الحب.. ونهاية التاريخ-
حنا عبود –
من جملة الثقافات العملية ثقافتا الحياة والموت. ثقافة الحياة تدريب على الحذر والوقاية من التلوث المادي والمعنوي، والاهتمام بالجسد والروح، وخدمتهما بلا مبالغة تصل إلى عبادة الجسد، أو تأليه الروح. وهي الثقافة المناهضة لثقافة الموت، أو ثقافة القتل، ليس بمعنى التسليم بالقائم، بل بالتربية التي تزيل أسباب العنف، من غير أن تكون هناك مواجهة مباشرة. فثقافة الحياة تربية طويلة الأمد، بينما ثقافة الموت تدريب مباشر. وثقافة الموت- للأسف- هي الأقوى، وبخاصة في العصور الحديثة. هناك تحوّل كبير جرى في القرن الرابع عشر، جعل ثقافة الموت تتخذ منحى جديداً. فقبل ذلك كانت ثقافة القتل تقوم على معرفة الخصم أو العدو، ثم تقدم له صورة مهددة للكيان، بحيث توحي أن المعركة مصيرية، وأن الانتصار يفتح كنوز الثروة، كما يفتح أبواب السماء، لمن يؤمن بالحياة الآخرة… وهي ثقافة الموت الكلاسيكية المعروفة. فعلى سبيل المثال كان الفارسي عند اليوناني مثال التوحش والاستبداد، وكان اليوناني عند الفارسي العدو الذي يريد الخلاص من إمبراطوريته ووجوده، فكل يعرف الآخر ويصوّر خطره ويجعل المعركة مصيرية. لندع ثقافة الموت الكلاسيكية، وننتقل إلى ثقافة الموت الحديثة في القرن الرابع عشر، عندما ظهرت الأسلحة النارية التي اخترعها الغرب واحتكرها وفرض بها سيطرته ولا يزال. ميزة الأسلحة النارية أنك لا ترى من تقتل، ولا يراك من يقتلك. لم يعد هناك بطل يخرج من بين الصفوف ويطلب مناجزاً من صفوف الأعداء، فتحسم المبارزة معركة وقودها مئات الجثث، بل ربما في بعض الأحيان آلاف الجثث. ومنذ القرن الرابع عشر صرنا نسمع بأسماء الجيوش، من دون أن يظهر بينهما أبطال كما ظهر أخيل عند الإغريق وهكتور عند الطرواديين. لم يعد همّ القتل تحقيق المجد والكرامة، بل تحقيق النصر الذي يضمن المصالح المادية أولاً.
لم يعد التدريب على ثقافة الموت بحاجة إلى أربعة عشر عاماً يقضيها الفارس في القلعة، بل صار التدريب يستغرق بضعة أشهر، ما دام على قاعدة حرق المكان قبل التقدم. المهم تدمير المكان مدينة كان أو قلعة أو متحفاً أو روضة أطفال… فالبراميل المتفجرة والصواريخ الضخمة عشواء، بل عمياء. مبادئ الفروسية انتهت، فلا إكرام لـ «ليدي» ولا مساعدة لضعيف ولا معونة لمتعثر ولا إسعاف لطفل… باختصار عليك أن تقتل من دون أن تعرف مَنْ تقتل. هذه هي الثقافة الحديثة للموت، أو للقتل. ولا نعتقد أن البشرية وصلت إلى أدنى من هذا الانحطاط في كل تاريخها.
نأسف مرة أخرى أن ثقافة الموت متغلبة على ثقافة الحياة في التاريخ البشري، وعند كل الشعوب. فتاريخ روما استغرق 800 سنة لم تهدأ الحروب فيها. وكان للرومان إله، وهو جانوس ذو الوجهين: رب البوابات والبدايات والقناطر والأعمال والأحداث… وكان له معبد من أكبر المعابد، وكان مكرماً أكثر من كبير الآلهة جوبيتر، وبوابات معبده تفتح أثناء الحروب، وتغلق أثناء السلم. فلم تغلق على مدى التاريخ الروماني سوى بضعة أيام فقط، حتى إن بعضهم يقول- ربما ساخراً- إن بوابات جانوس التي أغلقت في الأيام القليلة إنما كانت بسبب تقارير خاطئة، تصل في اليوم الأول ثم تصحح في اليوم الثاني، فلم تغلق البوابات يومين متتاليين.
لو كان لدينا معبد لجانوس، لما أغلقت بواباته حتى ليوم واحد، فلو نظرنا في التاريخ العالمي لكان تاريخ ثقافة الموت، فالقتل قائم في كل مكان، بأسماء مختلفة: من أجل الحرية، من أجل الاستقلال، من أجل نصرة الدين، من أجل نصرة القومية… حجج وذرائع ما أكثرها وما أسهلها! إنها بالضبط تلك المواد التي توضع لتسويغ ثقافة الموت.
الولادة الميثولوجية
ثقافة الحياة تقوم على الحب. والحب لا يكون إلا بعد القتال والحروب والفتن والتناقضات والصراع المرير. قبل ذلك لا مبرر لوجوده. وبلمحة بارعة من الميثولوجيا اليونانية نرى الحب يولد من البيضة الكونية مع ترتاروس (الهوة المظلمة) وجيا (الأرض البدائية) كل عناصر هذه البيضة كانت متناقضة ومتصارعة، وحتى الآلهة عندما نشأت فإنها نشأت نشأة ضدية، كل واحدة يصارع الآخر… الحب وحده أزال الصراع بين العناصر الكونية وساهم في تكوين العالم ودفعه إلى التطور. وهذا ما دفع الناس إلى اعتباره إلهاً مبدعاً، بل اعتبروه أقوى من الموت، فهو الذي يحافظ على النسل وهو الذي يبعث الفرح والبهجة في قلوب الناس، وسلطته فوق كل سلطة، فيمكنه أن يأمر زيوس نفسه، بل إنه هو الذي رمى سهمه في قلب رب العالم السفلي فأحب برسيفوني وخطفها بعد أن دبّر خطة لئيمة.
لسنا بصدد سرد ميثولوجيا الحب، بل نؤكد فقط على سلطته القوية. وحتى خارج الميثولوجيا ظلت له هذه السلطة القوية التي تمسك العالم بوسيلة سلمية ناعمة هادئة، بعيدة عن السلاح والحرب والعنف. فالحب أقوى ما في الوجود، في الفكر الميثولوجي وخارج الفكر الميثولوجي. ونكتفي بهذا المقطع من رسالة بولس الأولى إلى أهل كورنثوس:
«إن كنت أتكلم بألسنة الناس والملائكة ولكن ليس لي محبة فقد صرت نحاساً يطن أو صنجاً يرن. وإن كانت لي نبوة وأعلم جميع الأسرار وكل علم وإن كان لي كل الإيمان حتى أنقل الجبال ولكن ليس لي محبة فلست شيئاً. وإن أطعمت كل أموالي وإن سلمت جسدي حتى أحترق ولكن ليس لي محبة فلا أنتفع شيئاً. لا نظن أحداً منح الحب كل هذه القيمة وهذه السلطة، كما منحه بولس في هذه الرسالة الفريدة من نوعها. ولا حاجة إلى عرض سلطة الحب في الأدب، ولا حاجة إلى القول إن الحب مكوّن أساسي في الأدب، مثلما هو مكوّن أساسي في البيضة الكونية. ماذا نذكر من قصص وروايات؟ هل نذكر «الأبله» أم «الجريمة والعقاب» أم «الإخوة كرامازوف» لدستويفسكي، أم «الحرب والسلم» أم «آنا كارنينا» لتولستوي أم نذكر «تس سليلة دربرفيل» لتوماس هاردي، أم نذكر «سوار العقيق» لكوبرين، و»آلام فرتر» لغوته، أم «رفائيل» و»جرازيلا» لـ لامارتين…؟ أم «جميلة» لجنكيز إيتماتوف أم «بالحب» لفاندا فاسيليفسكا. ولا تزال رواية «غادة الكاميليا» أو نسختها المسرحية تقرأ وتشاهد منذ أواخر القرن التاسع عشر وحتى اليوم. وللحب تلاوين لا تعد ولا تحصى لا يزال الأدب في كل العالم يلاحقها ويرصدها ويقدمها…
لكن لندع هذا أيضاً ولنلتفت إلى الفكر والفلسفة. والقاعدة المشتركة بين المفكرين والصوفيين المسلمين تلازم الحب والجمال، جمال كل الأشياء، حتى جمال الليل كما يقول جلال الدين الرومي، وبلغت الحماسة بالمفكر العربي زكريا إبراهيم أنه جعل الحب أعلى قيمة في الوجود، والقيمة التي تضفي قيمتها على كل القيم بلا استثناء. وغيّر كوجيتو ديكارت وجعله «أنا أحب فأنا موجود». وقد أكد لونجينوس الحمصي في كتابه «الجليل في الأدب» أن الحب يستولد الثالوث المشهور: الحق والخير والجمال. وشرح ذلك بصورة موسعة المفكر الإنكليزي إدموند بيرك في كتابه «الجليل والجميل». ولا حاجة إلى تكرار ارتباط الحب بالجمال، وهو ما اختصره الشاعر اللبناني إيليا أبو ماضي: «كن جميلاً تر الوجود جميلاً». ونكتفي بالوقوف عند نقطة كثر الحديث عنها وهي «نهاية التاريخ» وعلاقة الحب بها.
الحب والفلسفة
في الفكر والفلسفة يجب أن ينتهي التاريخ، فمن العار أن يكون للإنسان هذا التاريخ المشين. أنهاه كانط بطرح مبدأ أخلاق الواجب، التي بها ينتهي التاريخ، بينما عمد هيغل إلى العقل كنهاية للتاريخ، فعندما يتطابق العقلي مع الواقعي ينتهي التاريخ، لأن التناقض لا يتطوّر إلى الدرجة التي يتحوّل فيها إلى صراع. التناقض قائم بين العقلي والواقعي، ويصبح صراعاً في أوقات كثيرة إلى أن يزول التضاد بين التناقضات، فيصبح التناقض ميزة التفرد وليس ميزة الصراع، فكل فرد يتميز بسمة مختلفة عن سمات الآخرين، فقبول التناقض يصبح قبول الآخر، من غير نشوب صراع وجودي (قدم فوكوياما الديمقراطية تعبيراً عن ذلك، بينما ناقضه أستاذه هنتنغتون). وأراد تلميذ هيغل المتحمس برودون أن يطبق المبدأ الهيغلي فترجم تطابق العقلي والواقعي بالتعاون المنبثق من طبيعة العمل، ولا يكون هذا إلا بعد سقوط الدولة وملحقاتها من دين وملكية خاصة، فحقق- كما ظنّ- مقولة هيغل على أرض الواقع، وأضاف باكونين وكروبتكين مبدأ العنف لإسقاط الدولة…
وهناك تلميذ هيغلي آخر هو ماركس رأى أن التاريخ لا ينتهي إلا إذا انتهت الطبقات بعد الثورة الاشتراكية، وتحقيق مبدأ «من كل حسب طاقته، ولكل حسب حاجته».
أما نيتشه فالتاريخ عنده دوّار، يكرر نفسه، ولن ينتهي أبداً، فالسوبرمان كلما أسقطته الغوغاء يعود ويتجدد مثل طائر الفينيق.
هناك مفكر واحد جعل الحب نهاية التاريخ البشري، وهو أوغست كونت، فرأى أن الحب أساس نهاية التاريخ، وإلا فمن دون الحب لا يمكن حل شيء، ولا حتى التناقضات البسيطة، فمن دون الحب يمكن تصعيد أي تناقض مهما كان تافهاً إلى مرحلة الصراع، فيستمر التاريخ، بينما الحب وحده يحل التناقضات حلاً سلمياً، ويؤسس لقيام علاقة سليمة بين التناقضات، كما قال الشاعر العربي «وعين الرضا عن كل عيب كليلة». ولا يتوافر هذا إلا بالتربية الإنسانية السليمة، بحيث يكون قبول الآخر تسليما بقبول ميزته الذاتية المخالفة لذاتيتنا، من دون أن نرى في التناقض تهديداً لوجودنا أو كياننا، بل بالحب نرى في التناقض غنى للوجود الإنساني، وبذلك يبقى في المستوى المأمون والمضمون.
هناك من سخر من كونت، عندما طرح الحب كحلّ للتناقضات وكنهاية للتاريخ، بيد أنهم لم يقدموا بديلاً. وتقديم أي بديل يعني الوقوع في مقترحات المفكرين الذين أشرنا إليهم أو الذين تداولوا هذا الأمر من دون أن نشير إليهم: إما الصراع الطبقي أو اعتماد القوانين العقلية أو قيام حكومة عالمية، تشرف على إدارة التاريخ بحيث تنهي الصراع من العالم، وتبقي التناقضات في حال من التعايش السلمي…(مشروع كانط في الحكومة العالمية)
ليس كونت مفكراً عادياً، وليس، بطرحه الحب، كأساس في نهاية للتاريخ البشري، متناقضاً مع مذهبه الوضعي العلمي الشهير، فهناك تناقضات لا حل لها إلا بالحب، فبه وحده يمكن أن نتجنب تصعيدها إلى مرحلة الصراع. وقد أثبتت التجربة السويسرية والتشيكية والنمسوية، وسواها، صحة ما ذهب إليه فيلسوف العلم والمنطق والحب… وما الفدرالية في الأنظمة الحديثة إلا بداية لقبول الآخر، وتربية للحب، ونهاية للتاريخ القذر.
يحاربون من أجل
أصحاب هذا المشروع «ثقافة الموت» دائماً يدعون أنهم يحاربون من أجل الله أو الشعب أو المقاومة أو الممانعة أو التحرير أو الوطن أو الأمة أو الكرامة والعزة أو إعادة الأمجاد أو حماية الأعتاب والمزارات… هذه الثقافة لا تعرف من الفن سوى الأناشيد والمارشات وصور «البطولات» و»الأمجاد»… وهذا ما تمارسه المحطات الفضائية بكل فخر، بل تباهي بأنها بعيدة عن الفن «الفاسق» وتقصد أغاني الحب والمرح..
جريدة الاتحاد الاماراتية
05 مارس 2015