
صادق الطائي
مثلما توجد مدن تتأسس دون ان يكون لها وجود تاريخي سابق انما تستحدث لأسباب تجارية او اقتصادية او إدارية،هنالك مدن لايمكن معرفة أصل وجودها التاريخي نتيجة توغله في اعماق الوجود الحضاري للمكان.مدينة الشطرة العراقية من النوع الثاني،ووجودها مرتبط بوجود أغلب حضارات وادي الرافدين،فجذرها ممتد الى مملكة لكش أعظم الممالك السومرية التي اسسها الملك اوركاجينا عام 2600 ق.م، ثم مدينة أكد عاصمة الامبراطورية الاكدية وبعدها مدينة أريدو التاريخية الشهيرة،وصولا الى عصور تاريخية أحدث.كل هذه المسميات التاريخية هي طبقات تغلف بعضها بعضا حتى نصل الى مدينة حديثة في جنوب العراق أسمها “الشطرة”.
مدينة الشطرة اليوم تمثل مركز ثاني اكبر قضاء في العراق،وقضاء الشطرة تابع ادرايا لمحافظة ذي قار والمدينة تبعد حوالي 350 كيلو متر جنوب العاصمة بغداد و40 كيلومتر شمال مدينة الناصرية مركز محافظة ذي قار،كما تتبع قضاء الشطرة ثلاث نواحي هن : ناحية الغراف، ناحية الدواية، ناحية النصر، وعدد سكان مدينة الشطرة يبلغ حوالي 254 الف نسمة،اما عدد سكان القضاء فيفوق الـ 600 الف نسمة بحسب اصدارات وزارة التخطيط العراقية لعام 2014.
تأسيس المدينة واصل التسمية
يروى عدد من المختصين سيرة مدينة “الشطرة” التي أقترن إسمها بانشطار (نهر الغراف) قبل وصوله المدينة بحوالي خمسة كيلومترات إلى شطرين الأيسر هو(شط البدعة) والايمن هو (شط الشطرة ) الذي يقسم المدينة الى قسمين يمتدان على ضفتي النهر. يشير المؤرخ عبدالرزاق الحسني في كتابه العراق قديما وحديثا بقوله؛”خلاصة تاريخ الشطرة إن جماعة من اهل الغراف كانوا قد أسسوا قرية كبيرة في اراضي خفاجة اطلقوا عليها لفظة “الشاهينية”،وهو اسم مدينة معروفة في التأريخ للأمير عمران بن شاهين،وقد إضمحلت هذه القرية في عام 1787م على اثر جفاف النهر الذي كان يرويها، فأنتقلوا الى جدول الخليلية الذي كان يغذيه نهر الغراف،وأسسوا عليه قرية بأسم الشطرة بقيت مأهولة بالسكان زهاء تسعين حجة ونيف”.
بينما يذكرالحاج حسين الشعرباف في مذكراته التي صدرت في كتاب بعنوان(الشطرة في الاحتلالين) ؛”إن عشيرة العبودة تمركزت في قرية “الشاهينية” في أراضي خفاجة وهو إسم لمدينة تأريخية قديمة انشأها عمران بن شاهين،وكان التنافس والتشاحن بين عشيرتي العبودة وخفاجة هو العامل الذي دفع بالشيخ حسن السنجري رئيس عشيرة العبودة آنذاك إلى الهجرة من “الشاهينية”، وإسكان عشيرته على نهر الخليلية في الأراضي التي اقتطعها له الأمير مشكور (أمير ربيعة)عند زيارته له، حيث كرم وفادته بتلك الأراضي التي كان النهر قد شطرها من إقطاعيته فسميت الشطرة “.
بينما يروي يعقوب سركيس في كتابه (مباحث عراقية في الجغرافية والتاريخ والاثاروخطط بغداد) قائلا؛”إني لقيت والدي – نعوم سركيس التاجر البغدادي – يقول في نسخ مكاتيبه إلى اصحابه في سنة 1856/1857م وهو في اراضي البدعة (من بدعة آل محمد)، والمعروف على ما كنت سمعته ان امير ربيعة أهدى اراضي هذا الجدول او بعضها إلى احد مشايخ آل السعدون، وكنت ظننته انه الشيخ عيسى آل محمد الثامر آل السعدون، وبعد الحفر في هذا النهر توسع انخفاض الأراضي التي يجري فيها واليها،فغدت تقل المياه شيئاً فشيئاً عند الشطرة، ففي شط آل ازيرج وشط آل إبراهيم، اصبح زراعها مضطرين إلى انشاء سكور(نوع من السدود الصغيرة) فيها ليرتفع الماء لأسقاء اراضيهم، فبدأ الترسب في هذين الشطين،وكلما ازداد الترسب زيد عدد السكور…وغدا الماء لا يرقاها فأنقطع الماء عن الجريان بتاتاً في الشطين المذكورين”.
ويشير الباحث والفنان التشكيلي حسين الهلالي في دراسة عن مدينته الشطرة قائلا ؛”أطلق عليها لقب ”عروس الفرات”من قبل حاكم الشطرة الانكليزي برترام توماس، أما تسمية “الشطرة” فسببها هو شطرها من قبل احد فروع نهر الغراف الى قسمين، وإن المدينة تقع في السهل الذي كان مغمورا بالمياه في العهود السومرية القديمة، وقد انتقلت ثلاث مرات في المنطقة إلى ان استقرت في موقعها الحالي، ففي المرة الأولى كانت تقع على نهر الشاهينية وسميت بالشاهينية نسبة للأمير عمران بن شاهين، ولكنها اضمحلت في العام 1787، ثم انتقلت إلى موقع آخر على نهر الخليلية وبنيت على فسحة كبيرة منه بأمر من أميرها الشيخ حسن السنجري الذي أشار عليهم إن ابنوا هنا في هذه “الشترة” أي القسم المتشطر في هذا المكان، وهذا الموقع يبعد عن مكانها الحالي كيلومترين وسميت الشطرة القديمة، وبعد ذلك انتقلت إلى موقعها الحالي عندما بنى التاجر البغدادي نعوم سركيس وكيل المنتفك خانين لخزن الحبوب وبعض الحوانيت قريبة من ضفة النهر أو على جهة متشطرة منه، وأهداها إلى كبار شخصيات الشطرة الساكنين في الشطرة القديمة كإغراء لهم لكي ينتقلوا إلى هذا المكان فانتقلت جموع منهم الى المدينة الجديدة ،وكان ذلك في حدود سنة 1837 م، وفي سنة 1849م شرع في بناء دار للحكومة وما لبثت ان سرت الحركة العمرانية فيها سيرأ مطردا حتى غدت عروس قرى الغراف وقصباته “.
التنوع السكاني في مدينة الشطرة
بالرغم من ان أغلبية سكان الشطرة تأريخيا من قبيلتي العبودة وخفاجة،وهي من القبائل العربية التي تسكن وادي الغراف في الفرات الاوسط .لكن كلما ذكرت الشطرة ذكر التسامح الديني في ذي قار، فهذه المدينة الغافية على نهر الغراف شمالي الناصرية،طالما احتضنت يهودا وصابئة ومسلمين سنة وشيعة حتى صارت بوتقة لانصهارهم في مجتمع متنوع ومتجانس.فالمدينة عندما تأسست حوالي منتصف القرن التاسع عشر إجتذبت مختلف أطياف العراقيين لها،لذلك تجد ان سكانها متنوعون من مختلف الاديان والقوميات،وتجد مسميات شوارعها حتى اليوم تدل على هذا التنوع اذ تجد احيائها تحمل اسماء عكد الصبة وعكد الاكراد..الخ،ويمكننا مشاهدة المسلمين الى جانب الصابئة المندائيين والعرب الى جانب الكرد الفيلين ،كما ان المسيحيين كانوا متواجدين ويعملون في مهن مختلفة متجاورين مع جالية يهودية عراقية كبيرة كانت تسكن المدينة حتى منتصف القرن العشرين،وان هذا التنوع كان مصدره التعايش السلمي القائم على احترام الاخر المختلف.
ويمكننا ان نلاحظ خصوصية التنوع في سوق الشطرة المميز الذي انشأ حوالي عام 1900 على طريقة عمارة الاسواق المسقوفة المعروفة في العراق بالقيصرية،والذي يقسم عادة الى مجموعات من الدكاكين المتجاورة بحسب المهن ،والتي كان اصحابها متنوعون من مختلف الاثنيات والاديان. كما أشتهر سوق المدينة بالعديد من الحرف القديمة مثل صناعة العقال العربي والعباءة العربية وهذه الصناعة يكاد سوق الشطرة ينفرد بها اذ تأتيه الزبائن من جميع المحافظات العراقية من اجل شراء العقال والعباءة بسبب اتقان ارباب هذه الحرفة التي لازالت مستمرة نظرا للتركيبة العشائرية لمحافظة ذي قار. لكن سوق الشطرة شهد إختفاء عدد من المهن القديمة بسبب دخول البضائع المستوردة التي أزاحت المنتج المحلي من الاسواق العراقية،ومن بين هذه المهن على سبيل المثال لا الحصر تصليح الساعات اليدوية وصناعة (النعال الشطراوي) الذي انفرد سوق الشطرة بصناعته وطرحه للبيع في الاسواق.
مدينة الفن والشعر
للشطرة علاقة خاصة بالشعر والفن فقد كتب ابن الشطرة كريم الرماحي عن هذا الموضوع فقال؛”لابد ان اذكر ان هناك اجيال من الشعراء تعاقبت على كتابة هذا النوع من شعر المحكية والمعروف بالعراق بـ “الشعر الشعبي” وابدعت به، بدءاً بجيل الرواد الذين وضعوا بصمتهم على النتاج الشعري لهذه المدينة،اذ انتهل منه جميع من كتب الشعر من بعدهم لعذوبة اسلوبهم واصالة منبعه، ومن هذه الاسماء التي حفرت في ذاكرة اهل الشطرة طريقا اقتفى أثره من تبعهم من الشعراء نذكر منهم هاشم فليح وعبد الواحد الهلالي وعبد الله الشطري وحسن معيوف وأخرين،وجميعهم كتبوا الشعر بألوانة المختلفة كالابوذية والدارمي والموال الزهيري والتجليبة والهجع والميمر والوان اخرى من الشعر الشعبي” ويضيف الهلالي؛”ثم تبعهم جيل أخر من الشعراء،هم جيل نضجت شاعريتهم وغزر عطاءهم في سبعينات القرن الماضي وكان معظمهم من خريجي الكليات والمعاهد الذين كتبوا الشعر باسلوب أخر أضاف الى أصالة شعر الرواد بعض من عذوبة المفردة الحديثة التي أعطت للشعر رونقاً وإسلوباً جديدا، وأذكر منهم الشعراء خالد عبد الحسين وخالد الشطري وزامل سعيد فتاح وشاكر حسن وكامل سواري واخرين، وقدم هؤلاء الشعراء اضافة لما تقدم القصيدة الشعرية والغنائية بطريقة أختلفت بعض الشيء عن قصائد جيل الرواد” .
اما فنانو الشطرة فالحديث عنهم ذو شجون فما ان تدخل بوابة تلك المدينة، حتى يراقص جميع جوارحك صوت ابن الشطرة بلبل الجنوب المطرب الكبير داخل حسن ،ويزاحمه في ذلك شطري أخر لا يقل عنه قامة هو المطرب حضيري أبو عزيز وصولا الى جيل السبعينات من مطربي العراق ومنهم الفنان صباح السهل حتى بات هنالك طورا من اطوار الغناء الريفي العراقي يعرف بطور الشطراوي المنسوب الى قضاء الشطرة،وهو من الأطوار الجميلة جداً وغناه مطربون كبار أمثال حضيري ابو عزيز وناصر حكيم وجبار ونيسة وشهيد كريم وسعدي البياتي ومطربون كثيرون،اما في المسرح فهنالك أسماء كثيرة وكبيرة تفرض وجودها على الذاكرة ونحن نلقي التحية على غرافها،كيف لا وان حكاية المدينة مع المسرح كانت قد ابتدأت منذ ثلاثينيات القرن الماضي مع تأسيس أول فرقة مسرحية مؤلفة من الطلبة والأهالي بقيادة الفنان جهاد عباس عام 1933،حتى اصبح من معالم الشطرة آنذاك مسرح النهضة حيث باكورة الحركة المسرحية في المدينة،لتصبح الشطرة بحق قلادة شعر وفن في عنق الغراف.