صادق الطائي
مع مرور كل يوم من أيام الحجر الصحي الذي فرضته العديد من دول العالم جزئيا او كليا، تترسخ القناعة بأن الكارثة الاقتصادية قادمة لامحالة، اقتصادات الدول الكبرى أصيبت بالشلل أو كادت، كل الدول الصناعية الكبرى تسعى لإقرار دعم مالي بمئات المليارات سيتم ضخها لايقاف الانهيار المؤكد الذي ستشهده اقتصادتها عندما تعود للعمل، هذا الامر يبوب ضمن تداعيات كارثة كوفيد 19 الاقتصادية قريبة المدى. أما ما نعيشه الأن من مظاهر المشكلة فيمكننا تلمس وجوده المأساوي في مايمكن وصفها بانها حرب الأسواق.
تزامنا مع التصريحات الاولى لدول اوربا بأنها ستأخذ اجراءات احترازية تتمثل في فرض الحجر الصحي، إشتعلت موجة من هلع التسوق أصابت أسواق الغرب، ظاهرة غير معروفة مسبقا، إذ تعود الانسان في المجتمع الغربي على التعامل ببعض العقلانية مع احتياجاته، ومحاولته الدائمة تقنين مشترياته وفق تخطيط مسبق دون إحساس بالخوف من الشح او الفقدان، فمجتمعات الغرب أصبحت منذ حوالي قرن على أن تكون مجتمعات وفرة، وربما كانت حقبتي الحربين العالميتين هما حقبتا الشح والتقنين الوحيدتين التي فرضت من اعلى هرم الدولة على أفراد المجتمع الذي التزم بها وتفهم تداعيات الحرب على الاقتصاد.
إنعكست موجة الشراء على الاسواق بشكل واضح عندما تركزت المشتريات على بضائع محددة مثل مواد التعقيم والمنظفات وورق التواليت، وبشكل أخف على المواد الغذائية طويلة العمر كالحبوب والمنتجات الجافة والمعلبات، وبالرغم من تطمينات الحكومات للمستهلك، إلا إن موجة الهلع أخذت مداها في الاسابيع الاولى، كما حاول بعض ضعاف النفوس إستغلال حاجة الناس باحتكار البضائع وبيعها باسعار خيالية، ثم إنخفضت حدة الطلب وعادت رفوف الاسواق ومراكز التسوق تدريجيا الى الامتلاء مرة اخرى. لكن المفارقة إن هلع الشراء إنتقل من الافراد الى الحكومات عندما أحست بفقدان سيطرتها على جائحة كوفيد 19 ، وباتت تواجه عجز مراكزها الصحية ومستشفياتها، فأصبحت الحكومات تتهافت على طلب أجهزة التنفس الخاصة بغرف العناية المركزة التي إتضح إن كل دول الغرب تعاني من قلتها في غرف العناية المركزة في مستشفياتها.
في نداء عاجل وملح، أمر الرئيس دونالد ترامب، شركتي تصنيع السيارات العملاقتين “فورد” و”جنرال موتورز” بالبدء بتصنيع أجهزة تنفس اصطناعي، للمساعدة في تخفيف الضغط المتزايد على المستشفيات لرعاية مصابي كوفيد 19. كذلك طلبت حكومة المملكة المتحدة من شركة دايسون نفس الشيء، وحذت الدول الاخرى بطريقة مماثلة، لكن كل هذه الدول تعلم جيدا إن حاجتها الماسة لاتحتمل إنتظار إنشاء خطوط الانتاج وبدء التصنيع وهم في لجة الازمة، لذلك إنهالت طلبات الشراء من مختلف دول العالم على السوق الصينية تطلب منها المساعدة في توفير أجهزة التنفس، يقول لي كاي، مدير شركة بكين أيونميد المتخصصة في صناعة المعدات الطبية؛” لا يوجد بلد في العالم لا يريد شراء أجهزة تنفس من الصين. الآن، لدينا عشرات الآلاف من الطلبات تنتظرنا، المشكلة هي مدى السرعة التي يمكننا بها تصنيع وتلبية الطلبات” .
موجة الرعب خلقت حرب أسواق عالمية من نوع جديد، حربا ذكرت بعمليات القرصنة التي كانت تشهدها طرق التجارة البحرية والبرية في القرون الخوالي، وقد أطلقت بعض الصحف على هذه الحرب اسما ساخرا هو “حرب الكمامات”، فقد اتُهمت الولايات المتحدة “بالقرصنة” بعد تحويل مسار شحنة من الكمامات التي اشترتها ألمانيا لتجهيزالشرطة الألمانية، أذ دفعت جهات سيادية أمريكية مبالغ أعلى من الاسعار الحقيقية لشراء الشحنة وقطع الطريق على دول أخرى فى السوق العالمية، ووفقا لصحيفة “الغارديان” البريطانية تم تحويل مسار شحنة تضم حوالى 200 الف كمامة من نوع N95 إلى الولايات المتحدة أثناء نقلها بالطائرات فى أحد مطارات تايلاند. كما أشار جان روتنر رئيس منطقة غراند إيست الفرنسية إحدى أكثر مناطق البلاد تأثرا بوباء كوفيد 19، إن شحنات كمامات طبية كان يفترض أن تتوجه إلى فرنسا بعد أن تم شراؤها من الصين، قام أمريكيون بشرائها على مدارج المطارات الصينية قبل إقلاع الطائرات لتسليمها.
ومن ناحية أخرى، اتهمت شركة “مولنليك” الطبية السويدية، السلطات الفرنسية بمصادرة ملايين الكمامات والقفازات الطبية، التي استوردتها من الصين لصالح إيطاليا وإسبانيا، وذلك بعد ارتفاع عدد المصابين بالوباء في البلدان الثلاثة. وبحسب صحيفة الاندبندت البريطانية، فقد قامت حكومة التشيك بنهب شحنة مساعدات مرسلة من الصين إلى إيطاليا تحوي 100 الف كمامة طبية، كما أعلنت وزارة الخارجية الإسبانية على لسان وزيرة خارجيتها جونزاليس لايا إتهاما رسميا أدانت فيه السلطات التركية التي استولت على طائرة محملة بشحنة تضم 162 جهاز تنفس لعلاج مرضى فيروس كوفيد 19 الخاصة بوحدات العناية المركزة، كانت فى طريقها من الصين إلى إسبانيا.
تونس من جانبها شكت من عملية قرصنة تعرضت لها شحنة كحول طبي كانت على ظهر باخرة في عرض البحر متوجهة من الصين الى تونس، وتم تحويل وجهة الباخرة الى ايطاليا بالقوة، لكن الشركة الصينية المنتجة للكحول صرحت من جانبها بالقول: إنها حولت” بمحض إرادتها وجهة الباخرة المحملة بالكحول الطبي إلى إيطاليا بعد تلقيها عرضا ماليا أكبر للحمولة في ظل ارتفاع الطلب العالمي على هذه المادة”.
حرب اسواق اخرى تستثمر في خضم أزمة الفيروس الذي يحصد أرواح عشرات الالاف من البشر في مختلف دول العالم، وأعني بها حرب تصنيع وتجارة الدواء، والمثال الابرز هو شركة (سانوفي) الفرنسية المصنعة لعقار الكلوروكين الخاص بعلاج الملاريا، أذ صرحت بعض مراكز الابحاث بصلاحية هذا الدواء كحل مؤقت الى حين الوصول لتصنيع علاج فيروس كوفيد 19، الملفت في الامر السعي المحموم الذي مارسه الرئيس ترامب للترويج لهذا الدواء، حتى قيل في عدد من الصحف والقنوات الاعلامية إن ترامب بات وكيلا اعلانيا لهذا الدواء، فما سر حرب الاسواق وشركات الدواء التي تتاجر بموت الناس؟
بعد البحث والتقصي ظهر إن العديد من الشخصيات المرتبطة بالرئيس ترامب وحتى الرئيس نفسه يودون تحقيق ارباحا مادية كبيرة عبر الترويج لهذا الدواء، إذ تبين بحسب جريدة نيويورك تايمز إن ثلاثة أفراد من عائلة ترامب يملكون حصصا مالية في صندوق يستثمر في شركة الادوية الفرنسية (سانوفي) وهي واحدة من أهم الشركات المصنعة لعقار الكلوروكين، وفي تقرير نشرته صحيفة نيويورك تايمز أشارت فيه الى إن كين فيشر، رجل الاعمال الذي يعد أحد أهم المانحين للجمهوريين ،وهو أحد أهم ممولي حملاتهم الرئاسية وبضمنها حملة الرئيس ترامب، أتضح انه يملك الحصة الاكبر في شركة (سانوفي) .
كذلك ويلبر روس وزير تجارة ترامب، اتضح إن له علاقات واسعة مع شركتي (سانوفي) و(ميلان) المصنعتان لعقار كلوروكين. وتجدر الاشارة الى إن منظمة (ISAC ) التي نشرت الدراسة الفرنسية عن النتائج الايجابية لعقار الكلوروكين الخاص بمرض الملاريا عند استعماله لعلاج فيروس كوفيد 19 والتي يستشهد بها حلفاء ترامب في حرب اسواقهم ، قد تراجعت عن موقفها وسحبت تأيديها لاستخدام العقار في علاج كورونا، لكن ترامب ولجنة المستشارين المحيطة به ما تزال تروج لهذا العقار.
وفي خضم حرب الاسواق لابد من الاشارة الى أن الصورة القاتمة في نصف العالم الغربي، لم تعد كذلك في نصف العالم الشرقي، فأسواق مدينة ووهان الصينية التي إنطلقت منها جائحة كوفيد 19 قد عادت لها الحياة مؤخرا، وأنطلقت الصين مجددا للسير بخطوات أستباقية حثيثة لانقاذ اقتصادها من الكساد العالمي القادم، وبحسب موقع أويل برايس الأميركي، فقد عادت الصين بقوة للبحث عن فرص استثمارية جديدة في قطاع النفط العراقي بعد توقف قصير بسبب تفشي جائحة كوفيد 19، في حين ما زالت الولايات المتحدة تحارب لاحتواء مخاطر هذا الوباء. وبناء على ذلك منح العراق عقدا هندسيا بقيمة 203.5 مليون دولار لمعالجة الغاز عالي الكبريت في حقل مجنون النفطي العملاق في محافظة البصرة إلى الشركة الصينية للهندسة والإنشاءات النفطية. انها مصائب قوم التي ستكون بالتأكيد عند قوم فوائد.