عندما تنخر الطائفية عقل المثقف
عندما نتناول هكذا موضوع ساخن ومتداول في أروقة السياسيين والمثقفين على حد سواء لابد لنا أن نذهب إلى تعريف الطائفية أولا والشخص الطائفي, وكذلك نعرف المثقف وأهميته في المجتمع .
تعريف الطائفية- هي التعصب لأفكار ومعتقدات تنتسب في الأصل إلى دين معين، دون آخر, أو مذهب دون آخر. والطائفية عكس الوطنية التي تتبنى مبدأ المساواة والعيش دون أي تمييز, والطائفي هو من يحمل تلك المبادئ على أسس طائفية وعنصرية بحتة، الغاية منها المحاباة لطائفته دون الأخرى وإلغاء الآخرين دون المبالاة بأي روابط أخرى مع أبناء مجتمعه.
أما تعريف المثقف – فهناك الكثير ممن ذهبوا إلى تعريف المثقف وكان أكثــرهم ( انطونيو كرامشي) الإيطالي والذي اعتمد على معايير جديدة, تقوم على الوظيفة والمكانة الاجتماعية التي يشغلها, حيث قال( إن كل إنسان مثقف ولكن ليس لكل إنسان في المجتمع وظيفة المثقف). والمثقف هو الذي يعمل ويتعامل بالفكر والعلم والمعرفة, كالفقيه والعالم والباحث والكاتب.
أذن فكل من يكون سلاحه فكره ولسانه رأيه فهو مثقف, والمثقف في المجتمعات المتــقدمة والمتحضرة سلطة فاعلة ومؤثرة، ولكن هناك مجتمعات تمرُّ في مراحل حرجة وتحول التاريخي خطير, فقد تتجلّى سلطة المثقف فيها. فهو مسئول أخلاقيا وتاريخيا اتجاه مجتمعه في تلك اللحظة.
أولا- بتشكيل الوعي , وثانيا – بتسليط الضوء على القيم الفكرية والأخلاقية التي تنمي من مدارك الفرد وتوسع مفاهيمه, بكونه منتجاً للوعي الفكري . وهنا نقصد المثقف صاحب الفكر القيم, و ليس المثقف المنتج للمعرفة السطحية.
ان مجتمعنا العراقي يمرُّ في تلك المرحلة الحرجة والحساسة في تاريخه السياسي والاجتماعي, وهناك أمراض خلفتها الأنظمة التي جاءت لتحكم العراق في غفلة من الزمن, فذهبت بالعراق وأهله إلى متاهات مظلمة, وللأسف نرى البعض من مثقفي العراق والوطن العربي الآن, يعكسون حالة التجزئة والشرذمة والاحتقان الطائفي الموجود في المجتمع العراقي في الكثير من كتاباتهم وطروحاتهم الفكرية من خلال الصحف ومواقع الانترنيت والفضائيات المسموعة والمرئية.
فقد لا يستطيع الكثير من المثقفين أن يبرئ نفسه من الاتهام أمام الشعب العراقي بكل طوائفه ولا أمام التاريخ, فهو متهم في أخلاقه المهنية وعدم حيادتيه في تناول المواضيع السياسية الهامة في المجتمع , حيث انه فاقد لفاعليته الفكرية اتجاه مهمته الأخلاقية والإنسانية واتجاه مجتمعه, لأنه لم يعمل بخصوصيته الفكرية التي تعتمد على إنتاج المعرفة حيث اعد نفسه وأصبح في جوقة القارعين لطبول الحرب مدركين لما يحصل لكن غير ابهين لما سيحصل.
ولقد نسى الكثير من مثقفي العراق التزامه الفكري والإنساني والأخلاقي والوطني اتجاه قضايا شعبه ألأكثر أهمية من شحذ عواطف الناس بالاتجاه المعاكس. و بدلا إن يمسك قلمه هادما كل حواجز العزلة والتفرقة التي تسمم هواء الوطن, راح يوسع الهوة بين ابناء المجتمع وينحر الجسد العراقي بأفكاره المسمومة تارة والموبوءة تارة. حيث انه لم يبتكر آلية لتخفيف الاحتقان الطائفي، وإنقاذ الوطن من براثين الجهل الذي استشرى في ظل غياب العقل, وصمت الأصوات المعتدلة, ونفاق كبير مورس على كل المستويات.
وإن مهمة المثقف كبيرة وصعبة للغاية لأنه الأكثر خصوصية في المجتمع. أولا- لأنه مستهدف بكل زمان ومكان من قبل النظام الحاكم ومرصود من قبل المجتمع ككل. فقد يكون موقع المثقف أمام السلطة أما معارض أو مهادن فهو يعيش حالة صراع مرير ربما يؤدي به إلى الهلاك أو إلى النفاق . وبما أن المثقف هو من يملك ملكة الوعي ويستطيع تحريك العقل الراكد ووضع الكثير من النقاط على الحروف لأنه يرى ما لا يراه غيره, فهو مكلف وملزم بنبذ كل مظاهر التشرذم والتفرقة التي تؤدي بالمجتمع إلى الهاوية وتمزق نسيجه الاجتماعي والثقافي والديني, وان من اشد مظاهر الفرقة هي الطائفية, وأخطرها الطائفية الدينية في مجتمع مثل العراق ذو موروث ديني وتاريخي كبير. والذي يمر بولادة قيصرية في عملية بناء الدولة العراقية الجديدة.
ان الهدم والتشويه الفكري الذي يلامس العقول البسيطة من عامة الناس, سيترك تداعيات كبيرة وخطيرة جدا ربما تعطل وتأخر مسيرة البلد البطيئة والمتعثرة, وان التحدي الأساسي الذي أمام المثقف العراقي في الوقت الراهن هو اصلاح العطب الفكري المشوه لدى الكثير من طبقات المجتمع, ووقفة مع الضمير أمام السيل الهائل من الدماء العراقية.
وان يرتقي إلى مستوى المسئولية, فوق الشبهات وفوق ذاته المنجرفة تحت مسمى الطائفية, وعلى المثقف أن لا يبتعد عن لعبة خلط الأوراق المبللة بالأوراق الجافة. فالرؤية لم تنعدم عند الجميع ولازلنا نتمتع بنظر جيد رغم إسرافنا في استخدام الأجهزة الالكترونية, وإن العراق اليوم يحتاج إلى فكر باني ومنتج وليس إلى فكر هدام ومعطل, وهناك الكثير من المثقفين التقليديين كما يصنفهم أصحاب الفلسفة, ممن يعيش على ماض ثابت قديم ومتحجر. لا يريد أن يصارح نفسه مع التطور ويكاشفها أمام التحول الحاصل في مجتمعه فهو يحاول عبثا البحث والتنقيب في عبارات وأوهام الزمن الغابر, فالكثير من يريد إعادة أنتاج أيديولوجيته الشوفينية الماضية بهموم المجتمع وقوته اليومي من خلال تمازجها بطروحات طائفية يراد منها تزييف الواقع ونشرها بين الناس .
هؤلاء يعيشون في ضمير ظلامي مغيب عن الواقع ويحلمون بعودة زمن الأفاعي الغليظة التي تملك السم الأكبر لحقن أوردتهم. وان ثقافة الصراعات الطائفية لا تحقق إلا الدمار البشري, وان هذا الاتهام لا يتعدى رجال الدين و مفكريهم ومثقفيهم الذين ربما لهم الباع الأكبر في إلزام المجتمع بنبذ ظاهرة الطائفية أو التمسك بحبالها. فهم ملزمين أمام الله والوطن بمهمات كبيرة وكثيرة:
أولا – توحيد صف الدين وإعلاء كلمة الله.
ثانيا – عقلنة الدين من خلال تفسير عقلاني لبنية الدين التي تشكل قاعدة أساسية للكثير من المذاهب , وكذلك حث الناس للانتماء الوطني أكثر منه للطائفي وهذا مما يؤدي نتاجا طيبا على المجتمع ككل.
لذا على النخب المثقفة العربية والعراقية أن لا تغرق في وهم الطائفية التي تنخر المجتمع وتشتت وحدته. وعلى المثقف أن يذيب العصبيات الطائفية المتوارثة من الأزمنة الغابرة وصهرها في بوتقة المجتمع, وان لا يفقد مهمته في اتجاه التغيير, فتتحول مهمته المعرفية التنويرية إلى تحريضية ويتحول إلى عضو في جماعة تكفيرية ربما !! وقد يخسر دوره التاريخي والأخلاقي.