سعد محمد رحيم –
تتحقق الوظيفة العضوية للمثقف بالموقع الاجتماعي التاريخي الذي يتبوأه في مسار السيرورة الاجتماعية، وبالدور الذي يؤديه انطلاقاً من ذلك الموقع. وهما، أي الموقع والدور، يضمنان له تميّزه عن بقية الفاعلين الاجتماعيين. فكلاهما ذو طابع ثقافي في المقام الأول. أما وجود المثقف فيتفاعل لا مع فعاليات الحقل الثقافي فحسب، وإنما مع عمليات التحديث في العالم حوله، ومع ألاعيب السياسة وصراع الستراتيجيات كذلك.
تنقسم الوظيفة العضوية للمثقفين إلى أربعة محاور:
ـ كشفية ـ وصفية.
ـ نقدية ـ تقويمية.
ـ متنبئة ـ رائية.
ـ تحريضية ـ مطلبية.
وفي الإطار العام يمكن فصل هذه المحاور، نظرياً وإجرائياً، بعضها عن بعض، على الرغم من تعاشقها الخفي. وقد تظهر غلبة محور ما، في الواقع الفعلي، على ما عداه، إلا أنه يعكس حضور بقية المحاور في إهابه ويتعزز بها.
يبقى جوهر وظيفة المثقف هو النقد والمواجهة. وهذه الوظيفة تخضع لمنطق التغيير.. إن صفتها العضوية تجعلها في اتساق مع المحيط الاجتماعي التاريخي، وهو متغير بالضرورة. فتبعاً لتحوّلات الظروف والأفكار والأنساق والمؤسسات والأهداف والوسائل يجد المثقف نفسه مضطراً إلى التكيّف، وهو عملية مستمرة، من غير أن يعني هذا أن التكيف هو الانقياد السلبي لكل حادث طارئ. فنحن ها هنا نتحدث عن متلازمة النقد والمواجهة.. حيث النقد لا يُقصد به الرفض إطلاقاً لأن ذلك سيكون شكلاً من أشكال العدمية، والمواجهة لا يُقصد بها الوقوف في الخندق المضاد دائماً. فالنقد والمواجهة يمكن أن يدخلا في إطار مفهوم الحوار، الذي يأخذ في الحالات الاعتيادية ثلاثة أبعاد؛ حوار مع الذات، حوار مع الآخر، حوار مع العالم.. حيث الذات هي مجموع العلاقات الاجتماعية للفرد، وهي أوسع من ذلك أيضاً.
يربط غرامشي المثقف العضوي بالطبقة الاجتماعية حيث يعبِّر ويدافع عن مصالح تلك الطبقة ويسعى لتنظيم حركتها ووعيها، وبحسب غرامشي، أيضاً، إذا كان المجتمع السياسي هو الفضاء الذي تُحدث فيه الهيمنة بوساطة وسائل القوة والقهر فإن المجتمع المدني هو فضاء للهيمنة الإيديولوجية. وقد دعا الطبقة العاملة في الغرب إلى السيطرة على المجتمع المدني قبل المجتمع السياسي على عكس ما حدث في روسيا ( 1917 ). وهنا يبرز دور الشريحة المثقفة لتنظيم مثل هذه السيطرة/ الهيمنة.
وحين نحاول استلهام مفاهيم غرامشي في سياقنا التاريخي الحالي، عراقياً، نجد أن المثقف لا يعمل في إطار مجتمع مدني ناجز كما في أوروبا الغربية، وإنما يتعاطى مع جنين مجتمع مدني في طور التكوّن، وعليه يقع عبء مضاف، وهو المساهمة في عملية التكوين هذه. وبهذا سيعبِّر عن مصالح كتلة تاريخية هي الأخرى في طور التشكّل في خضم من صراع بين توجّهين إيديولوجيين ـ سياسيين أساسيين تتفرع عنهما توجّهات أخرى. وهما يتمثلان بالنزعة المدنية ـ الوطنية الجامعة المتخطية للهويات ما قبل الدولتية من جهة، والنزعة الطائفية العشيرية المرتدية لجبّة التأسلم السياسي من جهة ثانية. وإذن المثقف الذي نتحدّث عنه غير ذاك الذي تحدّث عنه غرامشي القارئ للمعضلة الإيطالية في العقود الثلاثة الأولى من القرن العشرين.
إن صورة المثقف محتجّاً مدنياً تعبير عن وظيفته العضوية.. هنا لا نشير إلى وظيفة ثابتة متخطية للزمان، بل إلى وظيفة لها علاقة بالتاريخ، بمفصل من مفاصل التاريخ، إذ معه يستعيد المثقف حس الواقع والحس التاريخي، فيحاول إنجاز تمثيل فكري/ إبداعي للبيئة الاجتماعية التي ينتمي إليها في ضمن سياق ثقافي له اشتراطاته وإكراهاته ومقولاته وسردياته. وبذا يكافح من أجل تصحيح علاقات السلطة والهيمنة، بالقدر المستطاع، لصالح الضحايا والمهمّشين والمغلوبين على أمرهم الذين يعانون في خضم صناعة الأحداث. مثلما يرمي إلى إحداث توترات في القناعات السائدة مفكِّكاً الإيديولوجيات المسوِّغة للهيمنة والداعمة للطرف المهيمِن في معادلتها.
في محطات الحراك المدني يلتقي المثقفون.. لقد غادروا معتكفاتهم ليقيموا نوعاً من مجموعات تآزر تتحلق حول قضية أو فكرة أو مشروع. والوظيفة العضوية كي تؤدّى بسلاسة وفعالية تشترط ألا يكون المثقف وحده. والانخراط في الشأن العام في ضمن مناخ حواري يخلق مجتمع مثقفين، لا بوصفهم طبقة منفصلة عن بقية الطبقات الاجتماعية بل نخبة مؤسِّسة لخطاب وستراتيجيات عمل مدني بوساطة وسائل اتصال وإعلام حديثة. هذا يتطلب أن يتخلص المثقفون من أمزجتهم الأنانية ونرجسيتهم المتعالية وحياديتهم السلبية وينتزعوا أنفسهم من عزلاتهم لأن مجتمعهم وبيئتهم وزمنهم وإرثهم وبلدهم وثرواتهم ومصيرهم تحت طائلة التهديد.
تتجه الأنظار، في الغالب، إلى المثقف حين البحث عن خطاب بديل لخطاب السياسي. وفي أحايين كثيرة يمتلك المثقف ما يحتج به على خطاب السياسي من غير أن يكون ثمة بديل في جعبته. ولا يكون المثقف في الأحوال الاعتيادية مطالباً بصياغة، أو المشاركة في صياغة، برنامج سياسي. ولكن في المراحل الشائكة من تاريخ المجتمعات على المثقف أن يقدّم في الأقل رؤية حول الوضع العام، والقوى والمصالح المتصارعه فيه، واحتمالات مآلاته وتحوّلاته.. رؤية تكون ملهمة، ومساعدة لأصحاب القرار من ذوي النوايا الحسنة، إنْ وجدوا، لصياغة برامجهم السياسية.
إن أي تحليل نظري للمعضلة العراقية الراهنة لابد من أن يتخلل إلى جانب مشكلة السياسة والحكم والاقتصاد ذلك الجانب الآخر وهو الأرضية الإيديولوجية ـ السياسية ـ الاجتماعية المولِّدة للعنف والإرهاب. وإذا أعدنا القول بأن جوهر الوظيفة العضوية للمثقف هو النقد فإنه النقد الذي يطول المؤسسة كما المجتمع كما الإيديولوجيا كما ستراتيجيات الآخرين كما لعبة رأس المال المعولم الذي هو جذر البلاء في نهاية المطاف. وقد أثرت التجربة المرّة للاحتلال على الفضاء السياسي والخريطة الاجتماعية، وعلى جانب مهم من قناعات الناس وأفكارهم وسلوكهم وأنماط حيواتهم في العراق. وهي التجربة التي تحتاج إلى تفكيك واعٍ للنفاذ إلى منطق العلاقات التي أسستها، والالتباسات سواء في الثقافة أو الحياة، التي تمخضت عنها.
غالباً ما يجري تبخيس دور المثقف في الحياة العامة على وفق معايير خاطئة أو قاصرة تقيس مدى التأثير بالشدّة العالية للنتائج في الزمن القصير، كما كان يحدث، مثالاً، حين كان شاعر فحل قبل أكثر من نصف قرن يلقي قصيدة عصماء تلهب مشاعر المتلقين وغيرتهم وحماستهم الوطنية فتدفعهم للتحرك السريع. غير أننا عندما ننظر في تاريخ فكر التنوير الأوروبي وتمكّنه من العقول، وتأثيره في أشكال الممارسات السياسية، نجد أن الأمر يتطلّب عشرات ومئات السنين، وأن التطور كان يحصل ببطء ولكن برسوخٍ قار.. ولأن المبتغى من الوظيفة العضوية للمثقف تنويري في مضمونها فإن تداول المفاهيم الجديدة في المجال العام وعبر وسائط الميديا وشبكات التواصل الاجتماعي ناهيك عن الفعاليات الإبداعية المختلفة يخترق الوعي المجتمعي على مهل، ويتجذر في شكل تقاليد وأنماط سلوك وممارسات لعصر جديد.
إن احتكار السلطة السياسية لوسائل الدعاية والإعلام والترويج الإيديولوجي ومن ثم الهيمنة الفكرية على الفضاء الثقافي الاجتماعي في معظم ما ظل يُعرف ببلدان العالم الثالث وحتى بدايات الألفية الجديدة قد كُسر اليوم بفضل التطور المذهل لقنوات الاتصال والإعلام، لاسيما الفضائيات، وشبكات التواصل الاجتماعي، والثورة المعلوماتية، وانفتاح العالم بعضه على بعض. من هنا باتت الشريحة المثقفة قادرة أكثر على أداء وظيفتها العضوية حتى وإن لم تتبلور الممهدات السوسيو ـ اقتصادية التي تحدّث عنها غرامشي كضرورة لأداء المثقف العضوي لدوره. بعدما صرنا نعاين خريطة سياسية مرتبكة مسندة باقتصاد ريعي متورم بالفساد.
هنا لا يخترق نقد المثقف المجتمع السياسي وحده، بل ذلك الجزء من الإيديولوجيات السائدة أيضاً المغذّية للعنف والإرهاب، فضلاً عن الأطر الصراعية التي تضرمها ستراتيجيات إقليمية ودولية، في حمّى مواجهات معقدة تتجاوز الموجِّهات والأسباب المحلية في اندلاعها، إلى حد بعيد.
في المجتمعات الخاضعة لمقتضيات الاقتصاد الريعي والتباساته يحضر خطاب السلطة رثاً ومهلهلاً في الغالب على الرغم من تسويقه عبر وسائل الإعلام المحتكرة للسلطة ذاتها، في مقابل الخطاب المضاد ـ الأكثر موضوعية وتماسكاً ـ للمعارضين المبرزين أحياناً والخفيين في أغلب الأحايين. وهم، في جلّهم، من المثقفين والمتعلمين وناشطي الحراك المدني. وهو الخطاب المسوّق بوسائل أخرى.
إن عصر المعلوماتية والميديا الحديثة قد أطاح باحتكار السلطات السياسية الحاكمة لوسائل الإعلام والنشر والدعاية مما أفقدها واحداً من أمضى أسلحتها في الهيمنة، مانحاً الخطاب المضاد الفرصة التاريخية لمعارضة فعالة، وموفراً موقعاً أكثر حيوية للمثقف في الفضاء الاجتماعي السياسي.
إن واحدة من غايات الحراك المدني في كل مكان هي كسر هيمنة ثقافة السلطة المسيطرة، وإعادة الاعتبار لثقافة أخرى مكافئة أو نقيضة أو بديلة. ومثالاً أعادت الاحتجاجات المدنية في العراق طرح سؤال الهوية السياسية للدولة العراقية. وهو السؤال الذي يقع في القلب من اهتمام المثقف، وله الأولوية في خطاطة وظيفته العضوية في راهننا العصيب