نبيل ياسين –
اليوم سنة جديدة. أريد أن أخالف القرضاوي وشيوخ السلفية وأهنئ المسلمين والمسيحيين والعالم كله بمن فيهم الليبيين الذين غير القذافي أشهرهم وسنتهم، بعيد رأس السنة الميلادية. الأسباب كثيرة، فأولا أن التاريخ الميلادي هو التاريخ الذي تكتب به أعمارنا وسنوات ولاداتنا وتواريخ شهاداتنا ودراساتنا وصحفنا ومراسيمنا الملكية والأميرية والجمهورية ونتعامل بواسطته مع العالم في التجارة والنفط والميزانيات والسفر وغير ذلك. فلماذا لا نهنئ الناس بعامهم الجديد الذي يؤرخ حياتهم وأيامهم وأشهرهم وسنواتهم؟
وثانيا: إذا كان القرضاوي وشيوخ السلفية لا يطيق بعضهم البعض ويتعارض شيوخ السعودية وشيوخ قطر في فتاواهم ويفتون بقتل أبناء دينهم فكيف نأمل منهم أن يسمحوا لنا بتهنئة المسيحيين (النصارى الكفار) كما يرد في فتاواهم؟
إننا معنيون في أن نحصن حياتنا ويومياتنا وعقولنا وأفكارنا ومشاعرنا من هجمة التخلف والعنف والكراهية باسم الإسلام وباسم حق رجال الدين في رسم معالم الدخول إلى الدكان والحمام وغرفة النوم وقاعة الاحتفال والتدخل في أكلنا وشربنا ومشينا وشعورنا حسب كثير من العقد والأفكار النفسية التي تكره الآخر وتحكم عليه في آخر الأمر فيما إذا كان يذهب إلى الجحيم أو الجنة.
112مليار دولار بدون صحة وبدون زراعة
وإذا كنا نؤرخ ميزانياتنا بالتاريخ الميلادي فان موازنة العراق لعام 2012 ستبلغ 112 مليار دولار بزيادة %36 عن موازنة عام 2011 ولكن بعجز قدره 20 مليار دولار وانه قد تم تخصيص مبلغ 17 مليار دولار للأمن والتسليح.
الموازنة تتضمن: تخصيص مبلغ (20) تريليون دينار لتعزيز الأمن والاستقرار وبناء القُدرات العسكرية و الأمنية..
ومبلغ (11) تريليون دينار عن نفقات التعويضات والديون
ومبلغ (15) تريليون دينار نفقات دعم الشرائح الاجتماعية
ومبلغ (4،3) تريليون دينار نفقات دعم الشركات العامة والهيئات الممولة ذاتيا.
وأوضح انه تم تخصيص مبلغ (570) مليار دينار للقطاع الزراعي.
ومبلغ (5) تريليون دينار للقطاع الصناعي والطاقة
ومبلغ (269) مليار دينار لقطاع النقل والمواصلات
ومبلغ (10،5) تريليون لقطاع التربية والتعليم.
كما خصص مبلغ (4،3) تريليون دينار لإعمار وتنمية مشاريع الأقاليم والمحافظات.
ومبلغ (1،6) تريليون للمشاريع المُتعلقة بالبترودولار للمحافظات المُنتجة للنفط.
وتدوير المبالغ التي لم يتم صرفها عام 2011.
وقد قام فريق اقتصادي أو سياسي عبقري بربط العراق بشروط صندوق النقد الدولي المهلكة والفاسدة، فصندوق النقد هذا أطاح بحكومات وقوض أمما وشعوبا وعوم عملات وطنية ونشر التضخم والفساد ودعم الدكتاتوريات الفاسدة في إفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية ولا اعرف من الذي ألقى عراقنا الغني والذي يدور مبالغ الميزانيات السابقة التي ظلت بلا صرف وظلت طريقها إلى خدمة المواطنين في أحضان صندوق النقد الذي اعترض على تخصيص أموال كبيرة لقطاع الطاقة دون تنفيذ مشاريع استثمارية.
ويعترض صندوق النقد الدولي أيضا على آلية توزيع الأموال على الوزارات والمجالس المحلية، ولعله يعترض في الأعوام القادمة على تخصيص مبالغ لرعاية الأرامل والأيتام، فالشغل السياسي والتدخل في الشؤون الداخلية هو شغل صندوق الدولي.
السؤال هو: هل كنا بحاجة إلى مليارين أو عشرة مليارات من صندوق النقد الدولي؟ اقتصاديا لا بالتأكيد، ولكن المعنى سياسي بحث. والله يستر من الميزانيات القادمة. فصندوق النقد لم يعترض على الفساد ولا على الهدر الكبير لأموال في تخصيصات اقل ما يقال عنها أن بعضها وهمي وبعضها الآخر غير مجد وكثير آخر شخصي أو حزبي. تعالوا نناقش بعض التفاصيل:
هناك غياب واضح لتخصيصات الصحة والأمومة والطفل والشيخوخة. فـ11 مليار دولار للتعويضات أخذت معها صحة العراقيين، ومبلغ 15 تريليون دينار أخذت معها الطفولة والشيخوخة والأمومة. فمصطلح الشرائح الاجتماعية ليس من مصطلحات الموازنات السنوية. فمن هم المقصودون بالشرائح الاجتماعية وكيف ستنفق التخصيصات لهم؟ هل تنفق على شكل (مكرمات) أو شكل(منح) أو رواتب أو مشاريع أو قوانين أو تكريس فساد مالي جديد وعميق. هل ستبنى وحدات سكنية؟ في هذه الحالة لماذا لا تضاف إلى تخصيصات وزارة الإسكان؟ هل تبنى بها مستشفيات؟ في هذه الحالة لماذا لا تضاف إلى تخصيصات وزارة الصحة التي لم تذكر في الميزانية؟ وتصوروا بلدا خربت مواصلاته، فلا طائرات ولا قطارات ولا مترو أنفاق ولا نقل عام يخصص لقطاع النقل والمواصلات 269 مليار دينار وهو الوحيد الذي لم يصل التريليون، هو والقطاع الزراعي الأهم في العراق، والذي صار يفقد تمن الشامية وغماس، وحنطة سهوب وروابي الموصل وأربيل، وتمر البصرة، وبرتقال بعقوبة، وبطيخ سامراء، وكوجة كربلاء ورمان جلولاء، وتين سنجار، بينما يخصص مبلغ 5 تريليون دينار للقطاع الصناعي وهو قطاع ثانوي في العراق في ظل الاستيرادات الفاحشة لكل الصناعات الصغيرة والكبيرة سواء من الصين أو من بلاد الواق واق، أي اليابان، حتى أصبح العراق مقبرة لسكراب الصناعة الصينية وجشع التجار الذين غيروا المواصفات العالمية في ظل غياب حقيقي لجهاز فعال للسيطرة والمقاييس النوعية وهو جهاز كان يعمل بجد وانتظام في الستينات والسبعينات.
ومن رذائل الديمقراطية في بلد عاش عقودا من الدكتاتورية، غياب ثقافة ديمقراطية وفكر حقوقي وإطار ثقافي للعلاقات الوطنية بين السياسيين بحيث يجنب هذا الإطار البلاد من استمرار الأزمات التي تعيق الاستقرار. وفي الفكر السياسي الديمقراطي هناك التقاليد والأعراف، فمن الصعب أن تنشأ أزمة سياسية تؤثر على الاستقرار السياسي في بريطانيا مثلا بسبب عوامل منها أن الطبقة السياسية خريجة فكر مدرسة واحدة فاغلب سياسيي بريطانيا تلقوا تقاليد اكسفورد وكمبردج وبالتالي فان أخلاق هذه المدرسة تحول استمرار الأزمة إلى عار يجلل أكتاف السياسيين ولذلك بعد يومين من أزمة نتائج انتخابات 2010 اضطر المحافظون والليبراليون الديمقراطيون (مع اختلافات سياسية كثيرة) إلى التحالف في حكومة تشكلت خلال خمس ساعات. كذلك تحول ثقة الرأي العام من ناخبين وصحف وأفكار ومنظمات مدنية غير مشتراة من قبل الحكومة أو الأحزاب، بالطبقة السياسية وأنها قادرة على تحمل المسؤولية تجاه المجتمع ، من استمرار الأزمة السياسية. أما الدستور فهو مثل جهاز السيطرة النوعية وضبط المقاييس لا يستطيع سياسي أو رئيس كتلة فائزة أن يقدم بضاعته المغشوشة ويسمح هذا الجهاز بتمريرها.
ما هو غائب أكثر في هذه الميزانية هو الدولة. فالمليارات تصرف لتبقى الدولة بعيدة وتغتني السلطة وتتجبر وتهدر المليارات. وبغياب الدولة لا وجود لمجتمع عراقي في ضمير الطبقة السياسية التي لا تستطيع أن تبني دولة لجميع مواطنيها منذ ثماني سنوات صرفت فيها إذا أخذنا معدل البذخ السنوي للميزانية 60 مليار دولار فيكون لدينا قرابة نصف تريليون دولار ذهبت في الجهات الأربع حيث نقلتها الرياح إلى هناك.
انظروا كم من الضوابط غائبة في عمليتنا السياسية. وبغياب هذه الضوابط فانه لا حق للذين يزعلون حينما نقول(ولاية بطيخ).
كولبير والعيساويان
ولكي نعرف الفرق بين ولاية وولاية فقد اتصلت بأخي الكاتب جبار ياسين في فرنسا وسألته عن كولبير. وتحدثنا، بناء على معلوماته، عن أهمية الثقافة في بناء الدول والمجتمعات وتولي المسؤوليات. فجان بابتيست كولبير المولود عام 1619 والمتوفي عام 1683 كان وزير عام فرنسا لشؤون المالية، وقد عاش أربعا وستين عاما قضى معظمها في خدمة ملك فرنسا لويس الرابع عشر الملقب «الملك ـالشمس» . على عاتقه وضعت أكثر شؤون المملكة، فهو الذي طور التجارة و وضع أسسا لها قانونية و تعبوية كما انه أول من وضع أسس الصناعات بالمعنى الحديث واهتم اهتماما بالغا بالبحرية الفرنسية وأسس أكاديمية العلوم الفرنسية والجمعية الجغرافية و مؤسسة المساحات و خطط مدينة باريس بما يناسب عصره «القرن السبع عشر».
كان رجل ثقة الملك وتدخل لتحجيم قصر فرساي الذي كان ورشة فرعونية في ذلك الوقت. أسس مصانع الحبال والصواري في مدينة روشفور بجانب ورشة صناعة السفن. قام بزرع آلاف الهكتارات بأشجار الصنوبر في منطقة ليلاند قرب بوردو لسد حاجة فرنسا في بناء الأسطول البحري الذي، بعد سنوات، سيلعب دورا كبيرا في توسع الإمبراطورية الفرنسية. أسس الأكاديمية العلمية الفرنسية للتنسيق بين العلوم والاستفادة منها مدنيا وعسكريا. قام بمسح لفرنسا كلها على ضوء منجزات علم الهندسة التطبيقية مما غير كثيرا من المعطيات التي تتعلق بشق الطرق والجداول وحركة الجيوش والأسطول . على ضوء ذلك المسح تغير شكل خارطة فرنسا وصغرت مساحتها آلاف الهكتارت المربعة ، حتى أن الملك لويس 14 قال لكولبير «بإنجارك جعلتني افقد أكثر مما فقدت في حروبي كلها» وقف العلم ضد الخرافة التي كانت سائدة حينذاك من نمط أن مقاطعة بريتانيا الفرنسية قريبة جدا من السواحل الانكليزية مما كان يلعب دورا في الاستراتيجية البحرية.
وخاض كولبير حرب جاسوسية طويلة مع جمهورية فينسيا، من اجل الحصول على سر صناعة المرآة. كانت الصناعة احتكارا لتلك الجمهورية وكانت هناك شروط على العاملين في صناعتها شأن الشروط المفروضة على صناع القنبلة النووية اليوم. لم ينجح كولبير في الحصول على سر الصنعة رغم عشرات الجواسيس ورغم الأموال التي بذلها. إنها حرب جاسوسية حقيقية. كان لذلك علاقة بقاعة المرايا في قصر فرساي التي تضطر فرنسا لشرائها، رغم ذلك فأن كلفة قاعة المرايا اقل من كلفة طلاء الحيطان الخارجية لمدرسة في الشعلة أو البياع
يبني كولبير دولة ويصبغ احد العيساويين أرصفة بينما يتهم الآخر بالإرهاب .
لو كانت ميزانية كولبير بحجم ميزانيتنا ماذا كان فعل؟ السبب هو أن الملك لويس الرابع عشر كان حاكما مطلقا. ومن فضائل الديكتاتورية أن يكون الملك مثل لويس الرابع عشر المشهور عنه قوله (أنا الدولة.. والدولة أنا) لكنه تنازل لكولبير أن يؤسس حداثة فرنسا، أو مثل الإمبراطور فردريك الثاني الذي جعل الدولة فوق الملك وقال (الملك هو أول خادم للدولة) أو مثل روسو الذي قال (الدولة هي الإرادة العامة) أو مثل هيغل الذي قال أن الدولة نتاج العقل. وأريد أن أسأل بالعامية العراقية: لعد شبينا إحنا غاب عنا العقل وغابت الإرادة العامة وغابت الدولة وغاب المواطن؟. ولا أريد أن أقدم محاضرة من محاضراتي عن الدولة فالصحافة ليست منبرا أكاديميا، لكني أقول أن السيادة ليست إخراج المحتل وإنما السيادة هي تحقيق الإرادة العامة لان الدولة تستمد سيادتها من سلطة الشعب، وهذا يعني أن إدارة موارد البلاد تستهدف حماية الشعب وليس تبديد أمواله في ميزانيات تهدر المال العام بتخصيصات غير متوازنة.
يعني من يقبل أن تكون هناك احد عشر مليارا للتعويضات، وأربعة مليارات لتنمية المحافظات والأقاليم؟ ما هو العراق؟ انه بغداد والمحافظات والإقليم. فهل تكفي أربعة مليارات دولار لبناء العراق ونخصص أكثر من أربعة أخرى لدعم الشركات العامة والهيئات الممولة ذاتيا؟ هل يصل حجم هذه الشركات إلى حجم حاجات ثماني عشرة محافظة يسكنها قرابة ثلاثين مليون إنسان؟
إذا كان الكلام حراما فالسكوت شرط الإيمان!
ولكي نفهم بدقة اهتمامات الحكومة نذهب مباشرة إلى مسودة قانون حرية التعبير عن الرأي. استشهد اولا بما قاله الامام علي بن طالب عن حرية التعبير عن الرأي: (ثم اعلم يامالك اني وجهتك الى بلاد قد جرت عليها دول قبلك، من عدل وجور، وان الناس ينظرون من امورك في مثل ماكنت تنظر فيه من امور الولاة قبلك ويقولون فيك ماكنت تقول فيهم) فحق التعبير عن الرأي الذي كان مالك الاشتر يملكه في نقد غيره من الحكام سيجري عليه ايضا وهو حق مشروع ، فحق القول هو مفتاح حقوق الانسان ولذلك اصبحت المادة التاسعة عشرة من الاعلان العالمي لحقوق الانسان ضمير لائحة الحقوق. لكن مسودة قانون حرية التعبير لم تطرح على الناس من دعاة حقوق الانسان والمنظمات الحقوقية والثقافية والاجتماعية لكي تناقشها بل ذهبت الى البرلمان مباشرة. فالمسودة لاتتفق مع فلسفة الامام علي في حق التعبير ولا مع حق الناس في انتقاد مالك الاشتر، واعترض كثيرون على استخدام اقصر الطرق بين الحكومة والبرلمان والتي لاتتجاوز مائة متر. فهناك من يعترض ويقول: (ان القانون يحمل الكثير من البنود التي تقيد الحريات وتخنقها وتعبر بحسب وصفهم عن توجه الحكومة لإقامة نظام دكتاتوري جديد في العراق.) فلماذا تورط الحكومة نفسها في تلقي اتهامات من هذا النوع حين يكون بمقدورها طرح المسودة للنقاش والحوار والاستماع الى المجتمع المدني، المقصود، في نهاية الأمر بحق التعبير عن الرأي والتظاهر السلمي؟
هناك خطأ فادح هو اعتقاد الحكومة واعتقاد البرلمان العراقي انهما يملكان حق التشريع لمصالحهما وليس لمصلحة الشعب والمجتمع. فان تكون منتخبا يعني ان تكون ديمقراطيا. لكن من رذائل الديمقراطية احيانا استخدام البرلمان في تكميم افواه الناس. انني اسأل الجهة التي وضعت مسودة القانون فيما اذا كانت قد وضعت الدستور الذي يحمي حرية الرأي امامها وهي تكتب مشروع القانون وانها حرصت ان لايتعارض القانون مع المادة 38 اولا وثاني وثالثا، خاصة وان هذه المادة لاتحتوي على مصطلح (وينظم ذلك بقانون) الذي يرد مع كثير من المواد الدستورية. فالدستور ينص على حرية التعبير عن الرأي وحرية الصحافة وحرية التظاهر السلمي فنحن لسنا بقانون يهمش الدستور و(يبوش) المواد الدستورية بقوانين ضد الحريات والحقوق المدنية والسياسية والثقافية. واسأل رجال مكتب الرئيس الذين عاشوا في لندن وشاركونا مظاهراتنا السلمية في لندن وكيف كانت لجنة التظاهر تقدم قبل 48 ساعة طلبا للتظاهرة التي تبدأ من الهايد بارك وتمر عبر شارع بارك لين في وسط لندن ثم البيكادلي المزدحم عالميا لتصل ساحة الطرف الاغر الشهيرة وهي تهتف ضد صدام ودكتاتوريته وتطالب بحقوق الانسان، فيما الشرطيات الحسناوات يسرن بمحاذاة التظاهرة التي تعطى اربعة امتار من الشارع تسير عليها لتنظيم سير السيارات التي تتفرج على لافتات المظاهرة وتسمع هتافاتها. وغالبا ما كان العراقيون ينفرجون فيتجاوزون الامتار الاربعة ويعرقلون السيارات فتبتسم الشرطيات ويطلبن الرجوع إلى سير التظاهرة.
وارجو ان لايرتبط هذا التوجه بخرق المادة 17 من الدستور التي تنص على احترام الحق في الخصوصية الشخصية فقد اعلن ان شركة برمجيات امريكية اكدت استخدام السلطات السورية لاجهزتها لمراقبة الانترنيت وتعطيل انشطة المعارضين السوريين. فقد نفت وزارة الاتصالت تزويد سوريا بهذه الاجهزة. لكن المشكلة ليست في نفي الوزارة وانما في استخدام الديمقراطية الوليدة لاجهزة تراقب الرأي العام وافكاره ومشاعره واتصالاته وتطلع على خصوصياته التي ضمن الدستور حق الحفاظ عليها. فشركة (بلو كوت سيستمز ومقرها في شمال كاليفورنيا اعلنت انها باعت لوزارة الاتصالات العراقية اجهزة للسيطرة على الانترنيت. المشكلة ليست في نفي خبر اعطائها لسوريا (حسب تصريح مسؤول في الشركة ان 13 جهازا من اصل 14 بيعت الى العراق وصلت الى سوريا) وانما المشكلة في شراء وزارة اتصالات في نظام دستوري لاجهزة منع الرأي وكشف خصوصيات المواطنين وحقهم في المعرفة والاطلاع. ان استيراد اجهزة سيطرة وملاحقة لمنع حرية التعبير والاطلاع على خصوصيات المواطنين ممنوع دستوريا. ولذلك فان المعركة السياسية في العراق هي معركة دستورية: بمعنى اما يكون هناك دستور لحكم ديمقراطي او لايكون.
واذا بيعت واستوردتها وزارة الاتصالات فكيف تستخدمها ؟ وهل استخدامها قانوني او خارج القانون ؟ لان جميع الاحزاب يمكن ان تكون خاضعة للمراقبة وجميع المواطنين وجميع البنات وجميع النساء وجميع الشباب.
ولذلك على البرلمان ان يولي هذه القضايا اهمية كبرى. لان الرقابة ممنوعة دستوريا، واذا ارادت الحكومة مراقبة الارهابيين فعليها استحصال موافقة القضاء في كل حالة. طبعا سيقول بعض القراء بلهجة محببة( والله انت بطران يا نبيل! عرب وين وطنبورة وين، هو البلد كله بلاقانون والكل يعزف بلاقانون. بالمناسبة آلة القانون تقود الفرق الموسيقية في التخت البغدادي وهو الذي يضبط جميع الالات) ولكن لابد من البطر لتستقيم الامور. اما اذا سكت الجميع وكفوا عن المطالبة بسيادة القانون فسنظل نعيش فلتانا على جميع المستويات.
بصحتكم!
الموضوع مرتبط برذائل وفضائل الأنظمة السياسية. فالصحة هي من فضائل الديمقراطية. وحسب وزارة التخطيط والتعاون الإنمائي، فإن عدد المستشفيات في عموم العراق وصل إلى 224 . ومع أن العدد قليل لكن غياب نظام صحي وشبكة رعاية صحية بقانون ونظام وإدارة وتخصيصات يجعل الصحة في العراق (مرضا) يخشاه العراقيون، خاصة وان المريض، في العرف الصحي السائد في العراق، هو فرد لايستحق المعاملة الانسانية. لكن ماهي المعاملة الانسانية في الطب؟ انها قوانين تجعل الطبيب في خدمة المريض. وتجعل المريض(بطرانا) يطالب الطبيب ببذل مزيد من الجهد في علاجه.
في بغداد ، حسب الارقام الرسمية 81 مستشفى، توزعت أسرتها طبقاً للنظام الصحي في العراق هكذا: 21 ألفاً و449 سريراً للمستشفيات العامة و1284 سريراً لمستشفيات الأطفال و857 لدور التوليد والأمراض النسائية، فيما وصل عدد الأسرة في مستشفيات الأمراض النفسية والعقلية الى 1449 سريراً. وهذا ليس مستغربا. فمرضى العقل والنفس اكثر من المرضى الاطفال واكثر من الولادات . ان العشوائية واضحة في التخصيصات وواضحة في الاجراءات. فصبغ ارصفة ليس اعمارا ووضع بضع نخلات حديدية (كأن العراق بلد الحديد وليس بلد النخيل) ملفوفة باضوية صفراء او خضراء او حمراء هو تشجير. وبدلا من ان تقوم امانة العاصمة بغداد، المليئة بخبراء الغنم، من منع الذبح في الشوارع، فانها تشجع هذه الظاهرة التي كانت ممنوعة منعا اكيدا منذ نصف قرن حين افتتح مسلخ الشيخ عمر واقتصر بيع اللحوم للقصابين على ختمه الذي كان يراقبه موظفو البلدية للتأكد من ان اللحوم صالحة للاكل.
ربما كان جيمس بيكر صادقا حين قال وهو يسلم رسالة بوش الاب اليه لينقلها الى صدام من ان امريكا ستعيد العراق الى القرون الوسطى. وبسبب انعدام المسؤولية وغياب الضمير الوطني وعدم مشاركة الشعب في صنع مصيره، ترك طارق عزيز الرسالة على منضدة في جنيف ليعود العراق حقا الى القرون الوسطى حتى اشعار آخر.
وسجلت عموم المؤسسات الصحية مراجعات تجاوزت 51 مليوناً و834 ألف مراجع في عام واحد. اي ان الفرد العراقي، نسبة الى عدد السكان، يمرض مرتين في العام الواحد. اما عودة الاطباء العراقيين المنتشرين في عواصم العالم فلا تتطلب قانونا يحدد العائدين بعمر اقل من ثلاثة وستين عاما. فالمعارضة السابقة التي تحكم اليوم قضت ثلاثين عاما من عمرها في المنفى، وحين استولت على المناصب العليا حذفت ثلاثين عاما من شباب المعارضين الذين خرجوا وهم في سن الشباب ليعودوا في سن الخامسة والستين فلايجدون لهم مكانا في الوطن.
اغلب المستشفيات آيلة للسقوط ومتصدعة. واغلبها مستشفيات بنيت للاغراض العسكرية في السبعينات والثمانينات. ومن الواضح ان هذه المستشفيات اريد لها ان تبقى على اغراض بنائها فهي تستقبل جرحى الانفجارات والسيارات المفخخة وينام كثير من جرحى الحوادث على الارض. فهل فكرت الميزانية العظمى لهذا العام بتخصيصات حفظ حياة العراقيين؟ام ان صندوق النقد الدولي سيعترض وسيقرر نيابة عنا حاجات العراقيين؟ في حين نجد ان اجهزة الكشف الطبي والتشخيص الحديثة غائبة وماهو موجود منها عاطل عن العمل او معطل لصالح العيادات الاهلية.
من رذائل الديمقراطية انها تسمح لمعارضيها بالكلام والعمل واستعراض العضلات. ومن رذائلها ان يشترك معك جلاد من جلادي النظام السابق في ندوة تلفزيونية فينعى غياب الحريات في النظام الجديد وهو يتحدث ضده بأسوأ الالفاظ ويعتبر نظام صدام ديمقراطيا وانت تقول له ان نظام صدام لم يكن يسمح، على لسان طارق عزيز، بلفظ كلمة معارضة. فكيف الاعتراف بها؟ ومن فضائل الديكتاتورية انها تعتقد انها وحدها صاحبة الحق في الحكم وان من حقها قتل الناس وتكميم افواههم وسرقة حقوقهم واحتكار الاموال العامة وتبديدها على الحروب والسجون والسلاح.
حنين للماضي
واختتم بمايلي: تأتيني كل يوم عشرات الايميلات التي اصبحت شاغل العراقيين وشغلهم ومنها ايميل عن نوري سعيد واخر عن عبد الكريم قاسم وثالث عن عبد السلام عارف ورابع عن صور بغداد في العشرينات وخامس عن صور البصرة في الثلاثينات وهكذا يحن العراقيون الى ماضيهم الذي ماكان زاهرا ابدا ولاسعيدا ابدا ولكنها ذاكرة تهمل تغيير الحاضر وتحن الى ماض تعتقد انه كان ذهبيا. كثيرون منا مشغولون بذكر محاسن الموتى، وبما ان الذين يكتبونها لايعرفون التاريخ ومليئين بالعاطفة والحنين الى الماضي وعبادة الاجداد فان نوري السعيد يقدم اشرف سياسي عراقي، لكن ايميلا اخر يقول ان عبد الكريم قاسم اشرف سياسي عراقي وهكذا. الاطلاقية نظام سياسي وعقلي وعاطفي لايرى الا المطلق. ونوري سعيد مثلا ربما كان في عين من كتب انه اشرف سياسي عراقي كان قبل سنوات سياسيا خائنا وبائعا لمصالح العراق ومثله عبد الكريم قاسم وعبد السلام وغيرهم.
ما هكذا يكتب التاريخ وما هكذا يكون الحنين للماضي.