بقلم: حارث الحسن
ربما يدفعنا الدور المتصاعد لوسائل الميديا الجديدة، والامكانيات التي وفرتها لخلق تضامنات اجتماعية متحررة من قيود السلطة، الى تسليط الضوء على ما يبدو انه فشل في الميديا الجماهيرية Mass Media في ان تكون معبرة عن الصوت المهمش. السؤال هنا، هل يمكن حقا توصيف ذلك بالفشل، ام انه في الحقيقة انعكاس لوظيفة تلك الميديا الرئيسية : تطبيع واعادة انتاج علاقات السلطة القائمة.
احاول هنا تجاوز ونقد الصورة التقليدية التي ترسمها الميديا عن نفسها بوصفها “مرآة” للواقع، وبانها تقوم بدور الناقل “الموضوعي” لما يجري في الحياة الواقعية . ورغم انني اتجنب الوصول بالنقد الى مستويات راديكالية كتلك التي عبر عنها بودريلارد (1994) في نظريته عن الاتصال الجماهيري بوصفه الماكنة الرمزية للنظام التي تشتغل عبر الية المحاكاة لخلق واقع افتراضي وظيفته منع الناس من التواصل الحقيقي، فإنني احاول المحاججة بان الاليات والشروط والقيم المتحكمة بالصناعة الخبرية في وسائل الميديا الجماهيرية تؤدي بحكم تركيبتها وانماط تفاعلاتها الى انتاج الرسائل الاعلامية المضللة او التبسيطية او الموجهة . ويبتنى النقد الذي اعتمده على محاولة البرهنة بان الميديا الجماهيرية لا تلعب الدور الذي تدعيه لنفسها والذي تفترضه النظرية الديمقراطية والقائم على عنصرين اساسيين : الأول، تقديم المعلومة الصحيحة والنقية والتي تتسم بالجدية والعمق والغير متأثرة بالانحيازات السياسية او الثقافية او الاجتماعية عما يجري فعلا، وبهدف جعل المتلقي اكثر وعيا وقدرة على التقبل النقدي للمعلومة وبالتالي تكوين وعي مجتمعي مبن على ادراك يقترب من، ان لم يطابق، الواقع . والثاني، توفير حيز حواري عام(1) وفق تعريف هابرماس وظيفته استيعاب الرؤى والتصورات المختلفة ومقابلتها وتطوير تفاعلها بما يعزز قدرة المجتمع على اتخاذ مواقف واعية ومدركة توجه المنظومة السياسية-الاجتماعية نحو اعتماد الخيارات الاكثر صوابا.
ان الخبر بحسب توتشمان هو ” مورد اجتماعي تؤدي اليات تشكيله الى انتاج سلسلة من القيود والمحددات التي تؤطر بدورها اشكال المعرفة التي يمكن انتاجها والتي ندعوها بـ(الواقع) “. هذه النظرية في فهم الخبر تتجاوز بل وتنقض الصيغة المبسطة عن كونه مرآة للواقع، فهي تستبدل فكرة المرآة بفكرة اطار- الشباك، تلك التي عرفها ببراعة اينتمان ( ص52 ,1993) حينما أوضح ان صناعة الخبر هي عملية تأطير تقوم على ” اختيار جوانب معينة من واقع مدرك وجعل هذه الجوانب اكثر بروزا في النص الخبري، وبهذه الطريقة يتم وضع حدود معينة تتحكم بتعريف المشكلة وبتفسيرها سببيا وبتقويمها اخلاقيا، وايضا بتصور سبل معالجتها “. ان مجاز الاطار يشير الى ان عملية تمثيل الواقع اعلاميا تشبه عملية رؤية الامور من اطار الشباك، فصورة الواقع من الشباك تبدو حقيقية لكنها ايضا محدودة بأبعاد اطار الشباك وبزاوية الرؤية التي يوفرها ما يعني ان ما نراه من خلال هذا الاطار ومهما اقترب من حقيقة ماهو خارج الاطار سيختلف باي حال عن ما يمكن ان نراه لو كنا في وسط المجال الخارجي الذي يظل عصيا عن ان يستوعب كما هو لأن رؤيته تظل مشروطة بمكاننا منه، بمدى رؤيتنا ومدى صفاء تلك الرؤية .
هذا المفهوم يتجاوز سطحية، بل وسذاجة، الاعتقاد ان الخطاب الاعلامي يمكن ان يكون خال من القيمة المعيارية، فصياغة الاخبار تتأثر بالسياق الاجتماعي والثقافي لمنتج الخبر ومتلقيه وتمثل حوارا ضمنيا يعتمد لغة وترميزا يفهمهما الناقل والمتلقي، وبنفس القدر من الاهمية وبحسب ما يوضح ريس (2003) فان هناك نمط من العلاقات و البنى السلطوية والمؤسسات الساندة لها تقوم بإنتاج واعادة انتاج اطر و سياقات روتينية مهمتها اضفاء المعنى على العالم الخارجي. فالأحداث تكتسب معناها بالطريقة التي نعتمدها في وصفها وهذه الطريقة ليست مجردة من نظام المعنى الذي تنتجه المجتمعات ويتمثله الافراد عبر عملية التنشئة الاجتماعية . ان وصفنا للموضوعات الاجتماعية هو في الحقيقة تعبير عن احتكاك ذاتياتنا بكل ما تحمله من قيم وتصورات وانحيازات مع تلك الموضوعات، وبالتالي فان عملية الوصف بذاتها هي تجريد لها من “موضوعيتها” (غوفمان 1974).
واستنادا الى هذه الفرضيات التي اخذت منذ السبعينيات تعيد تشكيل الكثير من معارفنا الاجتماعية وفهمنا لدور الميديا، فان النظريات ما بعد الحداثية، لاسيما تلك التي اعتمدت المنهج التكويني(2) صارت تميل الى الاشارة للوظيفة الاجتماعية للميديا عبر مفهوم “الواقع المعالج اعلاميا”(3) حيث يتم التركيز على التشكيل الاجتماعي للمعنى والذي في اطاره تقوم وسائل الميديا بنقل الموضوعات الى داخل الخارطة الذهنية والادراكية التي تبنى اجتماعيا عبر انماط ثقافية تعززها انماط معينة من التبادلات الاجتماعية وعلاقات السلطة (جونسون- كارتيه 2005، دورهام 2003 ) . من هنا فان صناعة الخبر هي عملية ايديولوجية ورمزية تهدف الى دعم او نقض قراءة معينة للواقع، وبالتالي فكل خبر هو “منحاز” بطريقة او اخرى، حتى ان لم يكن هذا الانحياز مقصودا .
هناك شبه اتفاق داخل المدرسة التكوينية ولدى معظم الاتجاهات النقدية ان الميديا الجماهيرية تلعب دورا في شرعنة او الحفاظ على الامر الواقع بما ينطوي عليه من توزيع للسلطة ونمط من العلاقات الاجتماعية القائمة على الهيمنة والاستتباع والتهميش، ولو كان هذا الامر مفهوما في حالة الميديا الرسمية داخل الانظمة الشمولية، فلا يبدو الامر مختلفا جدا في حالة الميديا المهيمنة في الدول الرأسمالية-الديمقراطية، مع ضرورة الاقرار بوجود اختلافات كمية ونوعية بحسب النظام الاجتماعي-السياسي السائد . يعيدنا ذلك الى التفسير الماركسي للميديا بوصفه اداة لدى الطبقة البرجوازية لادامة هيمنتها ادراكيا وشرعنة النظام الاجتماعي القائم على استغلال الطبقة العاملة، رغم الاختلاف بين الماركسيين حول مااذا كان هذا الدور بنيويا ام أداتيا، ومثل هذا التحليل نرى صداه في المدارس النقدية الحديثة التي طورته عبر التخلي عن المضامين القديمة للنظرية الماركسية وما تنطوي عليه من زخم ايديولوجي، الا انها ظلت تواجه تباينا بين الفهم البنيوي والفهم الاداتي انعكس في طريقتين للتحليل، احداهما تتبنى تحليلا مايكرويا يركز على الاطار الاجتماعي والثقافي والسياسي الذي يوجه الصناعة الخبرية، و على تحليل العناصر البنيوية وعلاقات السلطة الكامنة، في حين تتبنى الثانية تحليلا ميكرويا يفضل التعامل مع الصيغة الخبرية بذاتها ومايقف ورائها من علاقات وعوامل مؤسساتية توجه الصناعة والمعالجة الحرفية للاخبار استنادا على مايعرف بالقيم الصحفية، وهو منهج مثلته توتشمان بامتياز .
ونحن نميل الى القول بان الصيغ الخبرية ناتجة عن التفاعل بين العوامل البنيوية والتنظيمية، وهو تفاعل معقد يحتوي على ابعاد سياسية واجتماعية وثقافية واقتصادية ومؤسساتية، ويؤدي الى انتاج مايعرف بالاتجاه السائد (4) الذي يقوم على مطابقة الاجندة الاعلامية مع الاجندة السياسية وينتج حدودا لما أسمته هالين (1989) بـ”مجال الخلاف المشروع” . بعبارة اخرى، ان المؤسسات الاعلامية الكبرى وعبر تشابكها مع المؤسسات الاقتصادية والسياسية المهيمنة تسهم في توجيه الرأي العام نحو اجندة سياسية معينة تتضمن كل مايسمح به التحالف الاجتماعي المهيمن ويستبعد كل ماينطوي على مسائلة للاساطير والسرديات الاساسية التي يبنى عليها النظام السياسي-الاجتماعي (انظر تشومسكي وهيرمان1994 ) . لايعني ذلك بالضرورة ان الميديا لاتقوم بدور محفز على التغيير، لكنه تغيير يواكب ويطور ويتكيف مع التغير في اتجاهات النظام وتحالفاته الاجتماعية، كما انه لايعني بالضرورة غياب طرح اعلامي خارج عن مجال الاختلاف المشروع (ربما مثل مايكل مور مثل هذا الاتجاه في امريكا )، لكنه يعني ان طبيعة التشابكات بين المؤسسات الاعلامية ونظام القوة السائد يمنح موارد اكبر في التاثير لصالح القنوات والصحف التي تعيد انتاج الاتجاه السائد .
وهناك ثلاثة مفاهيم نظرية حول الصناعة الخبرية تحاول شرح الدور الذي تلعبه الميديا ضمن النظام السياسي بمعناه الواسع الذي لايقتصر على المؤسسات الفوقية بل يشمل البنى والعلاقات والتحالفات الاجتماعية الداعمة لها، المفهوم الاول هو تحديد الاولوية (5) ويشير الى ان دور الميديا هو في تركيز الانتباه الى حدث معين او شخصية معينة او تصور معين، وفي هذه الحالة دفعه الى الاهتمام الشعبي بطريقة تعيد صياغة الاولويات وتهمش قضايا اخرى قد تكون فعليا اكثر اهمية ( التركيز على وفاة الاميرة ديانا او مايكل جاكسون او زواج الامير وليام )، المفهوم الثاني هو وضع الاجندة (6) والذي من خلاله تحدد الميديا للمتلقين ماهو مهم او جدير بالتداول، وهذا المفهوم عبر عنه كوهين بالقول “ان الميديا قد لاتكون ناجحة في تعليم الناس كيف يفكرون، لكنها ناجحة بالتأكيد في تعليمهم بماذا يفكرون” (انظر آلتشول 1995 , ص14 ). المفهوم الثالث والذي أتينا عليه سابقا لاهميته وشموليته وعلاقته الخاصة بالصناعة الخبرية هو التأطير، الذي يعرفه تانكارد (2003 , ص100 ) على انه “مبدأ مركزي ينظم المحتوى الخبري بشكل يعرف ويفسر ماهية الخبر عبر استخدام تقنيات الاختيار والتأكيد والاقصاء والادماج”. فحينما تقول صحيفة اسرائيلية ان الجنود الاسرائيليين قصفوا مدرسة فلسطينية ثم تتبع ذلك بعبارة ( ويشتبه ان ارهابيين تابعين لحماس كانوا متواجدين في هذا الموقع .. )، وحينما تشير قناة تلفزيونية عربية الى تفجير سيارة مفخخة في سوق شعبي ببغداد ثم تردفها بعبارة (ويعتقد ان دورية امريكية كانت متواجدة في الموقع قبل الانفجار )، فاننا هنا امام صيغ تقليدية للتأطير القصدي للخبر السياسي وايصال رسالة معينة الى المتلقي، ويسهل العثور على هذه التقنيات في معظم ماتتناقله وسائل الميديا، لاسيما الأقل احترافية، من اخبار .
بالنسبة لبعض الباحثين، فان الميديا لاتكتفي فقط باعطاء الخبر طابعا تأويليا انتقائيا بل انها تخلق وعيا خاطئا ومشوها، نسخة غير حقيقية لـ”الحقيقة” تصبح عبر التداول والتكرار حقيقة مسلما بها في اذهان الناس. هنا ربما نقترب مجددا من التحليل الراديكالي لبودريلارد الذي عبرت عنه مقالاته قبل وخلال وبعد حرب الخليج الثانية عام 1991 والتي يمكن اختصارها بعبارة “ان حرب الخليج لم تقع !!”، في تلك المقالات قدم بودريلارد تحليلا ثاقبا حول شكل الحرب الحديثة التي نقلتها الميديا الغربية والقائمة على صور الاقمار الصناعية التي تصور الصواريخ عالية الدقة تنطلق نحو اهدافها ولاوجود وحضور لمعاناة الناس ولشكل الحرب التقليدية التي يموت فيها الناس وتنتج عنها اعداد كبيرة من الضحايا، كانت تلك الصورة محاكاة للواقع هدفها انتاج واقع موازي وافتراضي يصبح عبر التداول هو الواقع الحقيقي . يعبر ذلك في نظر بودريلارد عن طبيعة الدور الذي صارت تلعبه الميديا في مجتمع الاستهلاك عبر ماأسماه بالمحاكاة.