هذه الجولة من الحوار مع مبدعه الفنان المخرج جمال أمين. *ماالفكرة التي ينطوي عليها الفيلم …؟ – هو فيلم اجتماعي حديث يناقش ضياع الجيل الثاني من المهاجرين هنا في أوروبا، من خلال اسرة متكونة من أب وابن وبنت، يعيشون هنا في لندن، وهذه العائلة تعاني من تفكك كبير، وعدم وجود تناغم وإلفه فيما بينهم، وذلك لتأثر الاولاد بقيم الغرب، وخاصة أنهم مندمجون بنحو سلبي جدا، اضافة الى تأثير وسائل السوشيال ميديا على الشباب. * وكيف كانت المعالجة السينمائية للفيلم…؟ – لقد اعتمدت اسلوب القسوة في المعالجة الصورية للفيلم، واعتماد الصدام بين افراد الاسرة، مما يجعلهم غير متناغمين، أو عدم وجود اي احترام فيما بين الأولاد، مما ينعكس سلبا على علاقتهم بالوالد، وهو ذلك الاستاذ الجامعي الذي ربى اجيالاً على مدى 40 سنة من عمله مدرساً في الجامعات، وكذالك التركيز على عدم توازن سلوك الابن هادي، وادمانه المخدرات من دون علم ابيه، وجلوسه الدائم في غرفته، وهذا ينطبق على البنت هنادي التي تمارس كل رغباتها من خلال اللابتوب، وفي غرفتها الخاصة، إنهم أي «الأسرة» يعيشون في بيت واحد، لكن كل واحد منهم يعيش وينغمس بعالمه الخاص. *وما الرسالة التي أردت ايصالها عبر الفيلم …؟ – الرسالة واضحة جدا، وهي أن الهجرة الى الغرب لها مالها من مشكلات، وارتباكات، وانهيارات، لدى الجيل الثاني، حيث يعاني من ازدواجية الثقافتين، وازدواجية المعايير، والقيم، بين البيت والشارع .ان الجيل الثاني هنا في اوروبا يعاني الامرين من قيم البيت وقيم الشارع. *وما خياراتك على صعيد الممثلين ؟ ولم لجأت الى هذه المجموعة من الشباب من دون المحترفين…؟ – لقد تم اختيار الممثل الموهوب والمبدع الحسن صفاء النعيمي، وهو ممثل له موهبة كبيرة على صعيد الأداء، وهو أحد تلاميذي في الورش السينمائية التي عملتها في المركز الثقافي العراقي سابقاً، وهو الان طالب في معهد السينما، ولديه احساس عالي في ادائه للدور. كما اني اخترت الشابة الايرانية مليكه شيرازي في ثالث تجربة لها في السينما، وهي بعمر 17سنة، وكانت معقولة الى حد كبير في تجسيد شخصية هنادي، البنت المستهترة بكل القيم العائلية، وكذالك شرفتنا في الفيلم كضيفة المبدعة شفاء جبر، وكانت قد لعبت دور صديقة الأب، وأنا جسدت شخصية الاب في أول تجربة لي كممثل في فيلم من اخراجي، وقد كنت مسترخيا الى حد الاندماج الكلي بالدور وهذا ماقاله النقاد لي. * وما الذي دعاك لذلك…؟ أهو حبك للتمثيل أم لعدم وجود من يملأ الشخصية أو يجسدها كما ترى؟ – نعم كنت انا الذي قام بدور الاب، وهو دور صعب، وله ارهاصاته وانفعالاته الكبيرة، نظرا لخراب هذه العائلة، ولأني أعيش أرمل من دون زوجة، وعلاقتي غير المحددة مع صديقتي شفاء، كما أني أجسد في الفيلم عدا عن كوني أب واستاذ جامعي، فأنا شاعر وكاتب، ولي تجربة سياسية ونضالية، كل هذه الامور التي اجتمعت بشخصية الاب، جعلتني اتمنى لعب الشخصية، كما ان الجانب المادي للانتاج يجعلني اقوم بمهمات عدة في الفيلم، وهذه الشخصية من الشخصيات التي أحببتها جدا لذا انقضيت عليها. * وهذا يقودنا ايضاً الى السبب الذي دعاك للمشاركة في كتابة السيناريو ، في وقت انت فيه سيد العمل نسبة لقيامك بمهمة الاخراج ؟ – إن السينما المستقلة تعتمد بنحو كبير على العمل بتكاليف بسيطة، وهي كذلك تعد من نوع سينما المؤلف، وهذا النوع من السينما لايتسم بالبهرجة وضخامة الإنتاج، بقدر ما يعتمد على المنحى الفكري للفيلم، إن كاتبة السيناريو، و هي زوجتي الشاعرة والرسامة حنان عناد، والتي كانت زميلتي في الدراسة في قسم السينما، لقد كنت مشاركا لها في كتابة السيناريو، لاني اعجبت جدا بالفكرة، وهي فكرة غير تقليدية بالنسبة لفيلم عراقي مغترب، اذا ما علمنا أن اغلب الافلام العراقية المغتربة تعتمد بنحو كبير على الماضي، والذكريات والانستلوجيا. *بعد كل هذا… ما الذي تراهن عليه في هذا الفيلم؟ – أنا أراهن على فكرة الفيلم، وطريقة ادارة الصراع، وطريقة تفجير الصراع، والصدمة التي يحدثها الفيلم لدى المشاهد، إنني أدق ناقوس الخطر لدى العائلة العراقية المغتربة، وكذلك العائلة العربية، والفيلم رسالة واضحة في أن الغرب ليس فقط الرفاه والجمال والراحة والنقود، بل هنالك ضياع لدى الكثير، من ابناء المهاجرين من الجيل الثاني والثالث. *وما الذي يميزه عن بقية افلامك التي قدمت فيها ثيمات مقاربة ؟ – هذا الفيلم هو ضمن سلسة افلامي الكثيرة الروائية او الوثائقية، وجميعها تتناول المنفى والغربة والهجرة، وبالاخص الجيل الثاني وما يعانيه شبابنا العراقي في الغرب، فهو امتداد الى فيلم اللقالق، والى فيلم ياسين يغني، والعتمة الابدية، وفايروس، وجبار، وهكذا، فان ابطالي هم من الذين عانوا ماعانوه في العراق، وعند هجرتهم أو هربهم الى أوروبا، اصطدموا بضياع الابناء، أي الجيل الثاني من العراقيين، وتلك طامة كبرى لا يحس بها الا من يكتوي بنارها.. * وهل هناك مشاركات مقبلة للفيلم في مهرجانات محلية وعربية ودولية ؟ – لقد تم طلب الفيلم من قبل احد المهرجانات ، لكني لحد الان في مرحلة تصحيح الالوان والترجمة الى اللغتين العربية والانجليزية، وقريبا سأعلن عن المشاركات المقبلة، واكيد سينطلق الفيلم مثل بقية افلامي الاخرى الى العديد من المهرجانات السينمائية. *كلمة أخيرة.. – اقولها لكل العاملين في الفيلم: لقد كنتم مبدعين جدا بما قدمتموه من جهد كبير في الفيلم، وانني أعد الجمهور العراقي بانه سيتم عرضه قريبا، نظرا للكثير من طلبات العرض التي تصلني، ولا يسعني في النهاية إلا أن اشكر جريدتكم الراقية، واهتمامها بالفن والفنانين، وأشكرك أخي وصديقي الاستاذ عبد العليم البناء، لما يقوم به من جهد كبير في متابعة الفن والفنانين.