والصَّرف والإعراب والإملاء!
بقلم : د. رشيد الخيّون
عراقي… لَقّنَ الكمبيوتر النَّحو والصَّرف والإعراب والإملاء!
عدنان عيدان
جلست استمع إليه لثَّلاث ساعات ويزيد، حتى كدت لا ألتفت كي لا تفوتني عبارة مما يقول. أخذ يربط بين الحاضر والماضي في تقنيات التَّرجمة واللُّغة، وكيفية تدرج المعاجم والقواميس مِن زمن إلى آخر، وقد جمع في مكتبته منها العشرات، وعلى ما يرتبط بالعربية بمختلف اللُّغات التي تُرجم منها وإليها، القديم والجديد، مكتبة قد لا ترى ما يلفت نظرك على رفوفها سوى المعاجم والقواميس.
قبل الوصول إلى ما دفع به لتقنيات اللغة، أخذ يشرح أهمية الجمع بين علمين في شخص واحد كي يتولد منهما علم جديد، فالأدوات الطِّبية ووسائل العلاج والفحص مثلاً، بداية من جهاز الأشعة إلى جهاز تخطيط القلب وما أتى بعدهما مِن الهوائل، لا يخترعها ويصنعها الطَّبيب ولا المهندس، إنَّما ينجزها الطَّبيب المهندس، الذي درس الهندسة والطِّب، وأدوات الزِّراعة الحديثة تحتاج إلى المهندس المزارع وهكذا.
صاحبي الذي أذهلني في محاضرته الخاصة بيَّ، وجاءت بطلب مني، لجهلي بهذا الأمر، انطلق كالسَّيل في حديثه. كانت الهموم تدور في دواخلي أين العِراق عن أبنائه الذين توزعوا تحت النُّجوم، يحملونه على كواهلهم وهو الطّارد، والحديث عن الكفاءات العِراقية خارج البلاد يطول ويطول، وعن عرقلة مساهمتهم في إعادة إعماره يطول أيضاً. لكن هذا ليس شاهد مدونتنا.
أحسبه شيخ الكمبيوتر في الإعراب والصَّرف والإملاء، فهو الذي لَقنه ليقوم بهذه المهمة، وما على الكاتب أو المؤلف إلا ضغط الأزرار، ليخرج له النَّص معافى، وهنا وجدته ساعد على مساواة العارف وغير العارف،، فمِن أدوات الكتابة هو التَّمكن مِن النَّحو والصَّرف، وهو الفارق بين النَّحت أو الحياكة باليد والنَّحت والحياكة بالماكنة، يبقى للثَّانية الأصالة والجودة، لكن للأولى الغزارة وقضاء الحاجة، فلو انتظر النَّاس الحائكين باليد واستغنوا عن مكائن الحياكة ما لسبوا ثياباً والبشر الآن صعدوا على الستة مليارات إنسان. كذلك كثرة المواقع الإلكترونية والصحف والمجلات شح المصحح اللَّغوي، بل هي مهنة في طريقها إلى الاضمحلال، وها هي المواقع تنشر بلا تحرير ولا تصحيح، فاختل الكلام المكتوب، حتى صار عند أهل الصَّنعة نشازاً، وها هي الكتابة أصبحت مهنة مَن لا مهنة له! فأخذ صاحبنا واقع الحال بنظر الاعتبار، وحاول التخفيف مِن الخراب في اللغة المكتوبة.
تعرف على هذا الجهاز منذ أوائل السَّبعينات، مِن القرن الماضي، بعد أن تحرر الاختراع العجيب مِن الاحتكار العسكري عقب الحرب العالمية الثَّانية، على حدِّ إطلاعي البسيط وربَّما في ما أقول يخالف الحقيقة فعذراً. كان مِن عشاق العربية وما زال كذلك، وهو يراهن على حيويتها واستيعابها للجديد، مع أنه ليس قومياً، حتى يُعزى حبّه العربية لاتجاه فكري أو سياسي. أكد تلك الحيوية والسِّعة والمدى الطَّويل في العربية علمياً وليس عاطفياً، فراح وتعلم العبرية واطلع على الآرامية وأتقن الإنكليزية، واقتنى قواميس لغات الشُّعوب، فوجد العربية الأطوع حرفاً.
لذا كانت دراسته (الدُّكتوراه) في شأن تقنية اللُّغة والتَّعامل معها عبر الحاسوب، قلت كان ذلك قبل أن يُشاع هذا الجهاز ويكون في متناول الجميع، فدرس تقنية الجهاز، ثم تجربة الخليل الفراهيدي (ت 173 هـ) في تأسيس علم اللغة، وقرأ القواميس، ومَن له قراءة القاموس! إنما يُراجع عند الضَّرورة. فأسس برنامجاً للترجمة، لكنْ هذا البرنامج الذي صُرف منه خمسة وعشرون مليونَ نسخة لم يكن لصاحبنا منها سوى الآلاف فقط، فليس هناك حصانة لمخترع أو مبدع أو ما يُعرف ببراءة الاختراع بمنطقتنا إلا ما ندر ونزر.
رأى صاحبنا للإنكليزية وبقية اللُّغات الأوروبية ما يصلحها في برامج الكترونية خاصة، فأخذ يعمل على برنامج للعربية، وتلك حَيرة الألباب أن يتعلم الحاسوب كيف يرفع وينصب ويجر ويميز المصروف عن غير المصروف، وإن عن أن المخففة والثَّقيلة منها، وأن يميز بين الحروف الشَّمسية والقمرية ومَن منها يُشدد بعد الألف ولام، وأين مواقع الهمزات الكترونياً، والأخيرة ما زالت عصية على مَن بذل جلَّ عمره في دراسة اللغة فكيف بجهاز مِن جماد. مع أن الذين كتبوا قديماً يتلفظون الحركات ولا يكتبونها، كان كتاب “الكليات” لأبي بقاء الكفوي (ت 990 هـ) دليله، بعد أن قرأ مجلداته الأربعة كلمةً كلمة.
د. عيدان ولي.. الوجه الآخر المضيء للعراق
كنت أتخيله وهو يُلقنْ الحاسوب كيف يعرب ويصرف ويكتب حرفاً صحيحاً، ويصحح للآخرين، كأنه أبو الأسود الدُّؤلي ظالم بن عمر بن سفيان (ت 69 هـ)، قاضي البصرة لعلي بن أبي طالب(اغتيل 40 هـ) مع كاتبه، عندما قام بمهام التَّنقيط. جاء في “المنتظم” لابن الجوزي(ت 597 هـ) و”طبقات النَّحويين”: هو “أول من وضع العربية ونقط المصاحف”(الزَّبيدي، طبقات النَّحويين). وورد في “الوافي”: “هو أول من نقط المصاحف ووضع للنَّاس النَّحو”(الصَّفدي، الوافي بالوفيات).
كان الدُّؤلي ينطق وكاتبه عبد القيس يضع الإشارة، وقد اختاره مِن بين عشرات الكُتاب الذين عُرضوا عليه بعد اختبار شاقٍ، فقال له: “خذ المُصْحفَ وصبغاً يخالف لون المدد، فإذا فتحت شفتي فأنقط واحدة فوق الحرف، وإذا ضممتها فأجعل النقطة إلى جانب الحرف، وإذا كسرتها فأجعل النُّقطة في أسفله، فإذا أتبعت ذلك شيئاً من هذه الحركات غُنَّة فأنقط نقطتين. فابتدأ بالمُصْحف حتى أتى على آخره”(الدَّاني، المحكم في نقط المصاحف).
كان شأن تقنية اللُّغة هو ما بدأه الدُّؤلي وتوسع به الخليل الفراهيدي في “العين” وثبته سيبويه في “الكتاب”، وصاحبنا أشاع تلك التَّجربة وسهل استخدامها عبر أروع مخترعات القرن العشرين، إن لم تكن المخترعات كافة، فشأن هذا الجهاز هو شأن “العَجلة” يوم اخترعها العِراقيون الأوائل، صارت أساسا تعمل عليها الماكنات كافة، مِن الرَّافعات العملاقة إلى رقاص الساعة! وأنت تكتب في برنامج “الوورد” تظهر أمامك تحت الكلمات خطوط حُمر وخضر، وعندما تضغط على الكلمة تجد لديك الخيارات، فالذين لا باع لهم في الإعراب والصَّرف يحارون في الأمر، وربَّما اختاروا الخطأ، أي على الحظ إن أصابت أصابت وإن خابت خابت! فالبرنامج لا يهدي ولا ينصح.
هذا ما تنبه إليه صاحبنا فظل هاجسه إيجاد برنامج يقوم بمهمة التصحيح كاملةً، أي تعطيه النَّص فيعيده إليك معافى مِن الخلل اللُّغوي، مثلما هي بقية الأجهزة الأوتوماتيكية في شتى الأغراض. أخيراً أوجده، يسكب فيه المقال أو الكتاب المكتوب بالعربية، وكأنه مرَّ تحت يد النَّحوي إسماعيل بن حماد الجوهري (ت 393 هـ)، لكن ضياع حق أصحاب الانجازات العلمية والسَّطو بلا حياء، جعلا صاحبنا يؤجل إطلاق هذا البرنامج، رأيت كيف سكب فيه مقالاً وأخرجه لائقاً مُشكلاً أنيقاً، وكي يتعلم الكاتب يفرز له أخطاءه. فمثلما للكلام عباراته الأنيقة، كذلك لشكل الحرف رسمته الجميلة بتشكيل الحركات عليه، فكم تبدو الكلمات عارية منفرة بلا كسوة الهمزات والشَّدات، ومَن لا يكلف نفسه بوضعها على بدايات الكلمات وأواخرها فهو جاهل بقواعدها.
يعتقد صاحبنا أن الدُّؤلي والفراهيدي والجوهري والكفوي وسواهم لم يؤسسوا لعلوم العربية، إلا بمعرفة لعلم آخر وليكن الرِّياضيات؛ وبهذا يكون الجمع بين علمين ينتج علماً جديداً. كان إتقان علم الكمبيوتر أو الحاسوب وعلم العربية أنتج برامج كتابة وتصحيح وترجمة، وما دفع صاحبنا لشغف في برامج التَّرجمة عبر الحاسوب، إلا بعد قراءة تجربة خالد بن يزيد بن معاوية (ت 90 هـ) وهارون الرَّشيد(ت 193 هـ) والمأمون(ت 218 هـ)، فلم تحدث النَّهضات أو القفزات الحضارية إلا بالترجمة، وها هم الأوروبيون والأمريكان والرُّوس والصِّينيون ما دبت الحضارة والعلوم فيهم إلا بعد التَّراجم، هذا ما سمعته منه بأدلة ومعطيات دقيقة في عدد الكتب المترجمات وأنواع العلوم المستحضرات ودفعات الحضارات.
أنا مسرور إلى حدِّ الغرور، أن أرض العِراق ما زالت ولادة، وحزين إلى حد الانكسار على أهل الكفاءات العالية، ويكفي إنشاد بيت معروف الرَّصافي(ت 1945):
هي المواطن أُدنيها وتقصيني
مثل الحوادث أبلوها وتبليني
انظروا مَن هم رؤساء بيت الحكمة، والتَّعليم العالي الآن.. فهل هناك أمل! صاحبنا الدُّكتور عدنان عيدان ولي لا يُصنف نفسه إلا بالعِراقي، وأَضيف إنه مِن شّهربان أُمُّ الأعنابِ والرُّمَّان!
د. رشيد الخيّون
باحث عراقي متخصص في الفلسفة الإسلامية. من كتبه “100 عام من الإسلام السياسي بالعراق”.