
صادق الطائي
ونحن نعيش، كل في محبسه أو محجره الصحي، نستشعر دون شك تعاظم سطوة الدولة على كل تفصيلة من تفاصيل حياتنا، فالأماكن المسموح الذهاب لها محددة، والطريقة التي نتنقل بها محددة، وعدد الاشخاص المسموح بتجمعهم محدد، وإيقاف العمل في الشركات والمصانع، واغلاق المدارس والجامعات مفروض من قبل الدولة، والتحكم بالدخول بات بيد الدولة عبر دفعات المساعدة التي ستقدم لمن تضررت اعمالهم، مرورا بكل تفاصيل القوانين المحددة للتعاطي مع جائحة كورونا، وهنا يتبادر الى الذهن مجموعة اسئلة ملحة مثل؛هل كان بإمكان الدول أن تتحكم بهذا الشكل الصارم بسلوكيات شعوبها قبل الجائحة؟ وهل استثمرت بعض الدول ذلك لترسيخ قيم سياسية معينة، أو ايقاف أو اجتثاث سلوك سياسي ما، وذلك عبر استغلال قوانين الحجر؟، وهل هنالك فرق في التعامل، أو استثمار فخ كورونا لتضخيم سلطة الدولة بين الدول ذات الديمقراطيات الرصينة والدول الشمولية أو شبه الشمولية ؟.
الامر الذي لا نقاش فيه إن شكلا جديدا من السلوكيات السياسية ظهرت تزامنا مع دخولنا (عصر كورونا)، ويذكر بعض الباحثين أمثلة من حقبة الحرب الباردة وعدم قدرة دول شمولية صارمة مثل الاتحاد السوفيتي ومجموعة الدول الاشتراكية على مراقبة سلوك مئات الملايين من السكان على مدار اليوم. لكننا اليوم في زمن كورونا نعيش ذلك، إذ أصبح الامر سهل التطبيق بمجرد أن تصدر الدولة أمر الحجر الصحي والتباعد الاجتماعي، وتوكل تطبيقه لقواتها من الشرطة والجيش، وتغلق الحدود، ويتم ايقاف كل مظهر من مظاهر الحياة لأمد غير محدد الى أن تنتهي أزمة الوباء، فتعيش مجتمعات كاملة داخل سجونها البيتية، هذا الامر منح الدول سلطات غير مسبوقة بحجة أو بداعي الحفاظ على حياة السكان. لكن من جانب آخر هل من حق الشعوب مناقشة قوانين الحكومات بهذا الشأن؟ وهل يمكنها التعرف على مدى مصداقية قوانينن الحجر، أو جدواها، أو مدى الضرر الذي ستلحقه بالمجتمعات مستقبلا؟
اولى تأثيرات الجائحة التي لاحظها المراقبون تمثلت في ما أحدثته من تغيير بعض السلوكيات السياسية في بعض المجتمعات التي كانت تمر بأزمات حكومية وتظاهرات احتجاجية ضد الفساد المالي والسياسي ، مثل تظاهرات هونغ كونغ التي اوقفت، أو انهاء تظاهرات تشيلي وفنزويلا في امريكا الجنوبية، أو الجزائر ولبنان والعراق وإيران في الشرق الاوسط، إذ سارعت حكومات هذه البلدان إلى استغلال شروط الحجر الصحي، والايعاز لقواتها الامنية والعسكرية لتنفيذ منع التجمعات عبر الاقناع او التخويف من الوباء من جهة، أو بفرض المنع بالقوة العسكرية والاعتقالات الذي تم بنشر الجيش في شوارع المدن، والإسراع إلى سجن المعارضين السياسيين والإعلاميين.
ويمكننا القول إن ردود افعال الشعوب تجاه التغول الجديد للدولة جاء متباينا، إذ شهدت الدول ذات الانظمة الشمولية او شبه الشمولية كالصين وكوريا الشمالية وايران وبعض جمهوريات اسيا الوسطى مثل أذربيجان وتركمانستان رضوخا واضحا من المجتمعات لأوامر الدولة، وسواء جاء هذا الرضوخ بسبب تعود المجتمعات على طبيعة الحكم في هذه الدول، أو خوفا من العقوبات الاضافية الشرسة الذي تفرضها هذه الدول على مجتمعاتها، فأن النتيجة كانت طاعة عمياء، وسيطرة مبكرة نسبيا على انتشار الوباء بحسب اعلام هذه الدول التي شكك الكثيرون في مصداقيتها.
يذكر تقرير منظمة هيومن رايتس ووتش عن “ابعاد حقوق الانسان في ظل جائحة فيروس كورونا المستجد”، ما نفذته دول مختلفة من إجراءات في زمن الجائحة ومنها الحكومة الصينية التي يشير لها التقرير بالقول؛” في الصّين، فرضت الحكومة حجرا صحيا واسعا لا يحترم كثيرا حقوق الإنسان، إذ فرضت السلطات الصينية حجرا صحيا على قرابة 60 مليون شخص في يومين في محاولة للحدّ من انتقال العدوى من مدينة ووهان في مقاطعة هوبي، التي اكتُشف فيها الفيروس أول مرة، وأن السلطات استخدمت تدابير احتواء تعسفية مختلفة، شملت إغلاق أبواب منازل العائلات التي يُشتبه في إصابتها باستخدام قضبان حديدية، واعتقال الأشخاص بسبب رفض وضع الأقنعة، وتسيير طائرات بدون طيّار فيها مكبرات صوت لتوبيخ الأشخاص الذين يخرجون دون أقنعة”. المفارقة إن العديد من المثقفين العرب هللوا وصفقوا للتجربة الصينية (العظيمة) التي نجحت في احتواء الوباء، بالرغم من إن الكثير من التقارير العالمية تشير الى عدم شفافية النتائج والارقام التي أعلنتها الجهات الرسمية الحكومية في الصين.
بعض الدول التي تشهد صعود نوع جديد من التسلط استغلت بدورها فخ كورونا وظروف الحجر ومنع التجوال لتمرر اجنداتها السياسية، ويمكننا الاشارة هنا الى ما كتبه هشام ملحم في تقرير صحفي عن هذا الجانب من الجائحة إذ يقول؛ في إسرائيل، استغل رئيس الوزراء بنيامين نتانياهو، الذي يواجه منذ سنتين اتهامات قضائية بالفساد، جائحة كورونا، لتعطيل عمل القضاء الإسرائيلي، ونجح بذلك في تأجيل محاكمته، كما نجح في تعطيل عمل البرلمان، وفعل ذلك طبعا باسم مكافحة جائحة كورونا. هذه الإجراءات ساعدت نتانياهو على إضعاف وتفكيك المعارضة حين انشق بيني غانتس الذي كان يرأس تحالف “أزرق أبيض” عن المعارضة لينضم إلى ائتلاف نتانياهو.
كذلك الحال في روسيا، إذ استغل الرئيس فلاديمير بوتين الجائحة وطلب من البرلمان الضعيف إلغاء القيود الزمنية المفروضة على خدمة المسؤولين الكبار، بمن فيهم الرئيس، ما يعني أن بوتين سوف يبقى حاكما لروسيا إلى أجل مفتوح، كما استعملت حكومة بوتين الاجراءات الامنية الخاصة بمكافحة الارهاب في حربها ضد الوباء وفي فرض سيطرتها على المجتمع ، إذ توسعت أعمال المراقبة بما في ذلك استخدام الأجهزة التي تتعرف على ملامح الوجوه بدقة، لكي تستخدم في رصد، من يخالف تعليمات الحجر الصحي، أو أي تظاهرات معارضة في المستقبل.
ردود الافعال في المجتمعات الغربية ذات الديمقراطيات التاريخية كانت بدورها مثيرة للاستغراب والتعجب، أذ سارت مجتمعات هذه الدول وفق نمط القطيع الذي تحركه عصى الحكومة، وأدخلت في الحجر الصحي إستجابة لصرخات الفزع والتخويف التي أطلقتها السلطات الصحية، لكن بعد مرور شهر على الحجر الصحي، وحوالي منتصف شهر نيسان /ابريل ابتدأت هذه المجتمعات بالتململ عندما استشعرت خطر الكارثة الاقتصادية القادمة لا محالة. إذ شهدت العديد من دول اوربا وبعض الولايات الامريكية تظاهرات واحتجاجات ضد سياسة الحجر الصحي ونتائجه الكارثية اقتصاديا واجتماعيا.
فقد شهدت مدن برن وزيورخ السويسرية تظاهرات مناهضة ورافضة لسياسة الحجر الصحي، وقد فرقت الشرطة تظاهرة تجمعت قرب مقر الحكومة في برن للاحتجاج على تدابير مكافحة فيروس كورونا المستجد في البلاد. كما نفذت الشرطة البريطانية، يوم السبت 16 آيار /مايو، عددا من حالات الاعتقال لأشخاص شاركوا في تظاهرة تجمعت في هايد بارك في قلب لندن ضد قيود الإغلاق الحكومية الخاصة بالحجر الصحي، ومن بين هؤلاء المعتقلين بيرس كوربين شقيق زعيم حزب العمال المعارض السابق جيرمي كوربين.
اما الولايات المتحدة الامريكية فقد شهدت مدن مثل لانسينغ عاصمة ولاية ميشيغان، تظاهرات صاخبة ضد التداعيات الاقتصادية الكارثية لقوانين الحجر الصحي، فقد تجمع المئات أمام مقر الحكومة المحلية، رافعين لافتات كُتب عليها “أوقفوا العزل”، و”نريد أن نعمل”،و”العيش حراً أو الموت”، وقد شهدت التظاهرة حمل مجموعة من المتظاهرين للأسلحة والبنادق الالية، كما ارتدوا سترات واقية من الرصاص في اشارة الى نوع من اعلان الحرب على قوانين الحكومة المحلية، كما شهدت مدن امريكية مختلفة تظاهرات تطالب بوقف العزل في شهرآيار/مايو في ولايات كارولاينا الشمالية وكنتاكي وأوهايو، ومن المتوقع أن تجري تظاهرات أخرى مماثلة في كونكورد في نيوهامشير وفي أوستن في ولاية تكساس.
فهل يعني ذلك بداية انتفاضة الشعوب ضد طغيان الدول الذي أججه فخ كورونا؟، أم إنه مجرد عارض عابر، وان زمن تغول الدولة قد ابتدأ مع جرس الانذار الذي اطلقه الفيروس؟. اجراءات الحكومات في الخريف القادم فيما أسمته الموجة الثانية من فيروس كوفيد 19 هي من سيجيب على هذ التساؤل.