الروح.. خارج أصفادها –
علي أبو الريش –
«قيل لنحات كيف تصنع التماثيل من الحجر الصم؟ فقال: أنا لا أصنع التماثيل من الحجر، وإنما أمسح الغبار عن تمثال كامن في أحشاء الصخر». نتحدث عن الحب في زمن يطارده شبح الخوف من الحب، لأن كتلة الألم تكورت، وتورّمت، وتأزمت، فتدحرجت على صدور الكائنات حتى سلبت واغتصبت، فاستولت على أعشاب القلب، فمحقتها وسحقتها، حتى صارت مثل قصاصات ورقية تالفة. لا يمكن للحب أن ينمو ويترعرع، على أرض أصابها الجفاف العاطفي، وصار الإنسان مثل الخنفساء عندما يستولي عليها، ألم الإحباط، فإنها تحشر جسدها في زاوية قصية، وتولي ظهرها للنمل، كي ينهشه وينخره، حتى يحيلها إلى قشرة قديمة قِدم الدهر.. الفساد العاطفي يبدأ من تورم الأنا، والتقوقع حول الذات، حيث لا يرى المرء إلا ذاته ومن حوله، ما هم إلا بقايا كائنات، هذا التورم الذي يقبض على الروح، ويغللها بأصفاد الأنانية، ما يجعلها مثل كائن هلامي غط في سبات الغموض، حتى استبد العقل.
الحكمة.. الصينية
يحكى أن رجلاً أكاديمياً من جامعة طوكيو، أراد تعلم القيم البوذية، فذهب إلى أحد الحكماء، ولما دخل عليه، استضافه الحكيم بلطف وترحاب، فأراد أن يكرمه قبل أن يدخل في أي حديثه، فجاء بإبريق الشاي، وظل يسكب ويسكب حتى فاض الكأس، فزعق الأكاديمي قائلاً: توقف.. فوقف، لقد فاض الكأس.. فالتفت إليه الحكيم، وقال: أنا لا أملأ الجزء الملآن، وإنما أملأ الجزء الفارغ، فدهش الأكاديمي، وقال كيف؟
قال الحكيم: أنت جئت بأفكار مسبقة، فاستبد عقلك، فكيف أستطيع أن أملأ عقلاً وهو مليء بالأفكار المستبدة؟ ثم أضاف في مقولة حكيمة، قائلاً: «إذا كان العقل مستبداً فالصحوة مستحيلة»، فأخرس الأكاديمي، وذهب من دون رجعة.. وهكذا هي الأفكار، والحب في البدء فكرة ثم خبرة، ثم نبرة، ثم مشاعر تتدفق من منبع إلى مصب.
فالحب كما هو التمثال في الصخر، موجود في كل نفس بشرية، وما على الإنسان إلا أن ينزع عنه غبار الثقافات المكفهرة، وأن يحيي عظامه الرميم بالتنشئة، وبوضح المفهوم.. الحب الذي تعلمنا عنه ثقافة الاستبداد، هو الحب بشروط، وهذا الحب لا يمكن أن يشع منه إلا لون الزبد، وحديث الفقاعات، الحب الذي يثري الحياة، هو حب الوردة، الوردة تمنح الرائحة بعفوية ومن دون شروط، وتهدي عطرها للفقير والغني، الأبيض والأسود، وليس لديها مواقف من طائفة أو ملة، إنها الوردة التي تتفتح في الصباح، وتنادي الكائنات كي تتخلى عن امتعاضها، وتنظر إلى الكون بعين الوردة، ورائحة الوردة.
الحب الذي يعنينا هو ذلك الحب، الذي يحيطنا من كل الجهات كما هو المحيط الذي يطوق زعانف السمكة الصغيرة، ويمنحها إكسير الحياة.. الحب الذي يعنينا هو ذلك النيرفانا الذي يسكن داخل ضمير الكائنات النبيلة، الحب الذي يخرجنا من فوضى الأبجديات المخادعة، وصرامة المصطلحات، المخاتلة، الحب الذي يعنينا هو ذلك النسق الكوني، الممتد من نجمة في السماء، وغيمة تبدأ أول خطواتها على الأرض.. الحب الذي يعنينا ليس الامتلاك وإنما الذوبان في الآخر، والانتماء إلى هذا الكون، بروح الذي قال: «إذا أخذ منك أحد قميصك فأعطه معطفك».
الحب الذي يعنينا، هو ذلك البوح السري، ووشوشة الموجة عندما يبدو الساحل مثل جسد تعرى من الرذيلة، بات يخطف وداعته من أتون السالفات من الدهر.
الحب طليقاً
الحب الذي يعنينا، هو التخلص بداية من مؤامرة العقل على القلب، والتحرر من مناهج تربوية كرّست «اللهم يتِّم، اللهم شتِّت، اللهم شرِّد» ثم البدء في تنظيف الذاكرة من العدو الوهمي، ثم نشر الغسيل على مرأى ومسمع من العالم، على حبال غير مهترئة، ثم إعادة ارتداء ملابس الذاكرة، من دون وجل أو خجل.. الحب الذي يعنينا هو الخروج من ثقب الأوزون الثقافي، الهروب من معاقل الكتب، والسخط الذاتي واستدراج الذاكرة إلى حيث تجلس الشمس القرفصاء، وتحني يديها، وتنقش على الكفين اسم «الآخر وأنا» قلب واحد لجسدين.
الحب الذي يعنينا، هو ألا نحبسه في أحضان قصيدة مقفاه، ركيكة، لا تعبر إلا عن خلل في ارتكاب إثم الأوزان، الحب الذي يعنينا هو التخلص من ذراع امرأة قالت في ذات غفلة، إنها تحب الرجل الذي يمنحها القوة.. أو رجل قال إنه يحب المرأة التي تستدعي الأنوثة في داخله.
الحب الذي يعنينا، اكتساح عطر الوردة، في الجهات الأربع، وتحلل التضاريس من الجبال الشاهقة، والهضاب الوعرة، والبحار العميقة.
الحب الذي يعنينا، هو ذلك الكائن الحي، الذي لم تشوهه ملة ولا طائفة ولا لون، إنه النهر الذي تستحم فيه كل أسماك القرية، وتلون زعانفها من رقراقة العذب، الحب الذي يعنينا، هو ذلك الطائر الذي يقف في أعالي القمم، وينادي للغيمة كي تغسل أدران الأرض، من غصن الغربان.
الحب الذي يعنينا هو ذلك الصوت القادم من الوريد، ويعلن للروح أن تشريعات حمورابي ليست كلها على صواب، وأن بوذا الذي هجر القبيلة، والفصيلة ليكتفي بحبه أرز ورشفة ماء، لم يكن ليفعل ذلك، إلا لأن صوت الحب كان أكثر هديراً من زلزلة الثراء.
الحب الذي يعنينا، هل هو كما قالت رابعة العدوية «من كثر حبي لله لم يدع مجالاً في قلبي لكره الشيطان؟».. هذه هي المعضلة أن لا نكون نحن ولا هم، وأن لا نملك ما يملكه قلب عصفور عندما يحيط على أغصان الهوى، فيزقزق متلهفاً، لعناق يلون أوراق الشجر بخضرة أشبه بلون الحناء قبل بلوغه مبلغ الكف.. الحب الذي يعنينا، هو ما بعد السقوف الخفيضة، ما قبل الوسوسة وسقوط التفاحة.. الحب الذي يعنينا، هو مثل أحلام الطفولة، مثل طفولة امرأة، لم يتكعب صدرها، ولم تدوخها أحلام الحمل الكاذب.
جريدة الاتحاد الاماراتية
05 مارس 2015