هذه قراءة في كتاب للباحث يحيى اليحياوي، صادر عن دار إفريقيا الشرق، سنة 1999، والتي أنجزتها سنة 2007. وتعميما للفائدة أضعها بين أيدي القراء الأعزاء. فلا معنى لنص يبقى حبيس الرفوف أو الحواسيب.
الكتاب من الحجم المتوسط ويقع في 223 صفحة .
يتكون من أربعة محاور رئيسية، تتقدمهم مقدمة وتقديم، وتذيلهم خاتمة عامة وقائمة بمراجع البحث و لائحة بالجداول الواردة في البحث.
يحاول الباحث تشريح وتوضيح أبعاد ظاهرة العولمة المختلفة .
ينقسم المحور الأول المعنون” بإشكالية العولمة بين واقع الحال وتشكل المفهوم” إلى فصلين، أحدهما يرتبط بتحديد مفهوم العولمة، بينما الثاني يجتهد في مقاربة واقع حال العولمة .
أما المحور الثاني الذي يتناول “العولمة بين منطق التحالفات القطبية وتطلعات الشمولية”، فيتجزأ بدوره إلى فصلين:
1- الاقتصاد العالمي بين خطاب العولمة وواقع التمركز.
2 – جدلية العولمة والتكتلات الإستراتيجية.
في حين يتضمن المحور الثالث ” جدلية العولمة والتكنولوجيا أو إشكالية القرية الكوكبية” فصلين آخرين يسلط أولهما الضوء على العولمة وطفرة الموجة الثالثة، في حين ثانيهما يتحدث عن الإنترنيت، نموذج الشبكةً “العولمة”.
أما المحور الرابع والأخير المعنون ب: “في العولمة الثقافية والديمقراطية : ديمقراطية السوق وإشكاليةٌ الفكر الواحد”، فيتمفصل إلى فصلين يتناول الأول منهما ” ترابط العولمة وديمقراطية السوق”، والثاني يعرض لفكر العولمة أو إشكالية الفكر الواحد.
وإذا كان الكتاب يحاول أن يوضح أبعاد ظاهرة العولمة المختلفة، انطلاقا من تحديد مضمونها، مظاهرها وآليات اشتغالها وما تحمله من تحديات على عموم شعوب العالم، فسأعمل قدر المستطاع على بسط جزء من هذا المجهود الكبير لاستخلاص النقط التي أعتبرها أساسية فيه ومحاولة نقد بعض المفاهيم والرؤى التي تصب عادة في ما تحاول العولمة تكريسه وفرضه بوسائل شتى. و لعل أول شيء يستوقف القارئ هو نوع من الارتباك عندما يدقق في مقدمة الكتاب. فالكاتب يجزم بأنه “لا نطمح من خلال هذا البحث إلى طرح بديل عن العولمة الزاحفة” ص13 ، في حين يقول “ركزنا، في الخاتمة العامة، على ما نراه بديلا للعولمة الناشئة” ص 14.
Ґ العولمة بين المفهوم وواقع الحال:
1- إشكالية المفهوم:
بداية لابد من التأكيد على أن البحث عن مفهوم شامل وموحد لمفهوم العولمة سراب وعمى إيديولوجي. ففي زمن الصراعات الاجتماعية يستحيل الإجماع حول مفهوم معين لأن المفاهيم النظرية جزء من الصراع الاجتماعي.
الجهاز المفاهيمي يصطف إلى هذا الجانب أو ذاك، أو بالأحرى لكل طبقة اجتماعية جهازها المفاهيمي الخاص. إذن من الضروري لا الحديث عن “عولمةٌ”غامضة أو شمولية بل التدقيق في مضامينها ومحتوياتها. وأعتقد أن الكاتب بتحدثه عن “العولمة” مجردة عن أي تحديد يساهم في استمرار الضبابية الفكرية التي ينتقدها ويرفضها.
ولأن السيد اليحياوي مؤمن “بالموضوعية” (كما تؤسس لها نظريات العولمة)، فهو لم يفتأ يعرض مضامينها لدى عدد مهم من الكتاب ورجال الاقتصاد لدرجة أنسته تحديد تصوره الشخصي لماهية “العولمة”. ولئن ركز على تمظهرات”العولمة” في بداية الأمر، فإنه انتقل إلى تحديد وصف الظاهرة وتفكيك عناصرها. وهكذا يعتبر الكاتب “العولمة إذن، بقدر ما هي تجسيد لتاريخ الرأسمالية في مرحلتها الشمولية، بقدر ما هي امتداد لمنطقها، لرهاناتها و لتناقضاتها،… فقد حولت الرأسمالية من مجرد رأسمالية تجارية أو صناعية، إلى رأسمالية كوكبية عابرة للحدود، وشمولية الانتشار”﴿ ص 29 ﴾.
ولا يسعنا هنا إلا أن نتساءل عن السر في هذا التحول، وهل هو معطى جديد أم أنه جين من جينات الرأسمالية التي جاءت لتكسر الحدود والحواجز.
إن الجزم بأن “النظام العالمي الذي يبشر به عهد العولمة لا يخرج… عن إطار الدعوة لسيادة قيم الليبرالية و تعميمها وتبنيها واعتمادها على المستوى القطري مع التأسيس لها على المستوى العالمي”( ص 30)، لا يمكن اعتباره اكتشافا عبقريا. فالرأسمالية في زمن الاستعمار المباشر سعت إليه وبأبشع الوسائل، لكن أمام مقاومة الشعوب لهذا
المد طورت القوى الاستعمارية آلياتها و أشكال حربها، واعتمدت تارة على أدوات أكثر ” تحضرا” (ترسانة من وسائل الإعلام و التواصل)و تارة أخرى وسائل وحشية وأكثر فتكا ( حروب الاستعمار الجديد ).
وإننا نتفق أشد الاتفاق مع رمزي زكي الذي يقول “إن الليبرالية الجديدة إنما هي عبارة عن رؤية اقتصادية واجتماعية وسياسية، هدفها الرئيسي الدفاع الأعمى عن مصالح أصحاب رؤوس الأموال إلى الحد الذي دفع بعض أنصارها للقول بأن حق الملكية له الأولوية على أية حقوق عامة أخرى بما فيها حق الحياة”. (ص33 )
إذ مربط الفرس هو التشبث الأعمى بحق التملك وتسخير جميع الأجهزة والأدوات المتاحة للدفاع عن هذا الحق، حتى لو كان الثمن تجويع شعوب وإبادة أخرى.
2- واقع حال العولمة الليبرالية :
يعتبر الكاتب العولمة “تكريسا لحيوية الشركات الكبرى وتقليصا لقدرة الدول والأمم على مجابهة مدها ومن ثمة تهميشا لتطلعات أمم وشعوب في التنمية والتقدم في ظلها” (ص39 ).
ولعل المثير للاهتمام هو كون الكاتب نفض الغبار عن مجموعة من المفاهيم التي شكلت في حينها ثورة مفاهيمية ساهمت الآلة الإيديولوجية الرأسمالية في تمييعها ومحاربتها. فنجد الكاتب يتحدث عن التمركز الشديد لوسائل الإنتاج، عن تزايد وتعاظم دور الرأسمال المالي، عن اكتشاف دور الدولة كجهاز في أيدي الرأسماليين، إظهار الليبرالية لوجهها الحقيقي كقوة متوحشة لا تهتم إلا بتزايد وتنامي أرباحها، حتى ولو كان الأمر على حساب أرواح الملايين من أبناء البشر ……الخ.
إن الكاتب على حق في حديثه عن المؤسسات الدولية حين يقول “إن جل هذه المؤسسات تنتمي وتشرب من مدرسة فكرية واحدة مدرسة اقتصاد السوق الليبرالية الشاملة”(ص56).
فممارساتها على أرض الواقع تؤكد على اصطفافها إلى جانب أصحاب الرأسمال (و ما مخططات التقويم الهيكلي التي يفرضها صندوق النقد الدولي إلا خير دليل على سعيها إلى إغناء الأغنياء وتفقير الفقراء).
العولمة بين القطبية والشمولية : -II
1-الاقتصاد العالمي بين خطاب العولمة وواقع التمركز:
يجزم الكاتب عن حق بأن “خطاب العولمة الذي مررت له الشركات المتعددة الجنسيات ودولها المحلية وتبنته المؤسسات الدولية العالمية قلبا وقالبا، لا يعدو في حقيقة الأمر كونه خطابا مؤد لجا أية أدلجة، أحد قوامه الأساسية إشاعة قيم السوق والليبرالية الجديدة ونظام التجارة “الحرة” (ص64). ولعل توسع الخطاب وتضخم عدد المروجين له ساهم إلى حد كبير في اختراقه لعدد كبير من الميادين.
وإذا كانت شعارات “تداخل الاقتصاديات الوطنية وتشابكها”(ص 65 ) وبالتالي “ضرورة تفتح بعضها البعض عبر إزاحة العراقيل وتكسير القوانين والتشريعات السائدة” (ص64 ) هي حصان طروادة في معركة تطويع الشعوب، فان الوقائع العنيدة تثبت بجلاء أن النتيجة لم تكن سوى التركيز والتمركز الشديد إن على المستوى التجاري والاقتصادي (ص66)، أو على المستوى التكنولوجي والعلمي ( ص 72)، أو في المقام الأخير على مستوى الفاعلين فيه (ص80).
فالشركات الكبرى أصبحت مالكة السلطة الحقيقية لدرجة اضمحلت معها قدرة بعض الدول على المجابهة و الاستمرار. “و الواقع أن تزايد دور هذه الشركات و تعاظم نفوذها العبر- وطني قد جعلا من مفهومي السلطة السياسية والاقتصادية محط تشكيك عميق ومادة مجادلة حقيقية وصلت إلى حد مطالبة “الليبراليين الجدد” بإلغاء الدولة”(ص 80).
و ما دامت هذه الدول لا تستطيع التأكد من مدى احترام الشركات لتعهداتها، و ما دامت هذه الدول لا تستطيع مراقبة شيء يذكر في اقتصاد معولم، فإنها لا تفتأ تخضع لقواعد اللعبة الجديدة: أن تتواطأ مع هذه الشركات.(ص83)
2- جدلية العولمة والتكتلات الإستراتيجية :
فرضت النتائج الكارثية للعولمة على رأسماليي بعض الأمم البحث عن صيغ لمواجهة الرأسمال الاحتكاري الكبير وتدابيره الحمائية الجديدة ( نظام التعويضات المقدمة لمزارعي القطن بالولايات المتحدة الأمريكية مثلا ، أو للفلاحين بفضاء الاتحاد الأوروبي نموذجا ) . وهكذا سعت بعض الدول لتشكيل اتحادات جهوية غالبا ما تمتح من الاعتبارات التاريخية والثقافية أسس تكوينها . فبقدر “تراجع معايير التدويل وتعدد الجنسية وأدواتها ، وبقدر تقدم معايير مرحلة العولمة وأدواتها ، وبقدر صعوبة انقراض السابق وانبعاث اللاحق ، وتعقد الانتقال من مسلمات القديم إلى الواقع الجديد.
ولربما لهذا السبب وفي خضمه تتكرس فكرة التجمعات الجهوية كضرورة قصوى لتمهيد الانتقال وكوسيلة مثلى للحيلولة دون تعذر تجسيده”.( ص92)
ولئن كانت الشركات تعمل داخل فضاءات جهوية فان ذلك لا يعني إهمالها للبعد الاستراتيجي، بل نجدها تعقد تحالفات محددة وذات غايات واضحة : المزيد من الاتساع والانتشار .
وهكذا صارت الشركات موضوعا للدمج أو للاستيلاء بنسب عالية (ص98).وهو ما يتم دون مراعاة للجنس أو الجغرافية بل نجد المثلث الاتحاد الأوروبي ، اليابان ، أمريكا هي الدول الأكثر حضورا في هذا الباب. (ص 99)
إننا نتفق مع الكاتب في قوله “العولمة كظاهرة ناشئة إنما هي قديمة في بعض سماتها وحديثة في بعضها الآخر …و الظاهرة، فضلا عن ذلك ، تبقى صعبة المقاربة لا بحكم تعقد وتعسر ولادتها نهاية هذا القرن أو تشابك العوامل الفاعلة فيها فحسب، ولكن أيضا على اعتبار تداخل المحلي والجهوي فيها بما هو عالمي وشمولي ، وهذا لربما هو ما يجعلها سهلة التداول كخطاب ، عسيرة الترجمة كممارسة ، لمن صعبة ، التناول والمقاربة كواقع مستقر” (ص109).
جدلية العولمة والتكنولوجيا : -III
1- أبعاد تزامن العولمة والطفرة التكنولوجية :
يعتبر الكاتب “أنه لم يكن للعولمة أن تتكرس وتتجذر قلبا وقالبا، وعلى قاعدة عالمية لولا توفر أدوات ووسائل التكنولوجيا الإعلام والاتصال” (ص118) ، ثم يتابع بالقول “فبفضل هذه الأخيرة ، وبواسطتها أيضا ، سهلت عمليات إنتاج وتوزيع وتنقل السلع والخدمات على نطاق شمولي (ص118) ( التشديد من عندي ). في حين يعرف الجميع أن الوسائل التكنولوجية الحديثة تم اكتشافها منذ سنين خلت لكن استعمالها ظل حبيس الأنظمة العسكرية والمخابراتية. هنا تعود مسألة البعد السياسي وعلاقته بالتكنولوجيا والاقتصاد لتطرح نفسها بشدة. إن الكاتب يرى العولمة مكسرة “الاحتكار والمركزية والتقنين” عبر التكنولوجيا (ص121 ). وهو ما يجعلنا نتساءل عن موقع التمركز الشديد والأدلجة التي جعلها الكاتب عصب طرحه لمسألة العولمة؟
العولمة الليبرالية تعتبر “أن المجتمعات…أصبحت مرتبطة- إلى جانب ارتباط الاقتصاد و المال- بالأدوات و الشبكات حيث المنطق الشمولي هو السائد و الليبيرالية الشاملة هي المحددة ، ولا “يحق” لأحد أن يفسد تنافسية الشبكة ومرونتها (ص124 ).
إنها النفي الصريح لحق الآخر في الاختلاف والوجود. لحق الآخر في الحفاظ على النير من ثقافته وتاريخه.
إنها تعليب للفكر، للإنسان وللطبيعة ككل.
غير أن نقط الضوء الكثيرة تتوهج في مواجهة هذا الغول الزاحف، منادية بحق استغلال ثمار الحضارة الإنسانية وبحق الحياة الكريمة لجميع الأفراد بلا استثناء.
2 مرتكزات “المجتمعٌ الكوني” زمن العولمة :
إنها مرتكزات أراد لها الخطاب السائد لا أن تكون بديهيات لا طائل من الجدال حولها بل صنفها ضمن مقدساته وحرم المزايدة بشأنها (ص129).
وإجمالا يمكن القول أن مفاهيم : اقتصاد السوق – الحرية الفردية – المبادرة الخاصة صارت الثالوث المقدس الذي يسبح بحمده كل الراغبين في نيل رضى الشركات الكبرى والأنظمة الراعية لها. كما أن مفاهيم الدولة – الإيديولوجية الاحتكارية –المركزية التنظيمية صارت بمثابة الطاعون الذي يفر منه كل الراغبين في جلب الاستثمارات الأجنبية و التي غالبا ما تتم على حساب الأفراد والأرض .
التنافسية – المرونة- الخوصصة – اللاتقنين والتحرير دعائم خطاب مقدس لايقبل الجدال ولابد من التسليم بها والسعي نحو تعميقها ” وإشاعة نورها ” (ص137).
يقدم الكاتب الانترنيت كنموذج للشبكة “المعولمة” ويخلص إلى القول ” إن الشبكة بقدر ما تتطور باتجاه الجماهيرية بالدول الكبرى (تكريسها في المدارس و الجامعات و غيرها) بقدر ما تشتد نخبويتها في باقي دول العالم ، ويزداد تمركزها بتمركز الثروة والسلطة والمال” (ص 145).
والأدهى من ذلك أن جل ما يقدم على الشبكة يدخل في خانة تشجيع قيم السوق ومحاولة لجم أي استغلال ” إنساني” لهاته الوسيلة التي تؤكد مرة أخرى الوعي الشديد للشركات الكبرى بالدور الكبير الذي يمثله الإعلام والاتصال في تشكيل العقليات والأفكار. فلا يمكن أن نتحدث عن ديمقراطية الإعلام أو جماهيريته في حين تتحكم حفنة قليلة من مالكي الرساميل في توجهاته ومضامينه. إنه الوجه الآخر للتمركز الشديد الذي حملته العولمة الليبرالية الزاحفة.
– العولمة والثقافة والديمقراطية : IV
1- ترابط العولمة وديمقراطية السوق :
إن العولمة ، برغم طابعها الاقتصادي المحض وتوجهها الكوكبي المتصارع ومحدداتها اللبيرالية الخالصة وتزامنها وظواهر مشجعة لها، مكرسة لتطلعاتها ، لا تنحصر فقط فيما هو اقتصادي ومالي وتكنولوجي، بل تتعدى ذلك إلى ما يرتبط وأشكال تنظيم المجتمع ووسائل تسيير “الشأن العام” وطرق توزيع “الرأسمال الرمزي” بين الأفراد والجماعات.(ص163)
فلم يعد الاحتكام ، نتيجة ذلك ، للسوق ” كفضاء” لتوظيف الإمكانيات المادية واللامادية المتوفرة فحسب، بل تعداها ليشمل تحديد نمط التنظيم والسلطة ” الواجب اعتمادها”(ص163). فالتاريخ لم يشهد تداولا لمصطلح سحري عادة ما يقدم كمفتاح لكل الأزمات: الديمقراطية. إنها الضرورة ، الحتمية أو لنقل القدر ﴿قدر حملته الشركات الكبرى غازية الأسواق ومكسرة الحواجز﴾. فقد أصبحت مرادفة للتطور، الحضارة، الحداثة وأخيرا للتنمية لكن دون تحديد لماهيتها الاجتماعية ولمدى مطابقة الشعار للواقع العنيد.
إنها ديمقراطية السوق بما يعنيه ذلك من تنمية الموارد المالية على حساب الإنسان، البيئة، الحضارة و التاريخ.
إن الكاتب يقيم نوعا من التناقض بين الدولة / الأمة وديمقراطية العولمة ﴿ص165﴾، في حين نعتبر ذلك النتيجة الطبيعية لمسار تشكيلة اجتماعية جعلت السوق محركا لها والمبادرة الفردية وقودا لذلك. “العولمة المالية قد خلقت لنفسها دولتها الخاصة بها، دولة عبر وطنية تتوفر على هياكلها وشبكات تأثيرها ووسائل عملها الخاصة”﴿إناسيو راموني- أورده الكاتب ص166﴾.
وإذا كان السيد يحيى اليحياوي يرى أن “العقد الاجتماعي الذي ارتكزت عليه –ولعهود طويلة- إشكالية المصلحة الوطنية لم يعد مبنيا ولا مرتكزا على المصلحة العامة بقدر ما تحول عنها إلى خدمة المصالح الخصوصية، مصالح الفاعلين الجدد وفضاءاتهم”(ص166)، فإنه يقفز بذلك عن مفاهيم حددها سابقا حول ميزان القوى، تراجع أداء النقابات وتنظيمات الأجراء. فما ينعت بالعقد الاجتماعي ليس سوى تعبير عن واقع حال الصراع الاجتماعي في مرحلة تاريخية معينة. فغلبة الشركات الكبرى جعلها تفرض تصوراتها وشروطها على أرض الواقع ﴿ديمقراطية السوق المصاغة على مقاسها ومقاس مصالحها الخاصة ﴿ص 168 ﴾.
فمن لا يملك لا مواطنة له، ومن لا يستهلك لا مواطنة له ، ومن لا يخضع ويتكيف ومنطق السوق لا إمكانية له في التملك والاستهلاك، ولا وسيلة لإنقاذه وخلاصه ﴿ص169 ﴾.
أصبح شعار “دعه يفعل، دعه يمر” ملهما للبيرالية الجديدة و”مصدر” تفوقها على كل معطى أو اعتبار أو قيمة أخرى. إن مفهوم السوق وآلياته أصبح قادرا على إخضاع كل أشكال السلط السائدة لعقليته وعقلية الفاعلين فيه ﴿ص 175 ﴾.
2- في إشكالية الفكر الواحد:
يؤكد الكاتب عن حق أن زمن العولمة والشمولية … لم يكرسا “لقيم” السوق و”عقيدته” فحسب، بل أيضا لنمط الفكر والتفكير الذي “يجب” على الدول والاقتصادات اعتماده وتبنيه( ص187 ﴾.
العولمة لا تؤمن إلا بالفكر الواحد، المعبر عن مصالح مجموعة من القوى الاقتصادية، مصالح الرأسمال الدولي بالخصوص ﴿ص188﴾. ولا تؤمن بالتفكير الحر بل تتصدى له عبر وسائل وأجهزة عدة ﴿مراكز البحوث والجامعات والمؤسسات والمعاهد مثلا ﴾.
إن “الفكر الواحد” هو الذي من شأنه ﴿من حقه يقول البعض ﴾أن يوجه صانعي السياسات الاقتصادية ﴿في وحدة روافدها ﴾ و “ينير طرق الأسواق” ﴿في كونيتها﴾ ويحدد “اختيارات” الدول والأمم ﴿في تجاذبها ﴾ ويكون الإطار العام لتمثل الأفراد والجماعات” ﴿ص193﴾.
إنه قدر الشعوب ، الحقيقة الوحيدة والمرجعية المثبتة؟؟‼
من المؤكد أن هذا الوهم الذي تطبل له وسائل الإعلام المعولمة لا يخرج عن دائرة الهجوم الذي تشنه الشركات الكبرى ضد من يحاولون إعطاء العولمة بعدا و مضمونا مغايرين.
الفكر الواحد ابن شرعي لمنطق السوق ولتعاظم قوانينه. إنه نتيجة لكل أشكال الدعم الحكومي منها والرسمي، غير الحكومي منها والخفي، ولم يكن بمقدوره الانتشار الواسع إلا بفضل ما استجد من تكنولوجيات دقيقة، وما اعتمد من تطبيقات لها لا على مستوى التجارة فحسب، ولكن أيضا على مستوى الثقافة والأفكار.
3- المنتفضون ضد “الفكر الواحد”:
لم يستطع الفكر المعولم أن يحد من دائرة المعارضين لجبروته وإطلاقيته، بل ازدادت دائرة المواجهين له. متمترسين وراء توجهات فكرية يغرف بعضها من ماض سحيق والبعض الآخر يسعى جاهدا لجني الثمار السليمة من شجرة التقدم والتطور والحاصل، والرمي بكل الثمار العفنة إلى كتب التاريخ ﴿الفوارق الطبقية الفجة ، الحروب ، تدمير البيئة ، معاداة النقد وحرية التفكير…الخ﴾.
فكل اللبيراليين، المتبنين لمنطق السوق والمؤمنين بديمقراطية السوق نهاية هذا القرن يرفضون، أشد ما يكون الرفض ، كل أنواع المجادلة والتشكيك فيما يعتبرونه مقدرا وعاديا و “طبيعيا” ولا محط جدال ﴿ص 202-203 ﴾. إنها الظلامية الجديدة التي أججت نيران ظلامية قديمة لم تستسغ ابتلاع الأولى لها أو على الأقل ممارسة الهيمنة عليها .
خاتمة:
إننا نتفق كليا مع الكاتب في اعتباره العولمة تعبيرا عن “تعاظم قوة رأس المال ﴿المالي منه و الصناعي ، المنتج منه والمضار باتي﴾، والنزوع إلى فرض “منطق” الأسواق ﴿منطق التنافسية و المر دودية والمرونة والإنتاجية وغيرها﴾ والتوجه باعتماد “قيم” اللبيرالية الجديدة …و الانزلاق باتجاه تعميم “مبادئ” ديمقراطية السوق المتشكلة ….. والتقدم باتجاه “ثقافة الفكر الواحد” المقصي لباقي أشكال التفكير والتصور والتمثل…”﴿ص 210-211 ﴾.
العولمة نتيجة حتمية –لا علاقة لها بقدرية من أي نوع- لتطور تاريخي أنتج مالكي سلطة جدد/ قدامى. جدد بقوة ترسانتهم المالية والإعلامية والتكنولوجية . و قدامى بدفاعهم المستميت عن حق التملك والمبادرة الفردية ولو على حساب أغلبية سكان المعمورة و استمرارية الجنس البشري برمته.
العولمة الليبرالية “لم تكرس واقع “تفوق الأقوى” والمطالبة بضرورة تكيف وتأقلم “الآخرين فحسب” بل وسعت “فضاء” منبوذي ومتطرفي الغالبية العظمى من سكان البشرية الذين تعدوا ، في تعدادهم ، الأفراد والجماعات ليشملوا الدول والأمم، المدن والحواضر ، الساسة والمثقفين، ضحايا التقشف والهيكلة وضرورات التنافسية العالمية” ﴿ص 211﴾.
إن مجابهة النمط الذي تكرسه العولمة الليبرالية لن يتم إلا بامتلاك المتضررين منه لقوة يفرضون بها تصورا تهم للعولمة، التي ليست في نهاية الأمر إلا ترجمة لمفهوم المجتمع الإنساني الذي شكل في بداية اشتغال العقل البشري حلما راود مفكرة العديد من الفلاسفة والمنظرين ، وصار بفضل ما حققته البشرية من تقدم تكنولوجي وثقافي واقعا أقرب إلى التحقق.
التاريخ البشري يثبت بما لا يدع مجالا للشك أن اعتماد و فرض حلول أكثر عدالة على المستوى الاجتماعي والإنساني(ص211) يتطلب ميل ميزان القوى إلى جانب حاملي مشروع التغيير و الأنسنة الحقيقية. ولعل أولى الخطوات نحو ذلك هي “مواجهة خطاب العولمة الحالية وممارساتها و”فكرها الواحد”ص212﴾.
“إننا مختلفون ونريد أن نبقى مختلفين لأننا ولدنا في أماكن مختلفة، بامتيازات ونقط ضعف لا نرى حرجا في التحاور حولها، لأن الاختلاف هو مدخل البحث عن الوحدة الحقيقية التي تؤسس لمثالنا الأعلى والعميق في مأمن عن كل أشكال الوحدانية” ﴿ادغار بيزاني. أورده اليحياوي ص 212).
مواجهة النتائج الكارثية لهكذا عولمة تتطلب “نزع سلاح” الأسواق والاقتصاد والمال والتشنيع بمحدودية طرح ” ضرورة التنافسية” واعتماد تنظيم عالمي جديد يأخذ بعين الاعتبار “حق” الشعوب في كل الجهات والمدن والقرى في تنمية مواردها والرقي بمؤهلاتها والتعبير الحر عن آمالها وطموحاتها.
الهدف الأول والأخير لمناصري العولمة اللبيرالية هو السيطرة على مختلف الموارد الطبيعية والبشرية ، إشباعا لنزوات ورغبات أنانية تجد جذورها في تفكير أحادي وفي اقتصاد يؤله الفرد ويضحي بالجماعة البشرية إن اقتضت المصلحة الشخصية ذلك. فالإنسانية تسير نحو همجية من نوع آخر حيث اندثار قيم النقد وحرية الفكر، وتراجع مقومات التضامن الاجتماعي أمام الهجمة الجديدة لحفنة تترك العديد من الضحايا على درب طموحاتها.
الأكيد أن المتضررين من هذا النوع من العلاقات الاجتماعية لن يكون بمقدورهم الصمت إلى الأبد، فالمعركة تستهدف وجودهم ووجود المجال الذي احتوى أجدادهم لملايين السنين.