ميشال أبو نجم –
ناخبة عراقية تدلي بصوتها في الانتخابات التشريعية
نادرا ما عرف العالم العربي هذه «الزحمة» الانتخابية. الجزائر والعراق ولبنان وسوريا ومصر وتونس وموريتانيا وفلسطين وليبيا، كلها معنية وعلى فترات زمنية متقاربة ومتتابعة بهذا الاستحقاق الديمقراطي الذي يعكس، نظريا، أرقى ممارسات التداول السلمي للسلطة. الشعوب ثارت والدماء سالت من أجل انتزاع حق الانتخاب. أما وقد أصبح حقا قائما ومعمولا به، فالأجدر بنا، أقله من الناحية النظرية، أن نبتهج بوصول الشعوب العربية إلى حالة النضج والممارسة الديمقراطية وإمساكها بمصيرها الذي تقرره عبر العملية الانتخابية. أضف إلى ذلك أن الانتخابات أفضل السبل لحل المشاكل العالقة أو لحسمها عبر مقارعة الأفكار والخطط والآراء وفي لعبة الأكثرية والأقلية، الحكومة والمعارضة.. ولو كان حصول الانتخابات المعيار الوحيد من معايير التقدم والرفاهية لكان العالم العربي، على ضوء الزحمة المشار إليها، من أرقى الأمم وأكثرها ديمقراطية.
هذا من حيث المبدأ.. ولكن كيف هو الواقع.. هل يتطابق مع ما هو منتظر ومأمول منها؟
الواقع أن للانتخابات على الطريقة العربية «نكهة» خاصة، واستحقاقاتها بدل أن تكون فرصة للتعبير الديمقراطي فإنها تحولت وسيلة لمد الأزمات لا بل لاستفحالها وتعقيدها بما يصعب شروط التغلب عليها لاحقا.
لندع التعميم جانبا ولنأخذ بعض الأمثلة العملية بادئين من سوريا..
يوم الاثنين الماضي، قدم الرئيس السوري ترشحه لخوض الانتخابات الرئاسية التي حدد موعد حصولها يوم 3 يونيو (حزيران) المقبل من أجل ولاية ثالثة من سبع سنوات بعد الـ14 عاما التي قضاها في قصر الشعب.
النظام سارع لتقديمها على أنها تقدم «ديمقراطي» كبير قياسا بما كان يحصل في سوريا سابقا حيث كانت الانتخابات المعروفة نتائجها سلفا بمثابة «استفتاء» على مرشح يقدمه مجلس الشعب. ويقول النظام أيضا إن القانون الانتخابي الجديد يكفل التعددية، والدليل على ذلك وجود ستة مرشحين آخرين، وكذلك الشفافية والعدالة وشروط اللعبة الديمقراطية إلى ما هنالك من أوصاف ومزايا.
ولكن ما الذي ستأتي به هذه الانتخابات؟ ثلاثة أمور يمكن تأكيدها منذ اليوم: أولا: الرئيس السوري سيعاد انتخابه وبنسب عالية للغاية. ثانيا: لن تعترف بلدان كثيرة بجدية الانتخابات ولا بالشرعية الجديدة التي سيدعيها المنتصر فيها الذي سيؤكد أنه موجود في موقعه بإرادة الشعب ولا تنازل عنها. ثالثا: الأزمة السورية لن تنطفئ بحصول الانتخابات، لا بل المرجح أنها ستزداد اشتعالا، إذ كيف يمكن التسليم بانتخابات يقوم بها نظام يتهمه معارضوه وغالبية دول العالم بمسؤوليته عن مقتل 150 ألف شخص وتهجير نحو تسعة ملايين سوري داخل سوريا وخارجها وتدمير البنى التحتية للبلاد؟ الخلاصة أن إعادة انتخاب الأسد تمديد للأزمة، لا بل إغلاق للسبل التي كان يمكن أن تفضي إلى «تسوية» سياسية على قاعدة خريطة الطريق التي بلورها اجتماع جنيف 1 صيف عام 2012.
لنترك سوريا ولنذهب إلى مصر حيث الانتخابات الرئاسية حددت يومي 26 و27 مايو (أيار) المقبل. فهل ستعني الانتخابات نهاية الأزمة في مصر؟ الجواب الأرجح هو النفي. الأزمة متواصلة واحترام أشكال الانتخابات الديمقراطية الخارجية لن يعني أن المعركة القائمة منذ صيف عام 2013 بين «الإخوان المسلمين» وبيئتهم الحاضنة من جهة، وبين السلطة القائمة ستنتهي مع وصول المشير عبد الفتاح السيسي إلى القصر الرئاسي. والواضح أن الأزمة ستطول ما دام الطرفان لم ينجحا في فتح حوار سياسي ومحاولة الوصول إلى تفاهم أو تسوية ما.
لم ينس الكثيرون أن «الإخوان المسلمين» يتقنون العمل السري الذي مارسوه طيلة عقود. وعندما أتيحت لهم الفرصة للخروج إلى السياسة العلنية ربحوا الانتخابات التشريعية كما ربحوا الانتخابات الرئاسية. لكن خطيئتهم أنهم ارتكبوا الأخطاء تلو الأخطاء واعتبروا أن الانتصار في الانتخابات يعني تخويلهم صكا على بياض للتصرف في المجتمع والدولة المصريتين على هواهم، الأمر الذي ألب المواطنين ضدهم وأنزلهم بالملايين إلى الشوارع في أنحاء مصر. وانتهى الأمر إلى تدخل الجيش وتنحية الرئيس محمد مرسي وحكومته وقيام حملة ضد «الإخوان» آخر ترجمة لها الأحكام بالإعدام التي تتوالى ومنها حكم بالإعدام بحق المرشد محمد بديع. لكن مقابل ذلك، ما زال العنف السياسي قائما في مصر، والإرهاب موجودا، في حين أن المجتمع الدولي حائر لجهة الموقف المفترض أن يتخذه إزاء تطورات الأحداث، فهو يوما يدين (كما بعد صدور أحكام الإعدام الجماعية)، وأحيانا يخفف لهجته ويدعو لمزيد من الديمقراطية والشفافية والعدالة. والخلاصة أن انتخابات مصر القادمة لن تحل الأزمة في البلاد، وهي، وفق أفضل السيناريوهات المتوقعة، يمكن أن «تجمدها».
هل وضع الانتخابات في العراق أفضل حالا؟ هل ستعني وضع حد للانقسامات المذهبية والدينية والسياسية والمناطقية والإثنية؟ الجواب المرجح للأسف هو بالنفي. ذلك أن الانتخابات الأولى التي تتم في هذا البلد بعد خروج القوات الأميركية منه في عام 2011 تتم في ظل شلال من الدماء واستمرار العمليات التفجيرية والعنف السياسي. والأسوأ من ذلك أنها تحصل على خلفية احتدام شدة الانقسامات بحيث لا تلوح في الأفق معالم الاقتراب من تسوية سياسية تعيد اللحمة لمكونات المجتمع العراقي الممزق وفسيفسائه الاجتماعية المعقدة، ناهيك عن علاقات إقليمية صعبة واحتدام النزاع في محيطه المباشر على خلفية الأزمة السورية. وبعد 11 عاما من سقوط نظام صدام حسين، لم يتعاف العراق ولم يصل حاله إلى وضع التطبيع الكامل لا في الداخل ولا في الخارج. وعليه، فإن الانتخابات الأخيرة التي يريد رئيس الوزراء نوري المالكي منها تمكينه من البقاء في منصبه لولاية ثالثة لن تفضي في أفضل الأحوال إلا إلى إدارة النزاع وليس إلى تسويته بشكل نهائي.
ما يصح على البلدان الثلاثة يصح أيضا على ليبيا التي يجهد مؤتمرها الوطني المؤقت لتحديد موعد للانتخابات العامة والرئاسية التي من المفترض أن تجرى قبل نهاية العام الحالي. لكن حقيقة الأمر أن مشكلة ليبيا الأساسية ليست الانتخابات ولا إرسال نواب جدد يحلون محل النواب الحاليين، إذ إن الأزمة أعمق جذورا وأكثر اتساعا وتتناول بداية انهيار الدولة وبناها ومؤسساتها. فهل للانتخابات معنى إن كان المسلحون قادرين في أي لحظة على خطف رئيس حكومة وتهديد آخر واقتحام الندوة البرلمانية وإغلاق المرافق العامة ومنع تصدير النفط، المورد الأول (والوحيد) للبلاد أو بيعه من وراء ظهر الشرعية؟
قطعا، الجواب هو بالنفي. هل يصدق أحد أن الانتخابات ستفضي إلى تمكن الحكومة (أي حكومة) من حل الميليشيات وجمع السلاح وفرض الأمن وتوفير الرقابة على الحدود وإقامة دولة القانون والقضاء على الإرهاب ومنع تصديره إلى الخارج ووقف عمليات الخطف والقتل ومنها خطف الدبلوماسيين عربا وأجانب؟
الحقيقة أن الديمقراطية لا يمكن أن تحمل معنى من غير وجود الدولة وبناها ومؤسساتها وحياديتها، وكلها أمور تفتقر إليها ليبيا في الوقت الحاضر. ولذا، فإن الانتخابات، إن حصلت غدا أو بعد غد، لن يكون لها تأثير على الوضع على المدى القصير.
في المغرب العربي الكبير ثمة بلدان معنيان بالانتخابات: الأول: الجزائر وقد جرت فيه قبل أيام الانتخابات الرئاسية التي قاطعها نصف الناخبين وشهدت فوز الرئيس بوتفليقة بولاية رابعة. والثاني: موريتانيا التي ستشهد انتخابات رئاسية يوم 21 يونيو. وحتى الآن، لم يترشح لها سوى الرئيس محمد ولد عبد العزيز الذي وصل إلى السلطة في انقلاب عسكري عام 2008.
في الجزائر، لم تضع نسبة الـ81.49 في المائة من الأصوات التي حصل عليها بوتفليقة في انتخابات السابع عشر من أبريل (نيسان) حدا للجدل، لا بل إنها شكلت وقودا إضافيا له. كما أن صحة الرئيس الهشة، والذي اقترع وحلف اليمين وهو على كرسي متحرك، تطرح مجددا مسألة قدرته على حكم الجزائر للسنوات الخمس المقبلة. وإذا كان أنصاره يؤكدون أنه «سيحكم الجزائر برأسه وليس برجليه»، فإن أسئلة كثيرة تثار حول حالته الصحية وحول قدرته على البقاء في القصر الرئاسي لولاية كاملة، وكذلك حول اللعبة السياسية ومراكز النفوذ في الجزائر وعلاقة السلطة المدنية بالقوات المسلحة وبالأجهزة.. ولذا، فإن انتخابات الجزائر تطرح الكثير من علامات الاستفهام لجهة فاعليتها ومواءمتها للوضع وللدور الذي تلعبه في توفير الاستقرار السياسي والسلام الاجتماعي، فيما الإرهاب لم يغب عن الجزائر، كما لم تغب عنها النزاعات الإثنية والقبلية.
وكما في مغرب العالم العربي، كذلك فإن بلدانا في مشرقه تمر في المخاض الانتخابي وهي غير واثقة لا من حصوله ولا من فاعليته. الانتخابات الرئاسية في لبنان ضائعة بين انقسامات داخلية طائفية وسياسية واصطفافات إقليمية ولعبة دولية «تدير» الحرب في سوريا ولا تسعى لحل لها. وليس من المؤكد أن لبنان سيرى ظهور رئيس جديد في المهلة الدستورية التي تنتهي في 25 مايو الحالي، مما يفتح الباب لفراغ دستوري ولمزيد من الهشاشة لوضع هو أصلا مهتز. أما في فلسطين، فإن الوضع أكثر تعقيدا. فالاحتلال الإسرائيلي ما زال يفرض قواعد اللعبة ويوسع مستوطناته ويرفض أن يمنح السلطة أي مكسب لجهة قيام الدولة الفلسطينية. وبموازاة ذلك، فإن الانقسامات الداخلية عميقة، وليس من المؤكد أن الاتفاق الأخير سينفذ أو أنه سينجح في توحيد الصفوف الفلسطينية من أجل إجراء الانتخابات وقيام شرعية جديدة.
هذه صورة الانتخابات في العالم العربي. هي في الشكل أكثر مما هي في المضمون. كما أنها، في أي حال، أعجز من أن تحل مشاكل هذا العالم السياسية والاقتصادية والتنموية. وفي هذا النفق، ثمة بصيص ضوء طفيف يأتينا من تونس التي استطاعت، من بين كل بلدان الربيع العربي، وبعد مرحلة من التخبط، أن تعود لمسار أكثر هدوءا وسلمية وهي تنتظر استحقاق الانتخابات نهاية العام الحالي علها توفر المثل على قدرة المجتمعات العربية على أن تمارس ديمقراطية فعلية لا تقتصر فقط على انتخابات فارغة من المعنى