عباس رحيم / كاتب عراقي
ما يُميز الدكتور عبدالجبار الرفاعي انه لم يكن مفكراً من الطراز الكلاسيكي، يكتب أفكاره ويختفي وراء الجدران فيكون بعيدا عن محبيه ومريديه روحيا وجسديا، فتختنق تلك الأفكار وتموت بموت كاتبها، لأن الخلود نتيجة المحبة واثرها في النفوس. عرفتُ الرفاعي المنقِذ في سنة ٢٠١٤ حينها ابلغُ من العمر سبعة عشر عاما، وكنت قد اطلعتُ على بعض الكتب والمقالات، واستمعت لكثير من المحاضرات فيما يخص الفكر الديني، لكن ذلك قد أدخلني في دوامة من الشك والحيرة، وأنا أرى ان دين الحب والرحمة والجمال والسلام والعفو والعقل لم يبق منه إلا رسمه، واصبح الكثير من رجاله يُكفّرون هذا ويفرحون بقتل ذاك. فأين الحب؟ واين السلام؟ وهل مات العفو؟ أين مكارم الأخلاق، واين الرحمة العالمية المبعوث بها نبي الرحمة للكل: “وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ”، والتي حصر فيها كتابُ الله هدف رسالة النبي محمد “ص”. تساؤلات أخفيتُها ولم أُظهرها حتى للأقربين، لئلا أُتهم بأني من القائلين بموت الدين، أو من القائلين بموت الإله، كما يقول الفيلسوف الألماني نيتشه. بعد هذه الحرب التي أشعلت النيران في داخلي، أصبحت نفسي كالبركان العاصف، بعدها بفترة قصيرة تعرفت على الأب الروحي عبدالجبار الرفاعي، ولا أُخفي القارئ اني كنت مذهولا جدا ومتفاجئا من وجود مثل هذه القامة العلمية في بلادي، ومع ذلك لا يعرف الرفاعي إلا عدد قليل، مع اننا جميعا بحاجة ماسة لهكذا مفكر يضع المرهم على جروحنا. فوسائل الإعلام في وطني لا تهتم برجال الفكر، لأنها غارقة بهذر بعض السياسيين. وما يزيد دهشتي ان الدكتور الرفاعي يُحسب على رجال الدين، لأنه انخرط في حوزة النجف سنة 1978 وواصل دراسته في حوزة قم، تلميذا ثم أستاذا في الحوزة لأكثر من 40 سنة، حيث درّس هناك الفقه واصوله والمنطق والفلسفة وعلم الكلام والعرفان، ومن تلامذته اليوم أساتذة معروفون في الحوزة. عرفتُ الرفاعي فتتبعتُ أثره وقرأتُ له الكثير من المقالات الرائعة التي أجابت عن كثير من تلك التساؤلات والشكوك في ذهني، وازالت الحيرة والقلق، حتى لقبته بالأب الروحي لكل قارئيه من الشباب، فمن يقرأ الرفاعي يشعر بحجم المحبة والحنان والرحمة التي ينقلها هذا الإنسان للقارئ، وكأنه يكتب بحبر كله محبة وجمال وسلام، ويزرع في نفس القارئ بذور الأمل والتفاؤل ويرسم صورة لحياة أجمل، قضى على كل ملامحها الاستبدادُ السياسي والديني. عبدالجبار الرفاعي يستعمل المحبة كدواء، لذلك أحيا الأرواح بالحب، فغاب الشر عن تلك الأرواح كما يقول هو: “الحبُ دواءٌ لكل أمراض الروح، لن يجدَ الشرُ ملاذًا في الأرواح التي يسكنها الحبُ… سرُ الحُبِ أنه لا يُمتلَك إلا بالحُبِ”. نشر الدكتور الرفاعي أول كتاب من ثلاثية الانقاذ،كما يحلو لي تسميتها، صدر كتاب “إنقاذ النزعة الإنسانية في الدين” عام ٢٠١٠، لكنني ابتدأت الثلاثية بالتحفة الفنية الروحية، وأعني بها كتاب: “الدين والظمأ الأنطولوجي” أقتنيت الكتاب وقرأته، رأيت هذا الكتاب يقدم أروع فهم لمفهوم المحبة والرحمة الالهية والحياة الروحية والأخلاقية والجمالية في الدين، ويرسمها بأجمل الكلمات. يقول الرفاعي في بداية الكتاب: “رحمة الله وطن حيث تُفتقَد الأوطان”، ويضيف اشراقة لامعة بودي ان تكتب بماء الذهب في أهم معالم بلادنا العربية المحكومة بالأسى، تأمل كيف يرسم الرفاعي هذه المشاعر الدفينة بكلماته المتأنية، فيقول: “هناك صوٌت دفيٌن في عالم الذات الجّواني، هو حوار الذات مع ذاتها، إنه مونولوٌج باطنٌّي، يستفيق لهذا الصوت بعض الناس، فيجده يكّرر في باطنه: أنا لست أنا، صورتي مرآة هوّيتي، فائض هوّيتي يصادر ذاتي، مثلما يصادر حّرّيتي. لاأسمع صوتي أبداً، صوتي صدى قبيلتي وطائفتي. يفرض عليّ انتمائي لهوّيتي ألا أكون أنا، كي تتطابق صورتي مع ما تنشده هوّية جماعتي، لكني لو خلوت ونفسي فسرعان ما تباغتني ذاتي، فتتمزق الأقنعة وكل شيء طمس ذاتي، فأخفي شخصيتي، التي لا أكاد أراها إلا حيث تكون ذاتي في مصارحة ذاتي”. هذا الكتاب مليء بهذه الكلمات المؤثِّرة في النفس المولِّدة لمعنى الحياة، المنقِذة لمن تاه في دروب الظلام. الجميل في كتابات الرفاعي الفكرية انها مطعمة بسيرته الشخصية، وبعض اعترافاته بأخطائه، لذلك تشعر عندما تقرأها كأنك تقرأ لغة أديب شجاع يكتب شذرات عرفانية. فوجئت باهتمام الرفاعي ودعوته للعودة إلى الذات الفردية في هذا الكتاب وكل كتاباته، الذات هنا عند الرفاعي ليست بمعنى الهوية الدينية أو القومية أو غيرهما من هويات الجماعة، وانما بمعنى الذات الفردية الخاصة، وهذا مفهوم لم أعثر عليه في كتابات دينية كثيرة قرأتها، جميعها تتحدث عن الأمة والجماعة والطائفة وتنسى ذات الإنسان ونفسه. ففي كتابه: “الدين والظمأ الأنطولوجي” خصص الرفاعي الفصل الأول منه بعنوان: “نسيان الذات”، كان فيه صريحا في الحديث عن كيفية نسيانه لذاته وضياعها في الكتابات السطحية للإسلام السياسي، وكيف استفاق من نومه قبل 40 عاما فاكتشف ضياعه وضياع ذاته. بعد مدة اقتنيت كتاب “إنقاذ النزعة الإنسانية في الدين” الذي تغير عنوانه في الطبعة الثالثة إلى “الدين والنزعة الإنسانية”، اعتمد الرفاعي هذه التسمية في الطبعة الثالثة،كما يذكر هو في تقديم الكتاب بقوله: (اعتمدتُ تسميةَ “النزعة الإنسانية” في عنوان هذا الكتاب، لأنه أضحى أكثرَ تداولاً بالعربية، ولأنه أقربُ وأكثرُ تعبيرا عمّا أرمي إليه من دلالات يحيل إليها استعمالي له في مختلف كتاباتي، وبوصفه يتضمن الإعلاءَ من منزلة العقل واعتمادَه مرجعيةً في فهمِ الوحي وتفسيرِ نصوصه، فضلا عن دوره الأساسي في تكوين العلوم والمعارف المختلفة، وما يشي به استعمالُه أخيرا من مضمونٍ أخلاقي، وما يؤشر إليه التداولُ العام لـ “الإنسانية” من معاني الشفقة والرأفة والعطف. اهتمتْ موضوعاتُ الكتاب بالتدليل على أن الدينَ لا يمثّل مرحلةً من مراحل تطور الوعي البشري، لأنه كان موجودًا بوجود الإنسان الأول وسيلبث حتى الإنسان الأخير. وشدّد الكتابُ، على وفق المفهوم الذي شرحه لإنسانية الدين، على ضرورةِ العمل بالعقل واعتمادِه مرجعيةً في كلّ شيء، واستعمالِه في تفسير مختلف الظواهر، والبرهنةِ على كلّ قضية مهما كانت إثباتا أو نفيا، والثقةِ بالعقل في فهم الدين ورسم خارطة تحدّد المجالَ الذي يشغله في الحياة ويحقّق فيه وعودَه، والكيفيةَ التي يتجلّى فيه أثرُ الدين الفاعلُ في بناءِ الحياة الروحية وإثراءِ المسؤولية الأخلاقية وإيقاظِ الضمير الإنساني، والكشفِ عن أن تجاوزَ الدين لحدوده لا يفقده وظيفتَه البنّاءةَ فقط، بل يمسي معها أدًة لتعطيلِ العقل، وإغراقِ حياة الفرد والمجتمع بمشكلات تتوالد عنها على الدوام مشكلاتٌ لا حصر لها. ويشير أيضا الكتاب أن النقدَ ضربٌ من الاختلاف وليس المحاكاة، وأن النقدَ العلمي للأفكار احتفاءٌ بها وتكريمٌ لكاتبها. وأن النقدَ ضرورةٌ يفرضها تجديدُ حياة الدين وإثراءُ حضوره الحيوي في الحياة الروحية والأخلاقية والجمالية. وأن النقدَ هو الأداةُ العقليةُ الوحيدةُ لتصويبِ الأفكار وإنضاجِها. وأن الفكرَ الديني الذي لا يُنقد يُنسى ويخرج أخيرًا عن التداول”. ونصل في هذه التجربة الشيقة لآخر كتاب للدكتور في ثلاثيته الرائعة وهو كتاب “الدين والاغتراب الميتافيزيقي”، ويتضمن هذا الكتاب إشارات بليغة ودواء لكثير من الأمراض التي ابتلينا بها نتيجة جهلنا المتراكم، فهنا يشير الدكتور الرفاعي لهذه الأمراض وكيفية علاجها بقوله: “انتهى النموذجُ الذي صنعه التدين الشكلي الى المبالغة في التشديد على السلوك الظاهري للمتديّن، وأسرف كثيراً بالاهتمام بالشعائر والطقوس والاحتفالات الجماعية، وانشغلَ بشكلِ اللباس، ولغةِ الجسد، وتعبيراتِ الوجه، ونوعِ الحركة والمشي، ونبرة الصوت. ما دعى أكثرَ المتديّنين بهذا النمط من التديّن لصناعة جدارٍ سميك بين شخصيته الحقيقية في باطنه، وبين ما يُظهره للخارج من سلوك، وأفضى ذلك إلى انشطار الشخصية إلى كيانين: خارجي لا يشبه الداخلي، وداخلي لا يشبه الخارجي، وربما حاول البعضُ أن يظهر بملامح غامضة، بغية إخفاء شخصيته الباطنية وتلبيسها. وربما أسرف بعضٌ آخر بالتمثيل بغية إخفاء أكثر ملامح شخصيته، حتى صار ذلك الشخص لفرط التمثيل بلا ملامح… تعرفتُ في حياتي على شباب أصبحوا متدينين بهذا النمط من التدين، وعندما تدينوا افتقدوا بالتدريج كثيرا من وضوحهم وبساطتهم وعفويتهم وتلقائيتهم ومباشرتهم في التعبير عن أنفسهم. بعد أن فرضتْ عليهم بيئةُ التدين الشكلي محاكاتَها بكلّ ما يتفشى بها من تمثيل زائف”. ونجده في هذا الكتاب يقدّم لنا رؤيته الواضحة والدقيقة عن التصوف فيقول: “تراثُ التصوّف سيفٌ ذو حدين، نبهتُ أكثرَ من مرة إلى أن تراثَ التصوّف سيفٌ ذو حدين، وذلك يفرض على الباحثِ أن يتنبه للثغراتِ في كتب المتصوّفة، والوهنِ الذي يتغلغل في طياتها، وأن يتعاطى بيقظة مع آثارهم، فهي اجتهاداتٌ بشريةٌ وليست نصوصا مقدّسة. وليعلم المتصوف أن شيوخَ التصوّف بشرٌ تورّطَ مريدوهم في تقديسِ آرائهم، وتوثينِ سلوكهم، وتحويلِ شخصياتهم إلى أصنام. وتمادى المريدُ في سجن نفسه بعبوديةٍ طوعيةٍ لشيخه، وتعالتْ تعاليمُ الشيخ في وجدان الأتباع فصارت سجنًا لهم، بنحو صار المريدُ يرضخُ لها حدّ محو شخصيته ونسيان ذاته، وانتهت إلى تكبيلِهم وشلِّ حركتهم… على الباحث في نصوص التصوّف أن ينتبه إلى أن تراثَ المتصوّفة لا يمكن استئنافُه كما هو في عالمنا اليوم، لأنه كأيّ تراث آخر صنعه البشرُ ينتمي للأفق التاريخي الذي وُلد فيه، وهو مرآةٌ للعصر الذي تكوّن فيه، إذ ترتسمُ في هذا التراث أحوالُ ذلك العصر ومختلفُ ملابساته. وهو تراثٌ يتضمن كثيراً من المقولاتِ المناهِضة للعقل، والمفاهيمِ التي تعطّلُ إرادةَ الإنسان وتشلّ فاعليتَه، وتسلبه حريةَ العودة إلى عقله واستعمال تفكيره النقدي. وأن بعضَ أنماط التربية الروحية التي يعتمدها التصوّفُ العملي تسرفُ في ترويضِ الجسد، وتتنكّرُ للطبيعة البشرية، باعتمادِ أشكالٍ من الارتياض الذي يكون الجسدُ فيها ضحيةَ الجوعِ والسهرِ والبكاءِ والعزلةِ والصمتِ، فهذه الأساليب من أهمّ أركان تربية السالك لدى أغلبهم. ومثلُ هذا الارتياض العنيف طالما فرضَ على المتصوّف الانسحابَ من المجتمع والانطواءَ على الذات، وقد يفضي أيضاً إلى أمراض نفسية، وحتى أخلاقية. لذلك ينبغي أن نتعاطى مع مفاهيم التصوّف بيقظة، وأن نحذر من تقليدِ أحدٍ من أعلام التصوّف في سلوكه، أو نتقمص حياتَه الخاصة، وألا نقع في أسرِ أفكارِه مهما كان”. ويشير ايضا الى الأثر القاتل الذي سيصيبنا اذا جعلنا الدين يتمادى في اللامعقول بقوله: “إن لم يضع كلُّ دين حداً لتماديه في اللامعقول يتحول إلى مجموعة من المواقف العبثية والتصورات الخرافية والحكايات اللامعقولة. يحدثنا التاريخ أن كل الأديان التي تستبعد العقل في تعليمها يستنزفها الجهل، وتتغلب عليها الأساطير، وتنهكها الخرافات، وتصير متحفاً للمعتقدات المحنطة، وملاذاً للهويات المتحجرة، ولن يخرج أي دينٍ من مأزقه، ولن تخرج مجتمعاتُ الإسلام من مأزقها التاريخي مالم ترسم حدوداً يتكشف فيها مجال الديني وحدوده ومجال الدنيوي وحدوده، ويكف كتّابُنا عن الفهم اللامعقول للدين ونصوصه، والتلفيق بين الديني والدنيوي، ولصق كل شيءٍ بالدين”. اختم هذه القراءة امام عطاء استاذي وأبي الروحي د. عبد الجبار الرفاعي، بعبارة له، فيها منفعة للقارئ العزيز، يقول الرفاعي: “إن أخطرَ ما يهدّد وجودَ الدين في المجتمع هو ضمورُ الحسّ الأخلاقي في حياة الفرد والجماعة”. في الختام أحببت أن أعرض للشباب التائهين من جيلي تجربتي التي عشتها في القراءة، فرأيت كيف تكون بعض الكتابات دواءً يشفي الروح، وكيف تكون بعض الكتابات سما عنيفا يفتك بالروح. محبة لكل الأحبة الذين يفتشون عن طريق المحبة الذي يوصلهم إلى الله، وشفقة على كل من يعتقدون خطأ أن طريق الكراهية يوصلهم إلى الله. [1] ثلاثية الإنقاذ كما أسميها، أعني بها المؤلفات الأخيرة للدكتور عبدالجبار الرفاعي عن الدين، وهي: “إنقاذ النزعة الإنسانية في الدين، الدين والظمأ الأنطولوجي، الدين والاغتراب الميتافيزيقي”. [2] عباس رحيم / كاتب عراقي.