عبد الرحمن محمد علي المولّد –
يُبْنَى الجدلُ على كفاية العقل البشري ، ولا يُعَوَّلُ على الغرائز في إنضاج الجدل الفكري سواء أكان ذلك الجدل ذاتياً أم تعداه إلى الأخر ، أو حتى بين الشعوب ،على تباين معتقداتها وموروثاتها الثقافية والاجتماعية .
ويُشَكِّلُ القصور الجزئي أو الكلي في العقل البشري -عن وعي الذات ومقوماتها ووعي الأغيار الواقفين على الحد الأخر من التناقض أو التجانس مع الذات- ثغرةً ينجمُ عنها نهوض الغرائز بمهامها البدائية . فتهيمن العواطف الساذجة وتسيل الدماء من غير جرم على إسفلت (وولش ). حقاً هذه الصورة ليست اسلامية … وليست دينية … ولا تنتمي إلى أبسط الديانات ذات المعتقدات الساذجة ناهيك عن الديانات الأعظم والأسما !، هاهو ذلك الشخص يقف هناك بكامل بنيته الجسمية شاهراً سكيناً ملتاثاً بالدماء طافحاً بالنقمة والعدوانية في مدينة منحته الطعام والسلام والحرية والكثير من المقومات التي يتعذر أن ينعم بها في بلده فضلا ً عن الحلم بها …
الدين والارهاب :
ليس ثمة رسالة تبدأ بالفعل المعرفي ( إقرأ )ينتهي بها الحال إلى تفخيخ المدائن الآمنة وترويع البشرية ، من بوسطن إلى وولش مرورا بمراكش وانتهاء بصنعاء … هناك ثغرة في التلقي وخلل في المتلقي يتعاضدان في أعماق مشوبة بالعواطف والغرائز فتتحور الرسالة إلى ابعد من التشوه وينداح العنف .
إن المعرفة خطاب العقل وتطويع النزوع وترويض الدوافع الغرائزية الدنيا ومن مغايرة المنطق أن تثمر دماءً ودماراً ….ولعل من العسير الوقوف بعلمية على جذور الانحراف العميق الذي يجرف هذا الإنسان الذي يفْترِض فيه الحس السوى أن يكون حاملاً لبيرق السلام على اعتبار أن المخلِّص هو الوجه المغاير للجلاد …وأن المخلِّص هو نتاج المعرفة العليا التي تجود بها السماء للبشرية قاطبة على يد الأنبياء والحواريين من تلامذتهم وأصحابهم ثم أتباعهم وحملة نبراسهم على مر العصور … في هذه اللحظة يود هيجل أن يقول :لنا شيئاً عن قانون التناقض !؛ إنه يوجز فكرته بعبارة مخيفة إذ يقول: إن كل شيء يحتوي على نقيضة في صميم تكوينه ، وأنه لا يمكن أن يوجد إلا حيث يوجد نقيضه معه..وهَبْ أنَّا سلمنا بهذه المقولة الصقيلة على ما فيها من جاذبية … كيف نقنع النحل بسمية الرحيق الذي تتعهده منذ زمن فتنفث فيه ما أُوتيتْ من وحي وتحيله إلى ملذة وشفاء للأنسان ولغيره من الكائنات ؟ إن مبدأ التناقض هذا لا يقره أرسطو بل يؤكد على نفيه وأن كل شيء هو ذاته مع استحالة أن يكون غيره إن كل شيء قائم بذاته ولا شيء آخر.
غير أن الظاهرة تستفحل لتخرق طرفي الزمان والمكان غير معتدة بالحد الجغرافي والتصنيف القومي والإقليمي؛ مع أنها تجاهر بالعداء لجنس وديانة ما إلا أنها خارج التنظيرات – وفي سياق الأحداث – لا تحقق سوى الجُرْم الذي يستوى فيه الجميع من الطفولة إلى الكهولة دون التحقق من الهوية العقائدية أو القومية ففي المذبحة يستوى المسلم والنصراني واليهودي والبوذي واللاديني إنَّه الجرم يعمم الفجيعة .. سوى أنَّه لا يشبه الجرم المرضي ومن يحاول قياسه بأحداث المأفونين عند اقتحام مدارس الأطفال أو طلبة الجامعة فقد جانب جادة القياس الرصين؛ فليس الإرهاب العقدي في هيئته المشوهة هو الإرهاب المرضي ،ثمة تباين جلي، وأخطر مؤشرات هذا التباين أن الأول ظاهرة بينما الثاني طفرة ، هذا في البعد الإجرامي أما في البعد الاخلاقي فإن الثاني يمكن تقبله من حيث هو نهاية حتمية لحياة مجرمٍ أو سلوك منحرفٍ تحت تأثيرٍ عضويٍ أو نفسيٍ …أما ألأول فحدثٌ صادمٌ يتعذر تقبله لأنه يمثل النقيض لهوية مقترفه على فرضية أنه مصدر للخلاص ومنقذ من الجريمة ويتوخى منه العالم أن يبث التسامح ويمد للحائرين يدين تفيضان بالنور لا بالعبوات الناسفة ..!
إن منابر الإسلام في الغرب مواقع لانطلاق الإشعاع الحضاري والروحي والقيمي تلك المنظومة المثالية التي يزهو بها المسلم . لكن هناك بين الفينة والفينة من يعتلي تلك المنابر…فينحرف بها إلى إذكاء كوامن البغضاء نحو الأخر فتتقد براكين العنف في نفوس لم تع ماهية الإسلام ناهيك عن حقيقة الأديان ومحور رسالة الأنبياء وعلاقة الإنسان بالله جل جلاله في السماء … هؤلاء الأشقياء الواغلين في الغواية يجرح الندم أفئدتهم بعدما يأزف الأوان وتُتْخم الشوارع بالعويل والدخان والدماء …
قوة السراب !
إن الحس الأخلاقي للبشرية يناهض خط الإرهاب سواء أكانت بواعثه انحراف في فهم رسالة الأديان أم كان سلوكاً إجرامياً مرهوناً بأثر نفسي أو عضوي …بيد أن هذا الحس الأخلاقي غير كفيل بالتصدي للظاهرة ، وما من سبيل للاقتراب من منابع الدواء سوى بالاقتراب من مكامن الداء … لابد من الانصات إلى العليل والحوار معه دون تجاهل أو اقصاء ودون مراسم احتقار أو ازدراء… إن العزلة النفسية التي تصاحب احتقان العليل بدوامة التضليل تعزز انجرافه نحو انفاذ جريرته ، قد لا يوقف الحوار اندفاعه لكنه سييسر اقتراح دواء للأخرين الذين لم يبلغوا أخر نقطة في مشارف الهاوية حيث لا شيء يعود من هنالك مطلقاً… ولذا مما يمكن اقتراحه في هذا الصدد يوجز في سياقٍ شَرطيٍ غير ملزمٍ لأحد ( كي نوقف الارهاب لابد أن نعرفه ونحاوره ونصغي إليه جيدا.) ينبغي أن لا ينظر إليه نظرة السراب ..!؛وحتى السراب له قوته الخارقة ولمن لا يعرف فإن قوة السراب تكمن في قدرته على تبديد ما تبقى من طاقة الظامئ فيختصر رحلة الفناء