هاني فحص
كان في الحوزة، زماننا، وقبله، من كانوا مرشحين للمرجعية، وهم على ميل شديد للتجديد، وتحويل الحوزة الى مؤسسة، وكلهم، ومن اجل هدفهم هذا، قرروا ان يتصرفوا بطريقة يفهم منها الجميع بأنهم لا يفكرون في المرجعية ومنافعها الدنيوية. ومع ذلك لم يسلموا من حواشي المراجع، وقد كان من الممكن ان يبلغ التضيق الفعلي عليهم حداً يحولهم الى فاشلين، لولا أن المراجع بذواتهم واشخاصهم قد اسهموا في حمايتهم نسبياً او جزئياً… وكان هؤلاء المجددون قد اقلعوا عن التفكير في العيش الهني، لهم ولذريتهم، لما يلزمهم به من الاذعان والتخلي عن الطموحات الاصلاحية. وقد عمد بعضهم (الشيخ محمد رضا المظفر) مؤسس منتدى النشر وكلية الفقه، الى العمل الليلي بأجر قليل، لإعالة نفسه وعائلته، متخذاً من اسرته العلمية العريقة حامياً له ولو في حدود.
تخلى المجدد المجتهد المظفر عن المرجعية وانشغل بسلامته الذاتية من اجل سلامة مشروعه، الذي سلم من دون ان يرتاح او يستقر تماماً، الى ان اتيحت لأعداء المشروع في داخل الحوزة، فرصة في تهديم النظام البعثي للمشروع، فيما كان يدمر العراق كله.
ولطالما سمعنا ان المظفر وزملاءه من العلماء وفي مقدمتهم الكبير الزاهد العفيف السيد محمد تقي الحكم، وتلاميذه من مشاهير الفكر والادب في الحوزة، هم من حطب جهنم! وقد وسلت البراعة بأهل الهوى، انهم حاولوا رسم صورة مشوهة عنهم في اذهان بسطاء الناس والغوغاء، حتى شاع ان مكارية النجف كانوا ينهرون حميرهم البيض عندما تقصد في مشيها في ازقة النجف لعظم حمولتها من مواد البناء، ويقولون لها بعد الوكز القاسي «دي، دي، تمش الراق الراق» (أي بخطى ثقيلة) كأنك «مومن» «مال» منتدى، اي ان الحمار عصري مثل شيوخ منتدى النشر.
اثناء كتابتي لهذه الذكريات خطر لي ان اسأل من لديهم فقه وراء الفقه، عما اذا كانت عباءة المرجعية طهوراً، حسب المصطلح الفقهي، اي طاهرة مطهرة؟
وفي كل الاحوال فاني احذر من خطر سراية نجاسة الاشرار والفاسدين وآكلي اموال اليتامى والمساكين والمواطنين وارامل الشهداء (بالدين) الى العباءات التي هي ملاذنا ورجاؤنا الاخير وقد حلها السيد صالح الحلي بذكائه المعروف، عندما قال على المنبر في صحن علي (ع) بعد مصالحته مع المرجع: ان البحر لا يتنجس بل حواشيه تتنجس! وما زلت اذكر بحسرة وندم، اني قرأت كتابا من مجلدين عن انشطة علمية وافكار شجاعة، لأحد العلماء، وقرأت ان كباراً في السياسة والفكر العربي، من سعد الله الجابري رئيس وزراء سوريا من زمان الى رياض السلح زعيم الاستقلال اللبناني، الى الحاج امين الحسيني الى طه حسين، قد اصغوا الى الرجل واعجبوا، بل فتنوا ببلاغته واتساع افقه الفلسفي، وان جمهورا قدسيا استقبله عند باب المدينة بقيادة الحاج أمين، الي امن له، بناء على طلبه، لقاء حوارياً مع عدد من مفكري الصهاينة في تل ابيب، على خوف من الحسيني، وثقة من عبدالكريم الزنجاني الذي خرج من الحوار سليماً، ليدفع ثمن نجاحه في بيت ابيه في النجف.
قرأت، ولم يدر في خاطري، ان هذا الرجل هو نفسه ذلك الفارع البهي الطلعة الحزين، المنكسر، الذي كان يسير وحده، وجلا في «السوق الكبير» ذهابا وايابا من ضريح علي وصلاة المغرب، لا يسلم عليه احد ولا يسلم على احد، لانه لا احد يرد عليه سلامه! ولا تعدم في السوق من يغمز ويلمز ويضحك او يبتسم بسخرية او يتمتم بالشتيمة قربة الى الله تعالى! وقررت ان اكفر عن ذنبي ولو بعد فوات الاوان بوفاته، وعن ظلمي له بتصديق الشائعات التي بدا وكأنها مجمع عليها، ولم يكن في مقدور احد ان يخرق هذا الاجماع علناً، لانه يفسق فان اصرّ حُكم بارتداده، لا من قبل الحاكم الشرعي (المرجع) بل من قبل رئيس الشرطة الدينية وضباطها الكبار… فعلمت ان الرجل عندما توفي شيعه ودفنه الدفانون في وادي السلام… وعندما ذكرت امري معه، اخبرني بعض ابناء العلماء اللبنانيين المعاصرين له، ان بعض المعممين كان ينفحهم بعض «العانات» مقابل ذهابهم الى السوق الكبير، في موعد مرور الرجل لايذائه ببذاءات يندى لها الجبين… وكانوا يفعلونها. وكشف لي اثنان من اطايب زملائي الطلبة، بعد موته، انهما زاراه في منزله الحقير، وعادا باحترام وحب شديد له… بعدما فوجئ بهما وكأنهما معجزة من السماء!
عزيزي القارئ، ارجو أن تكون قد عرفت اسم الرجل بالكامل.