ترجمة :الدكتور أبو بكر احمد باقادر –
إعداد باجد العضياني
مقدمة
العنوان الرئيسي للكتاب :
Weber and Islam A Critical Study by Bryan Turner
Routledge and Kegan Paul, London, 1974
يتكون الكتاب من احد عشرة فصلا ، من الفصل الأول إلى الفصل الرابع سماءه الجزء الأول ، ومن الفصل الخامس إلى الفصل الثامن سماه الجزء الثاني ومن الفصل التاسع إلى الفصل الخامس عشر سماه الجزء الثالث .
في هذه الدراسة لفيبر والإسلام وجدت انه من المفيد التفريق بين نظرية الأخلاق البروتستانتية كقضية جدل محددة حول العلاقة بين الكالفينة والمتأخرة والرأسمالية الغربية و أطروحة فيبر كدراسة موسعة في الفروق التنظيمية والثقافية بين المجتمعات الشرقية و الغربية . ان تحليل فيبر لمجموعة من النظم مثل القانون والمدينة والقوة والسوق والطبيعة – التي طبعت التاريخ الغربي قدمه في عده دراسات عن الهند والصين واليهودية القديمة و أوربا . وعلى الرغم ان تحليل فيبر للإسلام لم يكتمل قط الا ان الإسلام له أهمية خاصة في كل أعمال فيبر ، وعليه فهو أمر يستحق الدراسة .
ولقد عالج تــيـرنر في هذا الكتاب فلسفة ماكس فيــبر في العلوم الاجتماعية والمشالك التي تـعــترض هذه الفلسفة ثم بعد ذلك استخدام منطلقات فــيبر نفسه لــينقــد معالجة فيــبر للإسلام وذلك في معالجة لمسألة ظهور أو نشــأة الإسلام ودراسة شخصية النبي صلى الله عليه وسلم الإلهامية وفكرة الله والإنسان في الإسلام بل ومدى العلاقة بين الإسلام في صورته السنية الرسمية الصحيحة والتصوف مقارنة بالمسحية ثم بعد ذلك درس الحياة الــتنــظيمية والسياسية فدرس آراء فيــبر في مســألة الحكومة الوراثية ومشكلة إنــتقال السلطة كما فسرها فــيــبر في الإسلام ومشكلة التحضر والفقة أضافة إلى تعليل فــيبر في تدهور وسقوط الدولة العثمانية .
هذا وعالج تــيــرنر مدى العلاقة بين أفكار المصلحين المسلمين وأفكار فــيبر حول الأخلاق البــروتستانية وعلاقتها بروح الرأسمالية معــرجاً بأفكار فــيبر عن العلمانية وكيفية موقف الإسلام حيالها وأخــتــتم دراســته النقدية برأي مفاده أن نظرة فيــبر وماكس للإسلام تكاد تكون واحدة . ففــيبر يتكلم عن الإستـــبداد الشرقي والحكومية الوراثية وماركس عن أسلوب الإنتاج الأسيوي .
ودراسة تــيرنر نقدية عمــيقة إنتقد فيها فيبر نقداً موضوعياً يستخدم فيها نظريات فيبر نفسه .
تصور فــيبر للإسلام : ـ
والحقيقة أن فيبر قد لاحظ في مقدمه دراسته الأخلاق البروتــستانــتــيه وروح الرأسمالية بطريقة مضطرده , أن هناك ظروفاًً ضرورية نظامية معينة من بين تلك اللازمة للرأسمالية العقلانية كانت موجودة في حضارات أخرى . ويبدو من هذا أن فيبر يقصد ضميناً الأخذ بالرأي السبــي الذي يمكن أن يعطي لهذه الآراء الرشيده .
ولقد وجد فيــبر عند دراسته للهند والصين والبلاد الإسلامية في الشرق الأوسط أن العديد من المتطلبات النظامية اللازمة لنــشأة الرأسمالية مثل ( القانون العقلاني , والأسواق الحرة والتــقــنية ) لم يكن لها وجود ولم يتمكن فــيبر بناء على ما توصل إليه من نتائج أن يــخــتبر أهمية الزهد بمفرده مع تــثــبيت مظاهر التطور النظامية الأخرى , ولتوضيح ذلك يكفينا أن نمعن النظر في تعليقات فــيبر السوسيولوجية على الإسلام.
فمن ناحية , تبدو ملاحظات فيــبر عن الإسلام كما لو كانت نوعاً من النتائج السوسيولوجية المترتبة على تحلــيله للأخلاق البروتســتانــتيه . وفي المواقع نظر فيــبر إلى الإسلام , على أنه نقيض من جوانب عديدة لمذهب التطــهرية , فالإسلام في رأيه يــتــبنى إتجاهاً شهوانياً خالصاً , خاصة تجاه النساء والكماليات والملكية . وفي ضوء الأخلاق والمجاملة في القرآن يخــتفي الصراع بين المتطلبات الخلــقية والدنيوة .
ويترتب على ذلك أنه لا يمكن أن تــبرز أخلاق زهدية للسيطرة على العالم في الإسلام.
وقد يجعلنا هذا نميل إلى تفسير رأي فيــبر على أنه يقرر أنه طالما يختــفي الزهد في الإسلام فأن هذا يفسر عدم ظهور الرأسمالية العقلانية عن المجتمعات التي سيطرت عليها الثقافة الإسلامية , وبإمكاننا أن نـــتـبنى هذا الموقف فقط إذا استطعنا أن نوضح أن فيــبر يبقي على الظروف الضرورية للرأسمالية العقلانية ثابتــة .
وأن محور تصور فيبر للمجتمع الإسلامي يتمثل في المقابلة بين الطالع العقلاني والمنظم للمجتمع الغربي خاصة في ميدان القانون والعلوم والصناعة وبين الأوضاع التــعــسفية وعدم الإستقرار السياسي والإقتصادي في الحضارات الشرقية وبالذات في الإسلام .
ويكرر فيــبر في أجرائه لهذه المقابلة بين الشرق والغرب ولكنه يتوسع أيضاً في وجهة النظر المتعلقة بالإختلافات الشرقية والغربية والتي كانت شائعة لدى علماء السياسة والفلسفة والإقتصاد بين التقلــيديين في القرن التاسع عشر , فالإقتصاديون الكلاسـيكيون والفلاسفة الشموليون من أمثال آدم سميت في كتابه (( ثورة الأمم )) وجيمس ميل في كتابه ” تاريخ الهند البريطانية ” وجون ستوارت ميل في كتابه ” أسس الإقتصاد السياسي ” كانوا يعتقدون بوجود فرق شاسع بين أوربا الأقطاعية والإستــبداد الشرقي وأن الأخير قد مهد لظهور ظروف إقتصادية جامدة قاتلت ضد نمو الرأسمالية . لذا فأنه ليس غريباً من كارل ماركس الذي تعلم الكثير من الفكر البريطاني الإقتصادي أن يبــلور هذه الأفكار تحت مفهوم أسلوب الإنتاج الأسيوي , والشي الأكثر أهمية أن يمكن أن نوضح أن مفهوم ” الســيطرة الأوثية ” لدى فيبر يماثل من الناحية التصورية مفهوم المجتمع الأسيوي لدى ماركس بأن النقطة الرئيــسية في تحليل فــيبر للإسلام أن أخلاق المحاربين القدامي لم تكن هي السبب الذي عاق نشــأة الرأسمالية ولكن أوضاع المجتمع الشرقي السياسية والإقتصادية كانت ترفض معادية بشدة لمتطلبات الرأسمالية .
وأن فيبر حينما إبتدأ في دراسة الإسلام ركز على طبيعة المجتمع الإسلامي من النواحي السياسية والعسكرية والإقتصادية كصورة من السيطرة الأرثية .
وعالج دور القيم كشــيء ثانوي ومعتمداً على الأوضاع الإجتماعية الإسلامية , والتزاماً منه بموقف مثل هذا لم يختلف فيبر في تحليله كثيراً عن ماركس وأنجلز اللذان أدعيا أن طريقة الإنتاج الأسيوي التي تتصف بها الهند والصين وتركيا أنتجت نظاماً إجتماعياً ثابتاً غير متوافق مع الرأسمالية . وباستعراض التراث المعاصر عن تاريخ الشرق الأوسط الإسلامي لا أستطيع أن أجد ما يناقض أو يكذب وصف فيبر للإسلام كنظام أرثى .
ولو أن فير تمسك بالتفسير القائل بأن التوترات التي فرضها البناء السياسي والعسكري قد حالت دون تطوير تصنيع إسلامي لكان أنجازه في هذا الصدد يلفت النظر حقاً .
ليس من الغــريب أن يكون قديس اللاهوت البروتستانتي ــ الذي كان من خلق نظام اجتماعي ولاهوتي مختلفة ــ شخصاً مختــلفاً كلياً ــ فالقديس البروتستاني بعد أن تجرد من قواه المعجزة أصبح عبارة عن تجسد مجرد للطهارة والحضور الإلهي .
هذا ما كانت عليه تماماً حالة البروتستــانــتيه رائدة العلمانية في المسيحية التقليدية وأصبحت دين الفــردية والنزعــة الصناعية حيث لا مكان للأعياد والحج والآثار المقدسة أو التــنقلات , وكما لا حظ بــيتر بيــرجر أن البروتســتانـتية تــســببت في حدوث تقلص لا مفر منه عالم المقدسات والمعــجـزالت الذي كان يستمد منه القديــسين قوتهم .
فالقديس هو شخص مقدس يقدم للكنــيسة باعتــباره يحظى بالشرف والاعتــزاز وإضافة إلى ذلك يقدم البابا القديس للناس , مع أنه يمكن التشكك في كل التفاصيل التي تعــزى إلى البركة , إلا أن الشك في القديس هو شك في سلطة البابا. وبالتالي هو شك في الكنـيسة العالمية . وعليه فإن القديس الذي يبتدع يناقض ما جاء به هذا المفهوم , ولتجــنب وجهات النظر الإبتداعية فإن حياة وتعاليم المتقدم للقديسية يجب أن تدرس بدقة فائقة .
وأن ما يمكن اعتباره قديساً في التراث المسيحي هو اي شخص معــترف به ومسيحي وميت ويعتبر من أصحاب الجنة . وكل هذه الصفات مناقضة لما يمكن أن يسمى قديساً في التراث الإسلامي , إن الخصائص البارزة والمميزة لمفهوم القديســين والمربوطية في المسيحية والإسلام متناقضة وذلك لأنهما ينطلقان من إطارين دينــيين متعارضين . فالمصطلحات العربية ( مربوط ) أو ( درويش ) أو ( صوفي ) أو ( ولي ) لا يمكن ترجمتها إلى المفهوم المسيحي ” قديس ” وذلك لاختلاف الإطار التاريخي والنظامي والثقافي لكل من الدينيين . كما أن عملية الإعــتراف المركزية والمعقدة والمحددة هامة لفهم فكرة القديــسية في المسيحية . ونظراً لأن الإسلام يخلو من وجود كهنوت مركزي فإننا لا نجد مصطلحات رسمية أو متجانسة للمربوطية , وحينما يتحدث علماء الانثروبولوجيا الغــربية عن القديسيين في الإسلام فإنهم يتسخدمون المفهوم كإحضار لمجموعة مختلفة من الأدوار الإجتماعية . ويتعين عند المقارنة المنسقة للقديسية المسيحية والمربوطية الإسلامية مقارنة المفاهيم الإسلامية مثل ولي وصوفي ودرويش . الخ بالنظام المركزي للقديسية , ومثل هذه المهمة يخرج عن نطاق إهتمامنا الحالي , وقد يكون من الضروري إجراء نوعاً من المقارنة البسيطة , وذلك عن طريق بناء صورة مركبة للمربوطية الإسلامية .
ويأمل الصوفي في نهاية عملية طويلة من ضبط النفس والزهد والذكر والسماع والعبادة أن يحظى بـنشوة السعادة , وفي مثل هذه الأحوال يمكن أن يصرخ أو تصرخ ” ما في الجبة إلا الله ” ( كما قال أبو سعيد ) أو ( سبحاني ما أعظم شأني ) ( كما قال البسطامي ) أو ببساطة ” أنا الحق ” ( كما قال الحلاج ) . ويمكننا أن نرى مثالاً آخر على الصوفية الإبتداعية في حالة فريضة الحج التي يرفضها غالباً التصوف ــ فيذكر نيــكــلسون متحدثاً عن أبي سعيد ( 967 ــ 1039 ) قائلاً .
لقد امتدح ماكس فيبر بسبب طريقته المنهجية التي كان من بين ما تضمــنته البدء بتعريف الفاعل للموقف والأفعال ذات المــغــزى وبفهم تصورات الفاعلين .
فلكي نفهم شخصاً يقوم بفعل اجتماعي فإننا نحتاج لفهم مقاصده من القيام بهذا الفعل ,وفي النهاية لفهم الفاعل يتطلب الأمر فهم التصورات والمصطلحات والمقولات التي بواسطتها يصف أفعاله ويبررها ويفسرها , ومع أن فيــبر قد قبل هذه الإجراءات كجانب ضروري في أي بحث إجتماعي إلا أنه غالباً ما تجاهلها في أبحاثه . فنجد مثلاً أن فيبر في كتابه ” علم الاجتماع الديني ” يشير إلى مجموعة من المترادفات المختلفة تحت مصطلح ” قديس ” و Thaumaturge و ” درويش ” و ” صوفي ” دون أن يضع في إعتباره مشكلة مدى إمكانية إنطباق هذه التــعــبيرات والمصطلحات , وبالمثل يقول لنا فيبر أن الإسلام ” يعد كلية عن أن يكون له تحكماً فعلياً ومهجياً للحياة ” وذلك بقدوم ظاهرة الأولياء ثم أخيراً باستخدام السحر ” , ويمكن الرد على مثل هذا التأكيد بالقول بأن الإسلام لا يمكن أن يتحول من خلال أمور ليست أ سة فيه , ولقد حاولت من مناقشتي للنظم المربوطية أن أوضح أنه لم يكن للإسلام ــ لما له من طابع سوسيولوجي خاص وتقاليد ثقافية معينة ـ ولا يمكن أن يكون له أدوراً إجتماعية تتطابق تماماً مع أدوار القديسين المسيحين . حقاً لقد كان في الإسلام شيوخ , ولكن أبداًَ لم يكن فيه قديسون.
الإصلاح الإسلامي وعلم اجتماع الدوافع :ـ
بالرغم من أن فيبر لم يكن قادراً على تكملة علم اجتماعه للحضارات بدراسة تفصيلية عن المجتمعات الإسلامية , إلا أن الواضح من المصادر التي اهتمت بالإسلام في رأي فيبر أن المــسألة الرئيــسية في التطور الإسلامي كانت هي سيادة السيطرة الوراثية . ولعد قرون قبل سقوط الدولة العثمانية في العصر الحديث كانت الحضارة الإسلامية أمة مــجــزأة إلى دويلات صغيرة أو تحكمها جيوش مرتزقة في خدمة الدولة الوراثية ( كالعباســيين والمماليك والعثمانيين ) ويأخذ هذه الصيغة الغالبة للقوة في الإعــتبار , فإن المجتمعات الإسلامية لم تستطع أن تطور تلك النظم التي كانت هامة في الغرب لنشأة الرأسمالية الحديثة , ولقد حاولت في فصول سابقة أن أوضح كيف أن الوراثــية لم تكن تتوافق مع الطبقة البرجوازية النشطة وتنظيمات المدن المستقلة والقانون الرسمي المستقل ولكن مع ذلك فإن ما يميز اجتماع فيبر أنه يذهب أبعد من مجرد الوصف الشكلي للتنظيم والبناء الإجتماعي ففــيبر قد اهتم فوق كل شيء بتوضيح الإتجاهات والدوافع ونظرة الفاعلين الإجتماعيــين للعالم وهم متفاعلون في مواقف ذات معنى . وبالنسبة لفيبر فإن الفعل الإجتماعي هو إضفاء معني للأشخاص والمواقف وبذلك فإنه يمكن فهم علم الإجتماع الديني عند فيبر كمحاولة لــتــنــميط الدوافع السائدة والاتجاهات التي تكمن وراء التــقاليد الدينــية والتي يمكن أن يكــتسبها الفاعلون الإجماعيون . ولقد لا حظ فيبر في ” علم النفس الإجتماعي للأديان العالمية ” مثلاً بأن الدوافع العقلاني النشيط والمنتمي لهذه الأديان العالمية ( this worldly ) كان قد تلخص في المفهوم البروتســـنــتي لفكرة الدعوة ( calling ) التي هي على طرف نقيض للدوافع الأخرى للأديان الآســيوية المتباينة وبالذات البوذية . كان فيبر يقصد بالمصطلح ” دوافع ” مجموعة معقدة من المعاني الذاتية التي تبدو للفاعل نفسه أو للملاحظ كخلفية مناسبة للسلوك موضع النظر . والدوافع كما يفسر في علم الاجتماع عبارة عن تفسير لفظي يزودنا بوصف أو تفسير أو تبرير لسلوك كان قد جذب انتباه الفاعل الإجتماعي . وتعد الدوافع إجابات مقبولة لمثل هذه التساؤلات ” لما ذا فعلت هذا ؟ ” وكلا من التساؤلات والإجابة على الدوافع تدخل ضمن سياقات محددة ومواقف بحيث أن تساؤلات معينة والإجابة عليها هي التي تعتبر مناسبة . وفي الثقافات التي ما زالت تسيطر عليها النظم والمعتقدات الدينية يعــتبر السؤال عن الدوافع التي تجعل شخصاً ما يذهب إلى الكنيسة باستمرار أو يعطى الصدقات أموراً غير مناسبة وفضولية ولكن عالم الاجتماع الحديث في أحد الأقسام الجامعية قد يحتاج لتـبرير مثل هذا السلوك وذلك بالإشارة إلى بعض الدوافع التي يمكن أن توضح الأمر , وبإختصار نحتاج لفهم الدوافع أن نحلل السياقات الإجتماعية التي ظهرت داخلها وعلينا أكثر من ذلك أن نعــترف بأن الدوافع الذاتية للعلاقات الشخصية تتأثر إلى حد كبير بالتغــيرات الاجتماعية الكبرى في الظروف الثقافية والإقتصادية للمجتمعات .
ماركس وفيبر والإسلام :ـ
هناك عدد لا يحصى من المنظورات التي يمكن أن يأخذ بها الباحث في دراسته لفــيبر معتمدة من ناحية على القضايات التي يطرحها وعلى الإختيار الشخصي للباحث نفسه من ناحية أخرى . والإخــتيار أمر ضروي في حالة ماكس فيبر حيث لا توجد حلول قاطعة للمشاكل التي أثارتها تفسيرات علم الاجتماع عنده . وفي هذه الدراسة لفيبر والإسلام ــ وجدت أنه من المفيد التفريق بين نظرية الأخلاق البروتــستــنــتية كقضــية جدل محددة حول العلاقة بين الكالفــنية المتأخرة والرأسمالية الغربية وأطروحة فيــبر كدراسة موسعة في الفــروق التــنظيمية والثــقافية بين المجتمعات الشرقية والــغــربية . إن تحليل فيبر لمجموعة من النظم مثل القانون والمدينة والقوة والسوق والطبقة ــ التي طبعت التاريخ الغــربي قدمه في عدة دراسات عن الهند والصين واليهودية القديمة وأوروبا , وعلى الرغم من أن تحليل فيبر للإسلام لم يكــتمل قط إلا أن الإسلام له أهمية خاصة في كل أعمال فيبر , وعليه فهو أمر يستحق الدراسة بشيء من التفصيل.
إن تعليقات فيبر عن الإسلام التي كانت مــتناثرة بين جوانب علم الإجتماع عند تنحصر تقريباً في قطاعين أولهما تفسيره لمحتوى الأخلاق الإسلامية التي يؤكد فيبر على جانبين اثنين لها , فعلى الرغم من أن الإسلام ظهر في مكة كدين توحيدي تحت الإشراف النبوي لمحمد صلى الله عليه وسلم إلا أنه لم يتطور إلى دين تزهدي في هذا العالم لأن حملته الأساسيــين كانوا طبقة المحاربين بل أن محتوى الرسالة الدينية تحول إلى مجموعة من القيم التي تتــفق مع الحاجات الدنيوية لطبقة المحاربين . وتحول عنصر الخلاص في الإسلام إلى طلب علماني للأرض وكانت الــنتيجة أن أصبح الإسلام دين توافق وتكيف أكثر من دين تحول وثانياً أن رسالة مكة التوحيدية تغــيرت بالتصوف الذي خلق لتــلبــية الإحتــياجات العاطفية والروحية للجماهير وكانت الــنتــيجة أنه بينما قادت طبقة المحاربين الإسلام في اتجاه الأخلاق العسكرية قادت المتصوفة الإسلام وبالذات الإسلام الشعبي في اتجاه دين الهروب الصوفي . وفي هذه النقطة يتجه فكر فيبر إلى أن الإسلام لا يحتوي على أخلاق تتــفق أو تتــلاءم مع ظهور الرأسمالية العقلانية . ويمـــكــننا أن نـــتــقد هذا الجانب في نظرية فيبر لخطأ في المعلومات والمعطيات أو على الأقل لمبالغته في التــبسيط , فلقد كان الإسلام وما يزال ديناً حضرياً للتجار وموظفي الدولة وتعكس مفاهيمه الرئيــسية الحياة الحضرية لمجتمع تجاري في مقابل قيم الصحراء والمحاربين .
أما الأخلاق المحاربين التي يصفها فيبر فقد مثــلت ببــساطة منظوراً دينياً كان ينظر إليه بشيء من الشك والريبة والعداء من الإسلام السني , وجدت أنه من الضروري إنتقاد فيبر لافتراضه بأنه يمكن بسهولة مقارنة فكرة القديــســيين في المسيحــية بشيوخ الطرق في الإسلام بدون وقوع أخطاء تصورية خطيرة ومع ذلك كانت معالجة الأخلاق الإسلامية تمثل مجــرد جــزء صغير.
ولم يكن هذا الصراع مجرد قضية نظرية بالنسبة لفيــبر , فكما ذكرنا سابقاً اهتم فيبر بتولســتوي وبالمعضلة التي أثارتها أخلاق الغايات العليا وأخلاق المسـئولية . إن مشكلة الإختيار ( أو الرسالة ) بين الإنشــغال السياسي والأمانة الأخلاقية لم تكن ببــساطة تدريباً أكاديمياً بالنسبة لفيــبر ولكنه كان يكتب مجازاً قصة حياته من الطفولة إلى الموت وبدون أن نكون خياليــين جداً فإن التوتر بين هذه القيم قد تمثل لفيــبر من خلال التــناقض الذي كان يمثله والديه . فلقد كان ماكس فيبر الوالد ممثلاً بارزاً للبرجوازية الألمانية وقيمها ــ فلقد درس القانون وأصبح عضواً في مجلس الشيوخ في بروسيا والدولة Reichsgag وكان يساند الجناح اليساري الموالي لحرب بسمارك اللــيبرالي , ولقد أدى ذلك بماكس فيبر الوالد إلى حياة ناجحة مريحة ومادية و ” مثل كل اللــيبراليين الوطنيين في زمانه كان إهتمامه بالدين ضعيفاً ويمكن في أفضل الحالات أن يطلق عليه بروتستاني ليبرالي غير مــكترث وعلى العكس من ذلك كانت والدته هيلين فيبر ( أو فالــينشتاين ) قد تلقت كالــفنية شاملة من والدتها وقضت معها معظم أوقاتها تدرس اللاهوت المثالي , أما عن عدم التوافق بين والدي فيبر فلم يكن محصوراً في قضايا السياسة والدين بل كان يشمل علاقتهما الشخصية والجنسية فقد استحضــرت هــيلين فيبر البرودة الجنسية الكالفنية إلى سرير زوجها . وبعد وفاة طفلتهما في 1872 م كتبت ماريان فيبر في كتابها عن حياة ماكس فيبر معلقة ” أصبحت هيلين خلف حجاب الرفض للعالم والوحدة الداخلية وبذلك استمرت في الإبتعاد عن زوجها” .
ولقد انغمس ماكس فيبر عاطفياً في الصراع القائم بين والديه بين الدنيوية والتقوى وقبل القيم البرجوازية والأسلوب الشخصي لوالده خلال مراحله الجامعية الأولى حتى أنه كان في هيدلــبرج قد تقمص حياة أبيه الخصبة بالمغامرات باشتراك في نفس نادي الفروسية الذي كان فيه والده وتذوق البيرة وحذق الفروسية ولكن حياته مع تــغيرت فجأة في سراتسبورج تحت تأثير هرمان بامجارتن وبالذات إياده بامجارتن أخت هيلين فيبر . فلقد أصبح فيبر عن طريق تعالم ومثل عائلة بامجارتن يتذوق قيم التقوى التي كانت أمه تمثلها . وتعرف في سراتسبورج على اللاهوت الخلقي على يد الأستاذ شاننج الذي كان له تأثيراً عميقاً على نظرة فيبر الخلقية وبالذات النسبة للإلتزام فيبر للفرد المستقل , وقد أدى تقديره واحترامه العالي لإياده بامجارتن إلى إعجابه في فترة متأخرة بأخلاق تولوستوي والغايات النهائية , وفي هذا الإطار نمي تذوق فير للقيم المثالية ووقع فيــبر في حب أمي ابنة عائلة بامجارتن. واستمرات هذه العلاقة من 1886 إلى 1892 م ولكنة عانى كثيراً من تدهور الحالة الصحية والعقلية لأمي . وبعد هذه السنوات التي عانى فيها قرر فيبر أن يفترق عنها وأصبح واضحاً أن أمي لم تكن صالحة له , ولقد كانت هذه الحقيــقة مســئولة جــزئياً عن اقتراح فيــبر على ماريان ستــنــجر الزواج في 1893 م ولكن الإختيار بين أمي وماريان يعبر عن إختيار واضح بين المســئولية والرغبة وكان زواج فيــبر من ماريا مليــئاً بالشــعور بالذنب .
إعتمدت نظرة فيبر الأخلاقية على خليط من التقوى والإلزام المقولي لكانط , فبالنسبة لفــيبر كانت الأخلاق الحقيقــية الوحيدة هي أخلاق البطل كما يسميها , وهي التي تقوي الناس لأختيار النظام والتحكم في النفس وقبول المســئولية الكاملة لذلك . ولكن كان الصدق الشخصي Self- indulgence الطرف النقــيض في ميزان فــيبر الخلقي , وحيث أن فيبر نفسه عايش المضمون الخلقي البروتـــســتنتي فليس من الغــريب أن تشكل حياة فيبــر الجنسية مشكلة عويصة له , فكما هو معــروف أن فــيبر لم يستكمل زواجه وبقي الزوجان بدون أطفال ومن بقايا وثــيقة كتبها فــيــبر لطبيب نفسي خلال مراحل زوجه الأولى يظهر أن لياليه التي افتقد فيها النوم من بين 1898 إلى وفاته في عام 1920 م كانت ” تعتمد على الأقل جــزئياً على الخوف من القذف الليلي الذي يفــتقر إلى التحكم ” , ولم يكن التناقض بين التــزهد والعالم وبين العاطفة والحرمان ببــساطة قضية أكاديمــية بل كان مشكلة محيرة بعيشها فــيــبر , ومع أنه كان من الناحية الفكرية عدوانياً Agnostic إلا أنه كان ملـــتزماً بالأخلاق البروتــســـتــنــتيه من الناحــيــتين الأخلاقية والعاطفية .