دُني سوشون –
14 يونيو 2016
ترجمة: محمود الحاج
مقدّمة المترجم
إذا كان الإعلام الفرنسي مشغولاً، هذه الأيام، بملاحقة أخبار المجاهدين، «المجرمين، الإرهابيين، المتطرّفين»، وبالتمحيص على نحوٍ هوَسيّ في أحوالهم وتاريخهم وأصغر تفاصيلهم، فإن هؤلاء كانوا، لنحو عقدين من الزمن، قبل أكثر من ثلاثين سنة، من أعزِّ ممدوحيه وأكثرهم سلامةً من نقده.
كان مبدأ «عدوّ عدوّي صديقي» المعمول به في ذلك الوقت، يدفعُ ليس إلى التغاضي عن دينيّة أو تعصّب المجاهدين الأفغان فحسب، بل إلى تصويرهم كأبطالٍ ومقاومين استثنائيين، ككواسر لا تهاب الموت، كجنودٍ متحلّين بالإيمان اللازم لردّ المعتدي، وكأصحاب قضيةٍ عادلة تستحق الإغاثة والتسليح الغربيّين. كل ذلك في سبيل تقديم صورة مقبولة ومقنعة عمّن صاروا، بمجرّد عدائهم للسوفييت، حلفاء للغرب.
أبعد من ذلك، كان كتّاب وصحافيون وباحثون مشغولين، كما يرينا التحقيق أدناه، بتبرير ما قد يُقلق أو يُثير أسئلة الفرنسيين، «العلمانيين»، من تصرفات وتقاليد «متخلّفة» أو «قمعيّة».
هكذا، كان هؤلاء يخترعون تفسيرات وتحليلات، تستحقّ الملاحظة فعلاً، لـ«تقاليد» أفغانية، إشكالية في فرنسا، مثل تديّن جُلِّ أو كُلِّ المقاتلين، وعدم وجود نساءٍ بينهم، ومثل تعدّد الزوجات، ومهر العروس، والزواج المدبّر من قبل الوالدين، واضطرار المرأة إلى ارتداء الشادور، وغير ذلك.
يشرحُ أحد الكتّاب، مثلاً، أن لتعدّد الزوجات، رغم بعض سلبيّاته، فضائلَ عدّة، من بينها إيجاد حلولٍ اقتصادية، وكذلك إدماج النساء العاقرات في المجتمع! أما المهر، أيّ دفع مبلغ للعروس أو لأهلها كشرطٍ للزواج منها، فليس، بالنسبة إلى كاتبٍ آخر، سوى تقليدٍ يشكّل جزءاً من نظام عاداتٍ متكامل في هذا البلد. في المحصلة، يجب على الفرنسيين والأوربيين، كما تدعو كاتبةٌ أخرى، التخلي عن تقوقعهم حول مفاهيمهم وثقافتهم كي يستطيعوا فهم هذا الآخر بوصفه مرتبطاً بسياقٍ اجتماعيٍ وتاريخيٍ مختلفين! هذه الكاتبة، ذاتها، تقول إن تغيير المجتمع الأفغاني لا يمكن فرضه بالدبابات من الخارج، بل هو ثمرة صيرورة داخلية يحكمها، قبل كل شيء، قرار الأفغانيات أنفسهنّ!
لا يسعنا اليوم، إذ نقرأ ما يُطلعنا عليه تحقيق دُني سوشون (المنشور في عدد شباط 2016 من شهرية «لو موند ديبلوماتيك»)، إلا أن نتعجّب من تغيّر الأحوال، ومن قدرة الإعلام، وقدرة الأشخاص أنفسهم أحياناً، على قول الشيء ونقيضه خلال عدة سنوات، والترويج لكليهما بين الملايين من الناس بالطاقة والحماس ذاتيهما.
عبر الاقتباسات المتتالية، يترك سوشون الإعلام الفرنسي يتحدث عن نفسه؛ ما يبدو له، ولنا أيضاً، طريقةً مناسبة، مهنياً وأخلاقياً، لفهم النسق العام الذي كان سائداً في فرنسا قبل أكثر من ثلاثين عاماً.
*****
في الفترة الممتدة بين الهزيمة الدامية للولايات المتحدة في الهند الصينية (نيسان وأيار 1975)، وسلسلة الاضطرابات الواقعة في البلدان الأوروبية الدائرة في فلك الاتحاد السوفييتي (خصوصاً في بولندا، حيث جرى إعلان حالة الطوارئ في كانون الأول 1981)، تحسَبُ الولايات المتحدة وأوروبا الغربية، أو تدّعيان، أن موسكو قد شنّت هجوماً عالمياً ضخماً. في أفريقيا، تبدو أنغولا وموزامبيق، المستقلتان حديثاً حينها، وكأنهما تمدّان ذراع المودّة إلى السوفييت؛ أما في أميركا الوسطى، فيُسقِط المتمرّدون الماركسيون نظاماً دكتاتورياً موالياً للولايات المتحدة في نيكاراغوا؛ بينما في أوروبا الوسطى، يمسك حزبٌ شيوعيّ موالٍ للسوفييت زمام السياسة في البرتغال، العضو المؤسس في «منظمة حلف شمال الأطلسي». غزو «الجيش الأحمر» لأفغانستان، في كانون الأول 1979، يبدو مؤشراً على ما يشبه هروباً إلى الأمام تقوم به موسكو. إنها تبدأ مرحلة جديدة من الحرب الباردة بين المعسكرين. أما معارك المجاهدين «مقاتلو العقيدة المنخرطون في الجهاد» الأفغان، التي ستبدو وكأنها مُرسلةٌ من السماء لمواجهة طموحات الاتحاد السوفييتي التوسّعية، فستصبح، في الغالب من الأحيان، موضع احتفالٍ وثناءٍ على نحوٍ ملحميّ.
ليس مهماً أن جلَّ هؤلاء المقاتلين، الذين رُفعوا إلى مرتبة الأبطال، مسلمون تقليديون، بل ومتزمّتون. في تلك الفترة، لم يكن يُرى إلى الدين بوصفه عامل تخلّفٍ بالضرورة، إلا إذا تعارضَ مع مصالح الغربيين الاستراتيجية، كما هو الوضع في إيران في ذلك الوقت. غير أن وضع أفغانستان، كما بولندا الكاثوليكية التي أخذها برعايته الأب يوحنا بولس الثاني، أسقف كرواتيا السابق، مختلفٌ عن إيران. وبما أن الأولوية الجيوسياسية ترمي إلى أن تُصبح أفغانستان بالنسبة إلى الاتحاد السوفييتي ما كانته فيتنام بالنسبة للولايات المتحدة، فإن سرديةً إعلاميةً وحيدةً تقريباً ستتكفل، خلال سنوات، الإعلاءَ من شأن المجاهدين وتقديم انتفاضتهم على أنها ثورةٌ محقّة، وثيقة الصلة بالعقيدة. سرديةٌ ستأخذ على عاتقها، بشكل خاص، وصف مكانة وحياة النساء الأفغان بعدّةٍ جوهرانية، ساذجة ومسحورة أحياناً بالتقاليد الشعبية.
العودة، بعد مضي خمس وثلاثين سنة، إلى هذا الخطاب العام وتصوّراته المسبقة مفرطةِ الحضور حينها في الصحافة الفرنسية، من «مجلة لو فيغارو» إلى «لو نوڤل أوبسرفاتور»، تسمحُ بالوقوف على حقيقة أن جلَّ ما كان يستدعي الإعجاب في الأمس، إذ كان وسيلة استقطابٍ وحشدٍ للمعركة ضد «إمبراطورية الشرّ» (الاتحاد السوفييتي بحسب رونالد ريغان)، صارَ اليوم مصدراً للبُغض والفزع. كنا نصفّق، بين 1980 و1988، لمآثر «مقاتلي العقيدة» ضد «الجيش الأحمر». لكن بدءاً من العقد اللاحق، سيجري وصف أبناء عمومتهم عقائدياً في الجزائر («الجماعة الإسلامية المسلّحة»)، ومن ثم في أفغانستان («طالبان»)، وأخيراً في الشرق الأوسط مع «تنظيم القاعدة» و«تنظيم الدولة الإسلامية»، بعبارات «المتعصّبين»، «المتطرّفين»، و«البرابرة».
صحيحٌ أن مجاهدي سنوات الـ1980، الذين لم يكونوا يقومون بهجمات في الخارج، يختلفون، على أكثر من مستوىً ذي أهمية، عن مقاتلي «الجماعة الإسلامية المسلحة» الجزائرية وعن أعضاء «داعش»، غير أنه صحيحٌ أيضاً أن أفغانستان طالما شكّلت بوتقةً وحاضنةً للاحقيهم. فأبو مصعب الزرقاوي، أردني الجنسية، الذي يُعتبر كالـ«أب» لتنظيم «داعش»، حطّ رحاله هناك بالتزامن مع انسحاب «الجيش الأحمر»، وظل مقيماً في البلد حتى 1993. كما أن أسامة بن لادن، مؤسس «تنظيم القاعدة»، جرى إرساله من قبل المخابرات السعودية إلى بيشاور، في باكستان، لدعم نضال المجاهدين. أما الجزائري مختار بلمختار، الذي كانت مجموعته «تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي» قد تبّنت توّاً الهجوم على مستشفى «لو سبلُنديد» في واغادوغو في بوركينا فاسو، فقد ذهب أيضاً إلى هناك، نهاية سنوات الـ1980، لملاحقة المتحالفين من الأفغان مع الاتحاد السوفييتي، ليعود بعد ذلك إلى الجزائر خلال الحرب الأهلية مقاتلاً مع «الجماعة الإسلامية المسلحة» (الجزائريون ذوو المسار المشابه كانوا يسمّون بـ«الأفغان»)، قبل أن يلتحق بـ “تنظيم القاعدة”
هؤلاء، وكثيرون غيرهم، حظوا باستقبالِ وترحيبِ الغرب بما أنّهم كانوا يخدمون مخططاته الاستراتيجية. وإذِ انقلبوا ضدّه بعد ذلك، فإن الصورة التي قدمتها الصحافتان الأوروبية والأميركية عن دوافعهم وتطرفهم الديني ووحشيتهم قد تغيرت بشكلٍ كبير.
1-حلفاء استراتيجيون للغرب
في الثالث من شباط 1980، وبعد أسابيع من تدخل «الاتحاد السوفييتي» العسكري في أفغانستان، يصل إلى باكستان السيد زبغينيو بريجنسكي، مستشار الرئيسي الأميركي جيمي كارتر في قضايا الأمن. يتوجه إلى المجاهدين النازحين من الطرف الآخر من الحدود، ويعدهم: «تلك الأرض التي هناك هي أرضكم. ستعودون يوماً ما إليها لأن نضالكم سينتصر. بيوتكم ومساجدكم ستعود إليكم مجدداً، لأن قضيتكم عادلة ولأن الله معكم».
هكذا، سيؤيد الخطابُ الإعلامي الفرنسي، حول أفغانستان، أهداف الجيوسياسة الأميركية:
واجب التدخل العسكري
” يجب أن نفكّر، ويجب أن نتقبّل أن نفكّر أن الأفغان، حالهم كحال المقاومين في العالم أجمع، لا يستطيعون إحراز النصر إذا لم تكن لديهم أسلحة. لن يهزموا الدبابات بالرشّاشّات، ولن يهزموا المروحيّات إلا بـSam-7. ولن يربحوا المعركة ضد الجيش السوفييتي إذا لم تكن لديهم أسلحة أخرى (…) غير تلك التي ينتزعونها من الجيش الأحمر. باختصار، لن ينتصروا إذا لم يوافق الغرب على مساعدتهم هنا أيضاً. أرى أننا اليوم في وضع مشابه لفترة الحرب الاسبانية (…). في اسبانيا، كان ثمة واجب للتدخل، للتدخّل العسكري (…). أعتقد أن الأفغان ليس لديهم اليوم أية حظوظ للانتصار إلا في حال وافقنا على تدخّلنا عسكرياً في الشؤون الداخلية الأفغانية”.
برنار-هنري ليفي، نشرة أخبار الليل، تلفزيون «ت. ف. 1»، 29 كانون الثاني 1981.
سيعودُ برنار-هنري ليفي ليدعم بالحماسة ذاتها التدخّل الغربي في أفغانستان، إثر تفجيرات 11 أيلول 2001.
كما في زمن المقاومة في فرنسا
“من أجل السماح للأفغان بالحديث مع الأفغان، تماماً كما كان الفرنسيون يتحدثون مع الفرنسيين في زمن الاحتلال، فإن ’لجنة حقوق الإنسان’ قررت مساعدة المقاومة الأفغانية على تأسيس مذياع على أرضها: مذياع كابول الحرة. منذ سنة ونصف، وتحديداً منذ 27 كانون الأول 1979، كانت واحدة من القوى الكبرى عالمياً قد بدأت للتوّ غزوها لبلدٍ مجاور، ضعيف وأعزل. (…) البنادق العتيقة تخرج من الصناديق، والمسدّسات من تحت أكوام القشّ. ها إن المقاومة تنهض، رغم ضعف تسلّحها”.
مارك هالتر، «لو موند»، 30 حزيران 1981.
هنا، يلمّح هالتر إلى بيتٍ معروف من «ترنيمة المناصرين»، نشيد المقاومة الفرنسية: «أخرِجوا البنادق من القشّ، أخرجوا الذخيرة والقنابل».
معركة جميع ضحايا الشموليّة
“معركة الأفغان هي معركة جميع ضحايا الشمولية الشيوعية والفاشية”.
جان دانييل، «لو نوفل أوبسرفاتور»، 16 حزيران 1980.
كما في برلين وبودابست، الجيش الأحمر أطلق النار
“الله أكبر، اخرجوا أيها الرّوس’: الكابوليون، المسلمون اللاشيوعيون، لم ينسوا. أرادوا أن يتظاهروا، يوم الجمعة 22 شباط، ضد حضور الجيش السوفييتي الذي لا يطيقون. كان علَمُ الإسلام الأخضر في مقدّمتهم. في صباح ذلك اليوم، وكما سبقَ أن حدثَ في برلين الشرقية وفي بودابست، أطلقَ «الجيش الأحمر» النار”.
فرنسوا لو مونييه، «لو بوان»، 3 آذار 1980.
أن نتخلّص من الاحتلال السوفييتي، أن نحافظ على مجتمع البشر الأحرار
“هي نظرة اعتزاز نادرة، يصعب العثور عليها في مكان آخر من العالم. نظرة تبدي المقدار الحقيقي لإرادة الأفغان الضارية في التخلّص من المحتلّ السوفييتي، حتى ولو بدت وسائلهم بلا قيمةٍ تُذكر”.
باتريك بوافر دارفور، نشرة «القناة الثانية»، 8 تموز 1980.
“الذي يموت في كابول، تحت الجزمة السوفييتية، هو مجتمعُ بشرٍ نبلاء وأحرار”.
باتريس دو بلونكيت، «مجلة لو فيغارو»، 13 تمّوز 1980.
كما «الألوية الدولية»، ثمة «أفغان» فرنسا
في «لو موند»، 19 كانون الأول 1984، تتحدّث دانيل ترامار عن بعض الفرنسيين الذين «يعملون مع المقاومين الأفغان». لم تكن ثمة مخاوف، في تلك الفترة، من أن يعود هؤلاء المقاتلون الأجانب إلى بلدهم وهم «أكثر تطرّفاً» بسبب تجربتهم في الحرب:
“هذه هي الصداقة الفرنسية الأفغانية: صديقٌ يساعد صديقه. (…) فرنسوا تعلّم اللغة الفارسية، حاله كحال إيزابيل. بعد اجتيازه الحدود هذا الصيف، سار طيلة ستة أيام، صباحاً ومساءً، وفي الطين أحياناً، بخطى ثابتة بما يكفي”.
بدوره، يخصص كلود كورس تقريره المنشور في «مجلة لو فيغارو» في 19 كانون الأول 1987 للأطباء والمهندسين الزراعيين والمهندسين الفرنسيين الذين يساعدون الأفغان، وذلك مع إحالةٍ إلى المقاومة الفرنسية:
“هؤلاء الأفغان النمطيّون، بلحاهم وعماماتهم وعيونهم الحادّة، ليسوا في الحقيقة إلا فرنسيين. من بينهم بحّارٌ قادم من إقليم بروتاني، مختصٌّ بمنطقة بولينيزيا، لكنّه اختارَ أن يصبح مهندساً زراعياً قادماً من جبال هذا البلد الذي تعاكس الرياحُ مركبَه. شجرة الكستناء هذه، التي تعدّ مصدراً غذائياً مهمّاً هنا، تشكّل رمزاً لأمل هذا الشعبّ الذي توحَّدَ أبناؤه ضد الغازي الشيوعي الراغب في ضمّهم إليه، حالهم كحال الرّعاة في منطقة الكستنائية في كورسيكا، الذين سبق لهم أن وقفوا كذلك في وجه جيوش الاحتلال”.
2-غرائبية وتضاريس جميلة
هزيمة الشيوعية السوفييتية لم تكن تشكّل الغرض الذي يصبو إليه الجميع في فرنسا. ولهذا، كي تنال قضية الأفغان، وطنيين كانوا أم تقليديين، مزيداً من الدعم، كانت وسائل الإعلام تربطها برغبةٍ ما في المغامرة، بفردوسٍ مفقود. وهذه مهمّةٌ سهلة إذا ما عرفنا أن الصراع الأفغاني يدور في بقعة جغرافية ساحرة تخطف بحيراتها الأنظار. بهاء تضاريس (وكذلك تقاليد) أفغانستان يُستحضَرُ لدى جيل غربيّ كامل (من هؤلاء الذين باتوا بالغين في سنوات الـ1960)، تلك البلاد التي كان يحلم بها رحّالةٌ قطعوا مسافات كي يصلوا إلى كاتماندو. هي عودةٌ إلى الطبيعة، إلى القيَم الحقيقية وإلى «الجبال الوعرة والجميلة». إنها أفغانستان، تلك التي تشكّل نقيضاً للحضارة الحديثة، المادية والتجارية:
مارك هالتر وبرنار-هنري ليفي متنكّرين في زيّ أفغاني تقليدي، إلى جانبهما القائد العسكري أمين. «لو نوفل أوبسرفاتور»، 12 أيلول 1981.
مارك هالتر وبرنار-هنري ليفي متنكّرين في زيّ أفغاني تقليدي، إلى جانبهما القائد العسكري أمين. «لو نوفل أوبسرفاتور»، 12 أيلول 1981.
من فرط الجمال، ننسى أنها الحرب
“بدأ ذلك كما تبدأ قصة حب. ذهبَ جلّهم إلى أفغانستان. ومن الرحلة الأولى، كانت الفتنة لا تُقاوم. يصفون ذلك: إنه المكان المثالي لأن نكون بعيدين. لا سكك حديدية ولا صناعة. فسحةٌ وحرية. تقول إيزابيل: ليس ثمة أفغانيٌ ينظر إليكِ أو يضايقكِ. وتضيف: من فرط الجمال، ننسى في بعض اللحظات أنها الحرب”.
دانيل ترامار، «لو موند»، 19 كانون الأول 1984.
الأكثر خصوبةً، الأكثر زهواً، الأكثر لمعاناً
“تمتدّ سلسلة جبال هندو كوش من الشمال الشرقي إلى الجنوب الغربي، مطلّةً بذلك، من علوّها البالغ 5 آلاف متر، على الوديان الأكثر خصوبةً، والفاكهة الأكثر جمالاً، والملابس الأكثر زهواً، والبازارات الأكثر لمعاناً؛ وتحدّها شمالاً وجنوباً صحارى رمالُها ذهبية”.
روبير لوكونتر، «مجلة لو فيغارو»، 12 كانون الثاني 1980.
لحاهم السوداء، أنوفهم المحنيّة ونظراتهم الحادة
“مذهلون، بلحاهم السود، بأنوفهم المحنيّة وبنظراتهم الحادّة. يشبهون الطيور الجارحة. إنهم محاربون بالولادة. لا يبالون لا بالجهد ولا بالبرد ولا بالتعب. كائناتٌ من طينةٍ أخرى، لا تعنيها الوحدة ولا الجوع ولا الموت. ببنادق ’إنفيلد’ قديمة، موديل 1918، يصيبون هدفهم عن بعد 800 متر. لقد أثبت التاريخ أنه ليس بمقدور أيّ جيش، قادماً من الخارج كان أم من الداخل، أن يجبرهم على الاستسلام. وحده تراكم انتصاراتهم، تمزيقهم العدو، عزّتهم وفخرهم، ما يسمح لـ17 مليون أفغاني بأن يؤمنوا اليوم أن هؤلاء المدافعين عنهم سينتصرون مجدداً، هم الرابضون في مغاراتهم أعلى قمم الجبال، هناك، حيث اختار كيبلينغ أن يعيش «إنسانه» الذي أراد أن يصير ملكاً”.
جيروم مارشان وجان نولي، «لو بوان»، 21 كانون الثاني 1980.
ماذا حلَّ بالفارس المعمّم السائر وسط الثلج؟
“ماذا حلّ بهؤلاء البشتون الرُحّل، الذين كانوا يحتسون شايهم الأخضر في المقاهي، واضعين بنادقهم على مقربة منهم؟ ماذا جرى لذلك الراعي القادم من قرب نبع ماء في جبال الهندو كوش، ولذلك الفارس المعمّم السائر وسط الثلج؟ (…) الكثبان الشاسعة التي تنحتها الريح أمواجاً؛ شوارع مدينة هراة حيث تدوّخكم رائحة الورد التي يتنفسّها عجوزٌ؛ حيث، بأزرقها السماويّ، تحيّركم أبواب بيوت الأغنياء المسمّرة؛ وحيث تفاجئكم عضلة ساق، ملفوفة بمشدّ أبيض، لامرأة مغطّاة تماماً بشادورٍ ذي طيّات، تمرُّ نظرتها من ثقوب شبيكته المطرّزة”.
نيكول زاند، «لو موند»، 9 كانون الأول، 1980.
الصلابة التي يولّدها البرد القارس ورياح الرمل الحارقة
“لدى الأفغان، بوصفهم معتادين على العيش بخشونة، صلابةٌ تولّدها التضاريس الجافّة، وكذلك البرد القارس ورياح الرمل الحارقة. (…) ثمة انسجام مذهل في مجتمعنا الصغير، إذ لا وجود تقريباً لأيّ خلاف بين المجاهدين رغم أنهم يظلّون ملتصقين ببعضهم لأيام وأيام. (…) صحبة الثورة تمحو الهرميّة التقليدية. (…) لا يكاد أحدهم يُصاب بحزنٍ أو كآبة حتى تتلقّفه روح الدعابة، وفكاهة المجموعة ودفئها”.
كاترين شاتّار، «لو موند»، 20 أيار 1985.
3-مقاتلون متحلّون بالإيمان
غير أن قضية التآلف، بين فرنسيين قليلي التديّن وغارقين في الليبرالية الثقافية، وبين أفغانٍ تقليديين، مدعومين في الوقت نفسه من السعودية وإيران، ليست بتلك البديهيّة. ومن هنا تأتي أهميّة تقديم المجاهدين بوصفهم ناساً بسطاء، متحلّين بالإيمان ومتمسّكين بعادات أجدادهم وبتضامنهم القرويّ. أمّا المواجهة، المميتة في أغلب الأحيان، بين العشائر والقبائل المناهضة للسوفييت، فتُقدَّم بوصفها مشابهةً لكفاح قرى الغال، المحقّ وغير المنظّم، ضد جحافل الرومان.
“هؤلاء الأفغان؟ أطباء ومهندسون فرنسيون»، كلود كورس، «مجلة لو فيغارو»، 19 كانون الأول 1987.
«هؤلاء الأفغان؟ أطباء ومهندسون فرنسيون»، كلود كورس، «مجلة لو فيغارو»، 19 كانون الأول 1987.
إسلام “بلا تسييس متشدّد كما في إيران”
“دعونا لا نخلط الأمور. في طهران، يرتبط التعصّب بالتحرّر الجنوني لطبقة الشعب الفقيرة بعد عشرين عاماً من الهوس بالعظَمة، من التبذير ومن التغريب المتبهرج. أما في أفغانستان، فالقضية قضية تراث، ولا شيء آخر غير التراث. ليس ثمة تسييسٌ متشدّد أو اندفاعٌ مبالغ به نحو التديّن كما في إيران. التقوى أمر اعتياديّ هنا. أبناء الجبال والمقاومون أشخاصٌ يتحلّون بالإيمان”.
بيير بلانشيه، «لو نوفل أوبسرفاتور»، 7 كانون الثاني 1980.
“أعتقدُ أن ثورة الخميني الإسلامية تقدّم خدمةً سيئةً للقضية الأفغانية. إن المقاومة الأفغانية بريئةٌ من تشدُّد الحركات الثورية الإيرانية، كما أن تيّاراتها ذات الطابع الطائفي ضعيفةُ الحضور”.
جان-كريستوف فيكتور، «أخبار أفغانستان»، كانون الأول 1983.
“مقاتلو الحرب المقدسة”
“لدى الأفغان حياءٌ وإيمانٌ بالقضاء والقدر يمليهما عليهم إيمانهم الكامل بإرادة الله. حتى أنه ليبدو أنْ ليس ثمّة طريقة عيشٍ أفضل، ولا انشغالٌ أسمى من خوض الحرب المقدّسة. إنها تُقرِّبُ كلَّ واحدٍ فيهم من حياة نبيّ الإسلام”.
كاترين شاتّار، «لو موند»، 20 أيار 1985.
متسيّبون، مبتذلون، ثرثارون، لكن شجعان
“كما في الأمس، يبقى المجاهد، قبل كل شيء، فلّاحاً متعلّقاً بأرضه. يدافع عنها بكل صلابة، وإن لم تكنْ مهدّدة، فهو غالباً ما يفقد عدوانيته. (…) لا يجب على عيوب الشخصية الأفغانية –التسيّب، الميل إلى المبالغة الكلامية وصعوبة كتم الأسرار– أن تنسينا أهمّ ما في هؤلاء الرجال من صفات. شجاعتهم وقدرتهم على تحمّل المصاعب أمران لا يمكن الشكّ فيهما، كما أنهم يثبتون جسارةً لافتةً عندما يتطلّب الأمر”.
باتريس فرانشيسكي، «لو بوان»، 27 كانون الأول 1982.
إسلامهم يعادل الشيوعية في المعجم السوفييتي
«وثمة الاعتراض، الخاذل وغير المباشر، الذي يطرحه البعض عبر تساؤلهم إن كان المقاومون فعلاً أفضل من المحتلّين، إن كان إسلامهم غير «بدائي وبربري»، وإن كان ثمة، في المحصّلة، ما يوجب المخاطرة لـ’الموت من أجل كابول’. إنها دعوة إلى التملّص من المسؤولية في الوقت الذي يطلب فيه الأفغان، الذين يُقتلون، يد المساعدة. يجب، إزاء طلب النجدة هذا، الإعلان وبصوت عالٍ أن مقاومة الأفغان في وجه المحتلّين السوفييت عادلةٌ مثل كل حروب التحرير. (…) إضافة إلى أن إسلامهم يعادل الشيوعية في المعجم السوفييتي وأنه، مثلها، ’إيجابيٌ عموماً’، فإنه لمن المعيب التساؤل حول حضارتهم في وقت يستميتون فيه للدفاع عن أنفسهم».
جان دانييل، «لو نوفل أوبسرفاتور»، 16 حزيران 1980.
“قبل كل هجوم، تأتي الصلاة: صلاةٌ مقتضبة يطلبون من الله فيها الرحمة لأرواحهم. بعدها يمرّ المقاومون من تحت علَم مشدود، فيه مصحفٌ صغير. بعضهم يقبّل المصحف، وآخرون ينحنون في إشارة إجلال. السيد عناية الله أصرَّ على أن أقوم أنا أيضاً بممارسة هذه الشعائر، ففعلتُ عن طيب خاطر. في الحقيقة، يحافظُ الشعب الأفغاني على تماسكه من خلال الإسلام، ويستمدّ منه القوة المعنويّة التي تمكّنه من المقاومة. صحيح أنه يمكن للجهاد (أي الحرب المقدّسة) والطابع الإسلامي لهذه المقاومة أن يُخيفا، إلا أننا لم نعرف عن هذه المقاومة، إلا فيما ندر، أيّ ملمحٍ أصوليّ”.
ستان بوافان-فيفييه، «مجلة لو فيغارو»، 5 كانون الأول 1987.
4- سؤال المرأة الشائك.
“المركزية الأوروبية المطلقة» لا تساعد على فهم ظرف النساء الأفغانيات
“قمع’ المرأة جزء من هذا النظام. والمركزية الأوروبية المطلقة لا تساعد أبداً على فهم طبيعة هذا المجتمع، خصوصاً إذا ما عرفنا أن هذا ’القمع’ يلقي بثقله ليس على النساء فحسب، بل وعلى الرجال أيضاً، كما هو حال الزواج المدبّر من قبل الوالدين، على سبيل المثال”.
إيمانويل تودّ، «لو موند»، 20 حزيران 1980.
نساءٌ يعتنين بما يكفي بنساءٍ أخريات
“يستحيل أن تسمح امرأة أفغانية لطبيبٍ ما بفحصها. (…). تتوافد الأفغانيات، وهن متلفّعات بحُجبهنّ، إلى خيام مزوّدة بالمعدّات اللازمة، حيث تستقبلهنّ نساء أخريات، يستمعن إليهنّ ويعتنين بهنّ. إنهنّ يجلبن معهنّ أطفالهنّ الذين غالباً ما يكونون مصابين بضرَرٍ في العينين، أو بأمراض جلدية، أو بالسلّ”
فرنسواز جيرو، مستشارة أولى لدى الدولة في قضايا المرأة في فرنسا، «لو موند»، 25 كانون الثاني 1983.
“جيش ظلّ المقاومة الأفغانية”
“عندما أحدّثهن عن وجود مقاتلات مسلّحات في بلدان مسلمة أخرى، يبقين حالمات. ليس ثمة، بالتأكيد، أيّ امرأةٍ بين صفوف المجاهدين. لكن ثمة منهنّ مَن ينقلن المتفجرات تحت عباءاتهن، أو مَن يقمن بوظيفة التشبيك، عبر نقلهنّ الرسائل إلى المدينة. (…) النساء جيش ظلّ المقاومة الأفغانية”.
كاترين شاتّار، «لو موند»، 20 أيار 1985.
ليس علينا منعهم من العيش كما يريدون
«ثمة، بيننا، مصوّرةٌ فرنسية. هي المرأة الوحيدة هنا. وقد تمّ قبولها، بلا مشاكل، رغم أنها لا تضع حجاباً؛ الأمر الذي لم يكنْ ليُسمح به لو حدث في الظروف ذاتها في إيران. كأنّ الإسلام، هنا، لا يشكّل وسيلة تهيّجها سياسةٌ ما، كما في إيران، بل شيئاً أكثر جوهريةً وبساطة. (…) باسم أيّ تقدمية يحقّ لنا أن نمنع الأفغان من العيش كما يريدون؟».
بيير بلانشيه، «لو نوفل أوبسرفاتور»، 5 تمّوز 1980.
ما قيمة معاييرنا بالنسبة إلى مجتمع لم نعد نفهمه؟
«يمكننا أن نتحدث، استناداً إلى معاييرنا، عن استلاب النساء الأفغانيات. لكن ما قيمة معاييرنا بالنسبة إلى مجتمعٍ لم نعد فهمه؟ نعم، يصدمنا النمط القديم الذي يحكم علاقات الرجال والنساء في أفغانستان. غير أن تغيير هذا النمط لا يمكن فرضه من الخارج بجنود ودبّابات، بل يتأتّى من تغييرٍ يقوم بها هذا المجتمع على وتيرته الخاصة، وفي اللحظة التي تختارها النساء الأفغانيّات أنفسهنّ».
أنّي زورز، مجلة «الأزمنة الحديثة»، تمّوز-آب 1980.
«لا شكّ أنّ لنظام المهر، الذي يقضي، في كثيرٍ من المجتمعات الآسيوية والأفريقية، على تقديم شيء ما إلى الفتاة قبل الزواج منها، مساوئَ كثيرة على الشباب المقبلين على الزواج. لكنْ، رغم مساوئه، يشكّل هذا النظام، بلا شكّ، نوعاً من الحماية للعروس في المجتمعات الريفية الفقيرة. ويُنظر إلى المهر في أفغانستان بوصفه نوعاً من الاعتراف بأهميّة المرأة. لذا، فإن إلغاء هذا العُرف بلا أيّ مقدماتٍ لن يعني، في مجتمع كهذا، إلا تصغيراً من قيمة النساء. إن المهر يُظهرُ احترام الفلّاح في هذا البلد وتقديره لابنته ولنفسه، وذلك من خلال الامتناع عن منحها هكذا، بلا أي مقابل، إلى أيٍّ يكن، من دون أن يضمن مستقبلها».
برنار دوباين، «أخبار أفغانستان»، تشرين الأول، 1986.
«يشكّل تعدّد الزوجات، في بعض الحالات، أداةً لدى الرجل لتدبير شؤونه العاطفية، وللاستجابة إلى ضرورات اقتصادية. كما أنه يشكّل صوناً للنساء العاقرات اللواتي يحقّقن وجودهنّ بفضله، وذلك من خلال الانتماء إلى عائلة، ما يعني الانتماء إلى النسيج الاجتماعي. إن المهر، في أفغانستان، وفي بعض من البلدان الأخرى، ضمانةٌ للمرأة؛ إذ يمكن لها، في حال الطلاق، تحصيله مع كافة الممتلكّات التي تعود إليها من خلال الزواج. وقد يقول لكم البعض إن ارتداء الحجاب ليس تصرّفاً رجعيّاً في حدّ ذاته، بل هو (…) وسيلةٌ للمرأة كي تنال احترامها، كما أنه يرتبط بمسألة الشرف. (…) إن ما يراه الغربيون دليلاً على القمع يرتبط، في الحقيقة، بواقعٍ أكثر تعقيداً. (…) وفي المحصّلة، فإن دور النساء ذو قيمة كبيرة، ويلقى تقديراً عالياً».
شانتال لوباتو، «أوترمون»، كانون الأول 1987.
خاتمة (مؤقتة)
سيبقى نظام الحكم الشيوعي، برئاسة محمد نجيب الله، ثلاث سنوات في السلطة بعد رحيل القوات السوفييتية في شباط 1989. في 1996، وبعد عدّة سنوات من المواجهات المميتة بين المتخاصمين من المناهضين للشيوعية، ستسقط كابول بين يديّ طالبان. يُلقي مقاتلو طالبان القبض على نجيب الله الذي كان قد لجأ إلى مبنى الأمم المتحدة. يعذبونه، يخصونه، يطلقون النار عليه ويعدمونه شنقاً.
في 15 كانون الثاني 1998، تسأل مجلة «لو نوفل أوبسرفاتور» السيد بريجنسكي إن كان «نادماً على تشجيعه التعصّب الإسلامويّ، وعلى تقديم النصح والأسلحة لمن سيصبحون إرهابيين قريباً»، يجيب: “أيهما الأهمّ بالنسبة إلى تاريخ العالم؟ طالبان أم سقوط الإمبراطورية السوفييتية؟ عددٌ من المتهيّجين الإسلامويين، أم تحرير أوروبا الوسطى ونهاية الحرب الباردة؟”