علاقة الدولة بالمجتمع في العراق .. ملاحظات واراء
استضافت مؤسسة الحوار الانساني بلندن يوم الاربعاء المصادف 25 تشرين الثاني/نوفمبر 2020 على منصة زووم الدكتور سعد عبد الرزاق في أمسية ثقافية سلط فيها الضوء على طبيعة العلاقة بين الدولة والمجتمع في العراق منذ تأسيس العراق الحديث حتى اليوم.
الدكتور سعد عبد الرزاق حاصل على شهادة الدكتوراه من جامعة براغ في علم الاجتماع، مارس التدريس في العديد من الجامعات العربية، وهو رئيس وحدة البحوث الاجتماعية في مركز الدراسات الاستراتيجية في بيروت، و له العديد من الدراسات والابحاث تتعلق بالوضع الاجتماعي العراقي.
المقدمة
لاجل حصر موضوع علاقة الدولة بالمجتمع، والعوامل التي اثرت على تركيبة المجتمع العراقي، سأعتمد على مفهومين من مفاهيم علم الأجتماع السياسي، وهما:
المجتمع يصنع الدولة والدولة تصنع المجتمع
إن أغلب المجتمعات الحديثة سارت على طريق أن المجتمع يصنع الدولة، بمعنى أن الدولة تتأسس في ضوء تركيبتها الأجتماعية: طبقات، فئات، مؤسسات اقتصادية وأحزاب سياسية ومنظمات اجتماعية، وغيرها، هذه جميعها تتمثل بهذا الشكل أو ذاك، في طبيعة الدولة وسلطتها الحاكمة. ومن أهم النظريات السياسية التي تتبنى هذا المعيار هي “التعددية” و”الماركسية”. أما أصحاب الاتجاه الثاني، الذي يؤكد تدخل الدولة في بنية المجتمع وتغيرها بالشكل الذي يخدم مصالحها أو مصالح بعض مكوناتها، فتمثلهم نظريات: “الليبرالية الجديدة”، و”نظريات النخبة”، و”مؤسساتية الدولة”. وهناك عدد من النظريات السياسية التي تقف في الوسط بين المفهومين، كما أن بعض التطبيقات الحديثة من هذه النظريات تحركت صوب الجانب الثاني من المفهوم، فتلك التي تؤكد على أن المجتمع يصنع الدولة، تقربت من تلك التي تؤكد أن الدولة تصنع المجتمع، والعكس صحيح أيضاً[1].
إن دراسة مجتمعات العالم الثالث من الدراسات السوسيولوجية الخاصة والمعقدة، خاصة إذا علمنا اننا نتناول مجتمعات في مرحلة إنتقالية من مجتمعات تقليدية، قديمة الى شكل من اشكال المجتمعات الحديثة. فهي تتشابه في بعض الوجوه مع ماضي المجتمعات الغربية الحديثة، ومن ناحية أخرى تسودها مظاهر المجتمات القديمة الصغيرة. وربما ان اول مظهر من مظاهر هذه المجتمعات هو هذا التضارب والتناقض بين مكونات هذه المجتمعات، حيث يركب الجديد على القديم، وما ان تحين الفرصة حتى ينقض القديم على الجديد، وهكذا. وليست هذه المجتمعات معزولة عن بقية العالم، بل انها في تتأثر بما يجري حولها من تقدم عالمي وتكنولوجي، وربما ان بعضها في وسط هذا العالم السريع التطور.
سنتناول التغيرات التي اصابت المجتمع العراقي من خلال المراحل التالية:
١- نهاية المرحلة العثمانية في العراق (١٨٦٩-١٩١٤)
٢- الحرب العالمية الأولى وتأسيس الدولة العراقية (١٩١٤-١٩٥٨)
٣- قوانين كان لها تأثير في تغيير المجتمع (١٩٥٨-١٩٧٥)
٤- الدولة الريعية (١٩٧٥-٢٠٠٣)
٥- الأحتلال الامريكي وتدهور الدولة العراقية منذ ٢٠٠٣ ولحد الآن
١– نهاية المرحلة العثمانية في العراق (١٨٦٩–١٩١٤):
مع تولي مدحت باشا ولاية بغداد في الفترة مابين ١٨٦٩-١٨٧٢ حتى اصاب العراق مسحة اولى نحو التحديث، فالوالي الجديد كان متأثراً بالغرب وتقدمه. ولا اريد ان اطيل الكلام عن هذه الفترة المعروفة للجميع، سوى ان الوالي مدحت باشا قام بعدد كبير من الإنجازات نجح في بعضها وفشل في البعض الأخر. إلا ان اهم إنجازين له كانتا: خطة تسوية الأراضي و نظام الولاية الجديدة.
وتتلخص فكرة تسوية الاراضي في بيع اراضي صغيرة او واسعة بأقساط سهلة الدفع، على ان تبقى للشارين حرية التصرف بها بشكل تام، لكن الملكية الصرفة تبقى للدولة. وعلى هذا الأساس قامت دوائر الطابو بتسجيل ملكية الاراضي.
اما نظام الولاية فهو يقسم الولاية الى اقسام ادارية ترتبط احداها بالاخرى : ”ففي كل بلدة او قرية، مصنفة بحسب أهمية منطقتها، كان يوجد المتصرف او قائم المقام او مدير السنجق او القضاء او الناحية.
حافظت الامبراطورية العثمانية على تركيبتها الزراعية ماقبل الصناعة طوال الفترة التي حصلت فيها التغيرات الكبرى في اوروبا في القرن القرن الثامن عشر وتحولها نحو الصناعة وبالتالي التقدم والتحديث.
بعض من سلاطين عثمان تأثروا بالتغييرات التي حصلت في أوروبا، خاصة تلك المتعلقة بالمؤسسات الجديدة وتنظيم الجيش والأقتصاد والمجتمع وغيرها. ان اهم البلدان التي تاثرت بها الامبراطورية العثمانية هي فرنسا (بعد الثورة الفرنسية ١٧٨٩، وصعود نابليون وحروبه وغيرها) وكذلك روسيا في فترة القيصر بطرس الاكبر). وانعكست هذه على بعض السلاطين ولكن بصورة متقطعة، فهناك البعض منهم من أيد وانبهر في التغيير وهناك الذي رفضه، وهكذا تم تأثر بعض الولات بالغرب من الذين حكموا في اطراف الامبراطورية، ومنهم مدحت باشا.
وربما ان اهم سلطان اهتم بالتغيرات الاوروبية وتحديث الامبراطورية هو السلطان محمود الثاني (١٧٨٥-١٨٣٩)، والذي نصب سلطاناً في الفترة (١٨٠٨-١٨٣٩). وسمي ”بالسلطان الملحد“، كما سمي ”ببطرس الأكبر التركي“. اهتم كثيراً بالتنظيم الاداري وتنظيم الجيش والمؤسسات وعرفت مرحلته بـ“التنظيمات“ Tanzimat= reorganization، كما اهتم بتقليد الغرب من حيث المؤسسات ونظام القصور الملكية، والحياة اليومية، والموسيقى، وغيرها التي كانت تعتبر من المحرمات في ذلك الوقت، وربما هذه كانت تعتبر اولى بوادر التحديث في تركيا. وفي فترته كان قد تم نهاية حكم المماليك في العراق، عندما تم إقصاء الوالي داود باشا في ١٨٣١، كما حل الفيلق الانكشاري في ١٨٢٦.
ورغم ذلك لم تبتعد الدولة العثمانية في القرن التاسع عشر، عن دول العصور الوسطى من حيث مؤسساتها الادارية، ونظامها الاقتصادي، وتنظيمها الاجتماعي، التي تشير جميعها الى دول ماقبل الحداثة. وبقي اعتماد الدولة العثمانية على الضرائب التي كانت تأخذ من المزارعين او غيرهم، وإختلفت طرق جمع الضرائب بحسب الولايات العثمانية، فمثلاً في الموصل كان المزارعين يدفعون بنصف حصادهم كضريبة العشر، ويدفع رجال القبائل ضريبة على اساس عدد الخيام او عدد القطعان التي يملكونها. وبقي الخلاف على دفع الضرائب احدى اهم مظاهر النزاعات بين القبائل والحكومة طوال فترة الحكم العثماني.
بقي العراق طوال الحكم العثماني مرتع للقبائل العربية التي كانت تهاجر الى العراق من الجزيرة العربية. وبقيت اغلب هذه العشائر بدوية تنتقل من مكان الى اخر بحثاً للقوت والغزو، وحتى تلك التي استقرت بالزراعة ما تلبث ان تعود الى البداوة بسبب الصراعات والحروب مع القبائل الأخرى ، او بسبب فيضان الأنهر، أو بسبب ملوحة الأرض او الهروب من الضرائب المفروضة على المزارعين وغيرها.
ولم تهتم الدولة العثمانية بترويض القبائل ودمجها في المجتمع بقدر اهتمامها بجمع الضرائب منها، التي كانت تؤدي في الغالب الى القصاص من القبائل التي تتهرب من دفع الضريبة. وهكذا استمر القتال بين القبائل لأسباب تتعلق بنفوذ بعضها على الاخريات، وكذلك القتال ضد قوى الأمن المحلية والجيش النظامي.
تم إلغاء السلطنة العثمانية بعد نجاح الضباط الشباب الأتراك في إنقلابهم على السلطة عام ١٩٠٨، وجرى تكريس للقومية التركية من خلال سياسة التتريك، ثم بعدها بسنوات معدودة دخلت تركيا الحرب الى جانب المانيا والنمسا ضد الحلف البريطاني الفرنسي والروسي.
٢- الحرب العالمية الأولى وتأسيس الدولة العراقية (١٩١٤-١٩٥٨)
لم تمض سوى ايام معدودات على بداية الحرب العالمية الأولى حتى احتلت بريطانيا البصرة في نهاية عام ١٩١٤، التي كانت تعتبر محطة استراتيجية لربط الهند بالخليج ومن ثم بالشرق العربي. وشجعت اخفاقات الجيش العثماني في الرد على القوات البريطانية في التقدم نحو القرنة ومن ثم الاستعجال نحو بغداد، بعد ان تكبدت القوات البريطانية بخسائر كبيرة في الكوت، واخيراً تم احتلال بغداد في عام ١٩١٧، ثم انتهت الحرب في عام ١٩١٨. لكن المثير هو موقف العشائر خلال فترة الحرب، فمرة تقف عشائر مع البريطانيين ضد العثمانيين، ومرة اخرى يجري العكس، وقد تبدل عشيرة موقفها من البريطانيين الى العثمانيين والعكس ايضاً.
وتعتبر الفترة بين نهاية الحرب واعلان الأنتداب على العراق في عام ١٩٢١، من الفترات المهمة في تاريخ العراق. ففي البداية كان يبدو ان بريطانيا كانت تريد ضم العراق بشكل استعمار مباشر، كما حصل للهند، وهذا ما كانت تؤكد عليه الأدارة البريطانية في الهند. لكن خروج روسيا من الحرب في بداية عام ١٩١٨، ودخول الولايات المتحدة للحرب بدلاً عنها، بدل الكثير من المواقف المتعلقة بالمستعمرات في ذلك الحين. فرئيس الولايات المتحدة ويدرو ويلسن Woodrow Wilson ، كان متأثراً بفكرة حق الأمم بتقرير مصيرها، لم يكن يرضى بالإستعمار المباشر بل كان يهمه حصول المستعمرات على استقلالها، وذلك لما فيه من فائدة للولايات المتحدة من خلال التجارة الحرة مع هذه البلدان، كما حصل بين كثير من الأمم حسب مبادئ معاهدة ويستفيلي Westphalian principles في ١٦٤٨، التي اعتمدت السلام على اساس الدولة- الأمة. وهكذا كمساومة بين الولايات المتحدة والبلدان الاوروبية بخصوص المستعمرات الجديدة، جرى أبتداع فكرة الأنتداب، على اساس ان هذه المستعمرات غير ناضجة بعد للإستقلال، فينبغي تأهيلها من خلال ربطها بالدول المتقدمة لغاية حصولها على الاستقلال. وكان العراق بالطبع من حصة بريطانيا. لم يكن الأنتداب مفهوماً لغالبية الشعب العراقي، الذي بقي مطالباً بالإستقلال الكامل.
لم تكن فكرة بريطانيا من الحاق العراق بها واضحة في البداية، فيما يخص انشاء دولة ينتظم الأفراد فيها في مؤسسات حديثة، أو ان يتم الحكم فيها من خلال العشائر وشيوخها؟ لكنهم في النهاية اضطروا الى الآبقاء على الخيارين، فمن خلال قوانين ١٩٣٢-١٩٣٣ تحول رؤساء القبائل من الأوصياء على الأراضي بشكل تعاوني، والخاضعة لحيازة العشيرة، إلى طبقة كبار ملاك الارض، مستغلين عمل أفراد عشائرهم في الأرض، وبهذا تم تخلص بريطانيا من استخدام سلاح الجو لمقاتلة العشائر الثائرة، ومن ثم أصبحت تدريجياً طبقة كبار ملاك الأراضي، الطبقة السياسية الأساسية التي اعتمد عليها النظام الملكي حتى عام ١٩٥٨. اما في المدن فقد تم تأسيس مؤسسات حديثة تنظم عمل الأفراد وشؤونهم.
وتشرح أديث بيرنوز مسألة توزيع للأراضي الزراعية على شيوخ العشائر وتجار المدن بالشكل التالي: ”وبصورة عامة فقد كانت الاراضي تزرع من قبل الفلاحون الأجراء الذين يستوفى منهم مالك الأرض حصة كبيرة مقابل ايجارها لهم. وكان كثير من ملاك الأراضي يعيشون في المدن ولا يهتمون كثيراً بالأرض، في حين كان الفلاحون المستأجرون يفتقرون الى الطمأنينة بسبب عدم تملكهم للأرض، عدا عن كونهم فقراء جداً. وعلى العموم فلم يكن لهم دافع قوي للعمل في الارض أو تحسين أساليب الزراعة لديهم. وكانت الحراثة في غالبية اقسام العراق تتم بالطرق البدائية وأداتها خشبة توضع على رأسها قطعة حادة الرأس من الحديد وتسحبها الحيوانات، وكانت البذور تنثر باليد، وكان الحصاد يتم مثلما عليه في العصور القديمة. ولكن بدأت بعص الآلات الزراعية تظهر وخاصة في المنطقة الديمية في الشمال وفي مناطق الري سيحياً ايضاً. وفي أكثر الحالات كان نصف الأرض يترك بوراً ليستعيد خصوبته، ولم تكن الزراعة الصيفية مستمرة على الدوام”.[2]
لقد تأخر ظهور طبقة صناعية في العراق بسبب ان إيجار الأرض والتجارة كانت تجلب ارباح سريعة ومضمونة، فكان توجه اغلب المستثمرين لمثل هذه النشاطات الاقتصادية وابتعادها عن مخاطر التنمية الصناعية.
٣- قوانين كان لها تأثير في تغيير المجتمع (١٩٥٨-١٩٧٥)
تتميز هذه الفترة بحدثين متميزين اثرت بشكل واضح على الطبقات والفئات التي يتكون منها المجتمع العراقي.
الأول: قانون الأصلاح الزراعي لعام 1958
الثاني: القوانيين الاشتراكية في عام 1964
قانون الأصلاح الزراعي لعام 1958:
بالرغم من السهولة التي تم فيها استبعاد النخبة الحاكمة للعهد الملكي يوم 14 تموز 1958, فقد تطلب التخلص من طبقة ملاك الاراضي، التي كانت تمثل القوة السياسية الداعمة للنظام الملكي، جملة من الاجراءات السريعة تمثلت أداته الرئيسية في تشريع قانون الاصلاح الزراعي “ولذلك اسرعت حكومة الثورة، ولم تستكمل الشهر الثالث من عمرها بعد، الى إصدار قانون الاصلاح الزراعي رقم 30 لسنة 1958، وقد وضع على غرار القانون المصري رغم عدم وجود أوجه شبه بين انظمة الزراعة في البلدين”.[3]
ولم تقتصر التغيرات الطبقية في هذه الفترة على كبار الملاك، بل شملت فئات الموظفين، والتجار، ورجال الأعمال، واصحاب المهن العليا وغيرهم. وربما ان اكبر تغيير اجتماعي حصل في هذه الفترة هي بدايات الهجرة الريفية للمدن، خاصة الى بغداد والبصرة، التي خلال خمسة عقود غيرت التركيب الاجتماعي للمدن، وحولتها الى مدن ريفية. والغريب في هذا، أن حصول الفلاحين على الأرض من خلال قانون الأصلاح الزراعي، لم يشجعهم على العمل والبقاء فيها، بقدر ما كان إغراء الهجرة الى المدن أقوى وأشد. ويفسرها البعض بأن علاقة الفلاح العراقي بالارض بقيت ضعيفة، بسبب خلفيته البدوية.
وبلغ عدد المهاجرين الريفيين الى بغداد وحدها للسنوات الممتدة بين اعوام 1957-1965 حوالي 210 الف نسمة بزيادة قدرها 23 الف نسمة عن العقد السابق، واستمر النزوح من ألوية الكوت والديوانية والبصرة، بدلاُ عن الناصرية والعمارة[4]. وبلغ مجمل عدد المهاجرين بين المحافظات في إحصاء 1977 حوالي 1,7 مليون مهاجر يشكلون 14% من مجموع السكان. وفي إحصاء عام 1987 بلغ مجمل عدد المهاجرين 2 مليون مهاجر بما يعادل 12% من مجموع السكان.( تقرير التنمية البشرية، جمعية الاقتصاديين العراقيين، بغداد، ١٩٩٥، ص.٣٥)
القوانين الاشتراكية في تموز 1964
وفي تموز 1964 أعلنت الحكومة في عهد عبد السلام عارف قوانين التأميم التي شملت ثلاثين صناعة كبرى (أربع شركات للأسمنت وخمس شركات للمطاحن وثلاث شركات للسكاير وثلاث شركات تجارية ومعملين للصابون ومعملين للأحذية ومعملين للحياكة والنسيج, ومعملاً للجوت وأخر لبذور القطن، وثالثاًَ للسجاد وأخر للمواد البنائية وواحد للأسمنت وواحد للورق وواحد للكبريت وواحد للزيوت النباتية وشركة عقارية) وجميع المصارف وشركات التأمين.
وكانت دوافع التأميم سياسية أكثر منها اقتصادية، للحاق بركب الجمهورية العربية المتحدة (مصر) التي كانت قد أجرت تأميم شركاتها الكبرى بعد حركة الانفصال عن سوريا في عام 1961. وكان الغرض من هذا التأميم تقارب البلدين من اجل اعلان الوحدة بينهما, وهو الشرط الذي وضعه المفاوض المصري للعراقيين.
وبالرغم من عدم تأثر الانتاجية كثيراً في الصناعات المؤممة إلا انه (التأميم) استبعد عملياً فئة رجال الأعمال والمستثمرين الصناعيين وغيرهم في القطاع الخاص من النشاط الاقتصادي. ونتيجة لذلك بقى المستثمر المحلي العراقي متردداُ لفترة طويلة الاستثمار في مجال الصناعة. وجاء في تقرير للبنك الدولي في عام 1966 مايلي: “لقد ثبٌطت تأميمات 1964 الى حد ما المستثمرين في القطاع الخاص، ولو ان التعويض نص عليه في جميع الحالات، لكن إستيلاء الحكومة لم يكن ذا أثر ضار على كفاءة العمليات، وقد زاد فعلاً الانتاج والارباح في كثير من المصانع المؤممة”.[5]
لقد أثقل التأميم ومن قبله الاصلاح الزراعي الدولة بمهات تنظيمية وإدارية لم تكن مهيئة لتأديتها، مما اثقل بالتالي دورها في المجتمع، وسمح لها فيما بعد من الهيمنة على قطاعات واسعة متعلقة بحياة المواطن العراقي.
٤- الدولة الريعية (١٩٧٥-٢٠٠٣)
تتميز هذه المرحلة بإرتفاع اسعار النفط العراقي بعد عام 1974, حيث كان يمكن لسيل المال المتدفق على البلاد ان يحقق أهداف الدولة الحقيقية في التنمية.
والمسألة التي يطرحها اقتصاد الموارد او “لعنة الموارد” كما يفضل ان يسميها بعض الاقتصاديين المتخصصين في بلدان العالم الثالث والمعروفة بالإقتصاد الريعي تتعلق بتضخم دور الدولة وتدخلها في كافة مجالات المجتمع حتى تلك الخاصة بالأفراد، وبإختصار توجهها بالتالي نحو الاستبداد.
كل ذلك ساعد على تعزيز “تأثير الحكومة في البنية الأجتماعية”[6]، واحتلت الدولة موقعاً احتكارياً في “ميدان المصارف والتأمين” وسيطرت على “الصناعة الكبيرة”، وتدخلت في ميادين القطاع الخاص الاقتصادية مثل “الزراعة والنقل والمواصلات وتجارة الجملة”،
ويحدث الأقتصاد الريعي خللاً بين الدولة والمجتمع، فمن خلال اعتماد الدولة على مصادر تمويل خارجي يقل ارتباطها بالمجتمع كمصدر للقيمة، ويصبح العمل المُنتج ثانوياً لوظيفة الدولة الريعية. وكلما يقل اعتماد الدولة على المجتمع تنخفض مكانة المواطن فيه، بل يصبح عباً على الدولة فتقوم بإطعامه ورشوته وإرهابه من اجل القبول بالأمر الواقع. ويؤدي هذا الى انسلاخ الحكام وتعاليهم عن المجتمع وبالتالي الإخلال بأبسط المبادىء الديمقراطية التي تعتمد عليها الدولة الحديثة. وعندما تقل أهمية الضرائب أو تنعدم كمورد للدولة تقل مطالبة المواطنين بالمشاركة السياسية، فتاريخ الديمقراطية، كما هو معروف، كان قد بدأ مع شعار “لا ضرائب من دون تمثيل”.[7]
توجه الاقتصاد العراقي نحو الخصخصة في عام 1987 كمخرج لمشكلاته الاقتصادية المتفاقمة جراء النفقات العسكرية الباهضة للحرب مع ابران، واللحاق بالركب العالمي في التوجه نحو القطاع الخاص والأسواق الحرة.
استفادت منذ ١٩٩١ فئات قريبة من النخبة الحاكمة بحكم علاقاتها القرابية والصداقة والولاء والنفوذ من شراء افضل مؤسسات القطاع العام التي جنت منها ارباح خيالية، والتي استطاعت في فترة لاحقة –فترة الحصار الاقتصادي- من تبوء مراكز مهيمنة واحتكارية في السوق العراقية. استغلت هذه الفئات الظروف الاستثنائية التي مر بها العراق جراء الحصار الاقتصادي الدولي المفروض عليه بعد حرب الخليج الثانية من الاستحواذ على معظم واردات التجارة الداخلية والخارجية، مستخدمة نفوذها لأسباب لا تتعلق بالنشاط الاقتصادي في التجارة وبالتالي عن طريق السوق السوداء والدخول في عمليات تهريب كبرى بما فيها تهريب النفط بأسعار مخفضة عن سعر السوق، جنت منها ثروات طائلة مكونة مايعرف بإقتصاد أو رأسمالية “الشلة” Crony Capitalism.
ومنذ وصول البعث في ١٩٦٨ إلى السلطة ازدادت سهولة التحكم بالمجتمع، خاصة بعد ازدياد واردات النفط، وتحول الاقتصاد العراقي إلى اقتصاد ريعي. فخلال فترة نهاية السبعينيات، جرى صعود السلم الاجتماعي من قبل فئات جديدة من المقاولين الموالين لرجال السلطة، كما ازدادت في هذه الفترة بشكل لافت للنظر فئة موظفي الدولة. ونتيجة للغرور وللسياسة الهوجاء لحكام البعث، فتتت العقوبات الاقتصادية الدولية النسيج الاجتماعي للمجتمع، وأوقعت بالكثير من الفئات الوسطى إلى أسفل السلم الاجتماعي، وقاربت بعضها خط الفقر.
وإذا نظرنا إلى مسار الدولة العراقية، خاصة منذ نهاية الحرب العالمية الأولى، نجده ميال إلى سطوة الدولة على المجتمع، فيتمكن من بيده السلطة من تغيير عدد من جوانب بنية المجتمع. فالبريطانيون سعوا لتشكيل بنية اجتماعية حديثة، وربما نجحوا في هذا المضمار إلى حد كبير، فظهرت طبقات وفئات وتشكيلات حديثة بجانب تلك التقليدية، رغم أنهم ركزوا على حكم القبائل وبعض أغنياء المدن. وجاء قانون الإصلاح الزراعي ليلغي طبقة كبار الملاك، وجرى تحسن واضح لكثير من فئات الطبقة الوسطى بعد عام ١٩٥٨، إلا أن قوانين التأميم لعام ١٩٦٤ قد قوضت مصالح القطاع الخاص، وجعلته يتردد في الاستثمار في بعض النشاطات الاقتصادية، خصوصًا الصناعية منها.
٥- الأحتلال الامريكي وتدهور الدولة العراقية منذ ٢٠٠٣ ولحد الآن
أن النظام السياسي الذي ولد بعد تولّي قوات الأحتلال الأمريكي كان في قالبه العام ديمقراطياً، وربما ديمقراطياً ومتفائلاً للغاية، من حيث محاولته الفصل بين السلطات الثلاث، وضمان حرية التعبير والأجتماع وتأسيس الأحزاب، ومراقبة الدولة من خلال مؤسسات مستقلة عنها، وأخيراً تمكين المواطن من إنتخاب حكامه عبر انتخابات حرة ونزيهة، كل ذلك من دون وجود مؤسسات تعزز تطبيق مثل هذه المهام. ولقد اثبتت التجربة العراقية بأن اختزال الديمقراطية بالانتخابات كانت ممارسة خاطئة، “فرغم ان الانتخابات هي جزء هام واساسي من الديمقراطية، فالديمقراطية والانتخابات ليستا الشيء نفسه تماماً. فالانتخابات هي ببساطة الآلية لتنفيذ الديمقراطية”[8]. إلا انه كان ينبغي من أجل تحقيق مثل هذه المهام أعطاء فرصة أطول لمرحلة إنتقالية تتكفل بإصلاح كافة الخروقات والسلبيات التي خلّفها النظام السابق، وتوفير الأمن والخدمات للمواطن، ومحاربة الأرهاب الذي نجح بالتالي في شل العملية السياسية.
لم تكن مؤسسات الدولة العراقية مهيّأة لمواكبة التغيير الديمقراطي الذي جرى في البلاد. فمنظومة القضاء في العراق التي كانت حكراً على حزب البعث خلال النظام السابق، ادت الى تعطيل القضاء واستقلاليته، ثم تحولت تدريجياً الى مؤسسة تابعة لسلطة رئيس الوزراء. وإذا نظرنا الى الدستور الذي يعتبر الموجّه لسير العملية السياسية، فهو يحمل منذ إقراره في استفتاء عام ٢٠٠٥ تناقضات عميقة بحيث يتعذر العمل به من دون تعديله، ومع كل مثالبه فقد جرى تجاوزه بشكل سافر، ولم يجر تطبيق الكثير من فقراته، منها على سبيل المثال المجلس الاتحادي، وهو بمثابة الغرفة الثانية لمجلس النواب، فكان لوجوده تهدئة الكثير من التوترات السياسية. وجرى تفسير متحيز لرئيس الوزراء المالكي خلال انتخابات ٢٠١٠، حول ”القائمة“ و“الكتلة“، التي سوف تطيل عمر جميع نتائج الانتخابات القادمة. كما حصل غياب متعمد لكل انواع المساءلة والمحاسبة لأجهزة الدولة ومسؤوليها، مما زاد مستوى الفساد الأداري وسرقة اموال الدولة بشكل خرافي تقريباً، هذا في ظلّ وجود هيئة مستقلة للنزاهة مهمتها كشف الفساد ومحاربته. ولم يتمكن النظام السياسي من توفير الأمن للمواطن، حيث وصل استياء عدد كبير من المواطنين الى حد استعدادهم لقبول حاكم متسلط، إذا ما وفر لهم الأمن والأمان. ونتيجة للضعف الواضح في منظومة الدفاع تمكّنت عصابة متطرفة مثل داعش من الأستيلاء على ربع الأراضي العراقية وحكمها بالقوة منذ عام ٢٠١٤. وزاد الأمر تعقيداً ضعف الحكومة بشكل بارز تجاه مختلف الفصائل المسلحة (المليشيات) التي تعمل باستقلال عن الدولة، ولدى بعضها اجندات اقليمية ودولية. ولم تتمكن الدولة رغم الميزانيات الضخمة التي وفرها الريع النفطي، من تقديم خدمات للمواطن مثل الكهرباء والماء الصالح للشرب والصحة والتعليم وغيرها. أخيراً ثمة زيادات محسوسة بإرتفاع مستويات الفقر، خاصة في المحافظات الجنوبية التسع.
الخاتمة
هل هناك أمل في إصلاح الدولة العراقية؟ إن أي فكرة للإصلاح لا بد أن تبدأ بالنخبة الحاكمة، ما دمنا بصدد أن الدولة تصنع المجتمع، إذ ينبغي أن تتوفر لديها الإرادة والقابلية والوضوح في خوض عملية الإصلاح، التي هي ليست من المهام السهلة مطلقًا. ويصعب في ظروف العراق، من اختيار نخبة حاكمة تتسم بالنزاهة، إذ لدينا إرث ما يقارب السبعة عشرة عامًا لنخب سياسية، هدفها الشخصي الثراء من أموال البلاد. وللأسف القول بإنه ليس بالضرورة أن تكون هذه النخبة منتخبة من قبل الشعب، كما تم انتخاب جميع النخب السابقة التي احتلت المراكز الأولى في الدولة، وذلك لأن شريحة واسعة من الناخبين، لا تصوت على أساس برنامج وكفاءة المرشح، بل على أساس انتمائه الديني أو الطائفي أو الإثني، وهذا ما ينسف فكرة الانتخابات برمتها. وينبغي أن تتميز النخبة التي نحن بصددها بالهوية العراقية الوطنية، التي لا تفرق بين أبناء الشعب بحسب انتمائهم الطائفي أو العشائري أو المحلي أو القومي.
وإن أفضل بداية لبرنامج الإصلاح لا بد أن تبدأ بالتخلص من كل مظاهر الدولة الفاشلة المتسمة بالضعف في إنجاز مهامها الإدارية والتنظيمية اللازمة لضبط الناس والموارد. وأن تتمكن الدولة من احتكار الاستخدام الشرعي للعنف، من خلال التخلص من كل الجماعات المسلحة التي تسير وفق أجندات خاصة بها، وأن لا تتحول أراضي البلاد إلى ملجأ للعناصر الخطرة كأمراء الحرب والجماعات الإرهابية. وأن تقوم بمحاربة الفاسدين وإدانتهم، وتخفيف الصراعات الداخلية، وتوفير الأمن والسلامة للمواطن. والاهتمام بتقديم أقصى الحدود للخدمات العامة الأساسية، وعدم الاكتفاء بالحد الأدني. وينبغي إعادة تقويم مؤسسات الدولة الأساسية: التنفيذية والتشريعية والقضائية، بحيث تعمل بالشكل الاحترافي المستقل، وتحفيز طاقات الجهاز البيروقراطي والقوات المسلحة والأمنية. وأخيرًا أن تتمكن الدولة من بسط نفوذها على أرضها وعلى شعبها، وحماية حدودها الوطنية[9]. وبالتأكيد إن مثل هذا البرنامج يتطلب في ظروف العراق إعادة النظر في مواد الدستور وتعديلها بالشكل المناسب، كما ينبغي إحياء بعض المؤسسات التي أشار إليها الدستور كالمجلس الاتحادي وغيرها.
لكن، الغريب، أن كل هذه الأمور ليست مخفية على أحد، وحكامنا أفضل من يعرفها، لكنهم غير مستعدين للتغيير، فالدولة “العميقة” التي صنعوها خلال السنوات الماضية، كافية لحمايتهم من المحاسبة والمساءلة، وتجني لهم ثروات لا طائل لها. وأخيرًا، لا يبدو في الأفق أن التغيير قادم، وسيكون البديل في الغالب مكلفًا للغاية.
فرض الحراك الجماهيري التي عم العراق منذ ١ أكتوبر الماضي ٢٠١٩، شعار الانتخابات المبكرة بعد تمكنها من اسقاط حكومة عبد المهدي، مطالبة بحكومة نزيهة لا يشترك بها كل اولئك الذين ساهموا في حكومات ما بعد ٢٠٠٣. وبسبب طبيعة الحراك وبنيته الداخلية التي تتلخص في كونه حركة اجتماعية واعية، فإنه بهذا المطلب يكون قد حقق اهدافه كاملة. فالحركات الاجتماعية تساهم في تحقيق اهداف تصب لمصلحة اوسع الجماهير، لكنها لا تتمكن بمفردها من تغير نظام الحكم، فهذه من اختصاص الاحزاب السياسية أو الجيش كما هو عادة في بعض بلدان العالم الثالث. واستطاع الحراك ان يستقطب اعداد غقيرة من الجماهير الواعية خاصة بين الشباب من الجنسين، الذين مارسوا حراكهم بشكل سلمي وواعي لتحقيق اهداف محددة. في البداية كانت المطالبة بالعمل هي ابرز الشعارات السائدة، وذلك نتيجة ارتفاع مستويات البطالة الى حدود غير مقبولة، ولو عالجت الحكومة انذاك مشكلة البطالة، خاصة بين الشباب، فلربما انتهى الحراك في إطار هذه الحدود. لكن القمع والتنكيل بالمتظاهرين واستمراره من قوى مختلفة، صعد الحراك مطاليبه الى إسقاط حكومة عبد المهدي، وقد نجح بهذا المطلب نجاحاً تاماً. وبالتأكيد لم يكن الحراك موافقاً على عمل مجلس النواب، وكانت المطالبة بتغيره تعني القيام بإنتخابات مبكرة.
ولكن للأسف إن الانتخابات المبكرة سوف لن تحل مشكلة البلاد، إذ ان المطلوب تجديد كامل هياكل الدولة: السلطات التنفيذية والتشريعية والقضائية، وهذا من غير الممكن تحقيقه من خلال الانتخابات المبكرة لوحدها، خاصة وان التحضيرات الأولية للإنتخابات القادمة تشير الى بقاء نفس القوى التي تسيطر على الدولة حالياً.
******
[1]Christoper Pierson, ‘The Modern State’,second edition, New York 2002, p. 55-72
[2] 291-292اديث بيرنوز “العراق: دراسة في علاقته الخارجية وتطوراته الداخليةـ الجزء الأول ترجمة عبد المجيد القيسي الدار العربية للموسوعات ص
[3] بيرنوز، مصدر سابق، ص٣٨٤
[4] بيرنوز، مصدر سابق، ص٣٩٥
[5] بيرنوز، مصدر سابق، الجزء الثاني، ص. ٢٤٢
[6] حنا بطاطو “العراق”، الكتاب الثالث، ترجمة عفيف الرزاز، مؤسسة الأبحاث العربية ، بيروت ١٩٩٢، ص ٤٣٣
[7] Hazem Bablawi, ‘The Rentier State in the Arab World’, Routledge, London 1990. p.89
[8] David Ghanim, ‘Iraq’s Dysfunctional Democracy’, Preager, USA 2011, pp. 125
[9] <https://www.britannica.com/topic/failed-state>