بقلم نبيل ياسين
المشروع الإسلامي من الحزب إلى السلطة
طلبت مني مجلة المجلة الاسبوعية السعودية عام 2005 الكتابة، ضمن اتفاق على الكتابة اسبوعيا في صفحتين. وقد استمر الاتفاق عدة اشهر قبل ان تطلب مني ادارة المجلة كتابة ملف عن محمد باقر الصدر. من هو؟ وكيف اسس حزب الدعوة بحيث وصل الى حكم العراق؟ وقد كتبت هذا الموضوع في حدود ستة الاف كلمة حسب رغبة المجلة في نشر ملف متكامل، وقد عملت عليه طوال شهرين قبل ان ارسله. لكن المجلة لم تنشره. وبعد اتصالات مع ادارة المجلة طلبوا الاستمرار في الكتابة اسبوعيا حسب الاتفاق واعتبار عدم نشر ملف الصدر خارجا عن الاتفاق فرفضت، ووضعت الشرط التالي: اما ان ينشر ملف الصدر الذي طلبتموه انتم وكلفتموني به واما ان يعتبر الاتفاق ملغيا برمته. وهكذا الغيت الاتفاق احتراما مني لموقفي وكتابتي ورفضا للتدخل برؤيتي للصدر. اليوم انشر لأول مرة في المواطن هذا المقال على حلقات دون ان اعيد النظر باي من الافكار التي وردت فيه
كان تنظيم حزب الدعوة إذن مستندا إلى تراث سياسي تنظيمي وان لم يكن متكاملا وعصريا وذا بنية حديدية. ومن تأثير هذه التنظيمات المرتبطة بشكل أو بآخر بالمرجعيات الدينية, ما يذكره عبد الله النفيسي في حديثه عن دور الشيعة في تطور العراق السياسي عن فشل جولة الملك فيصل الأول في مناطق الفرات الأوسط والنجف وكربلاء حيث أصيب الملك بخيبة أمل بسبب عدم استقباله استقبالا يوحي بشعبيته وقبوله لان تيارا قويا, يمثله آية الله حسين النائيني وآية الله أبو الحسن الأصفهاني كان يعارض إقامة حكومة في ظل الانتداب.
في عام 1953 تأسست حركة الشباب المسلم في النجف وكربلاء واستقطبت مجاميع الشباب خاصة في صفوف الطلبة. لكن عام 1957 أو 1958 أو حتى عام 1959 في بعض الروايات, شهد تأسيس حزب الدعوة الذي كان تأسيسه وما يزال محط خلافات كثيرة. ربما كان الدافع لتأسيسه التصدي للخطر الشيوعي المتصاعد مع ثورة تموز والذي عرفته الأدبيات القومية والإسلامية بـ(المد الأحمر) في خضم الصراع السياسي في الشارع العراقي الذي كان صدى للصراع في الحرب الباردة بين الشيوعيين من جهة والقوميين والبعثيين وبعض القوى الدينية السنية أولا والشيعية ثانيا من جهة ثانية. لكن تأسيس حزب الدعوة لم يكن مشروعا سياسيا محضا. كان (مشروعا) يقوم على وجهة نظر الدور الحضاري في واقع الصراع الدولي القائم على صدام الأيديولوجيات. لذلك كان الصدر يقوم بتأسيس (قواعد) فكرية لقيادة الصراع من جهة, ولتأهيل جبهة سياسية دينية قادرة على الصراع من اجل الدور الحضاري من جهة أخرى. ولتحقيق ذلك قام الصدر بكتابة المنطلقات السياسية والتنظيمية والدينية لحزب الدعوة كحركة إسلامية معاصرة تلبي حاجات المجتمع المسلم الجديد في صراع الحضارات وصدام الأيديولوجيات في خضم الحرب الباردة والاستقطاب الدولي الحاد. ومن المعروف أن آية الله السيد محمد حسين فضل الله قد ساهم مع الصدر في ترسيخ هذا الاتجاه.
لم يكن لحزب الدعوة أن يكون فعالا دون دعم من المرجعية الدينية التي كان موقفها حاسما في شرعية الحزب وشرعية عمله والانضمام إليه. ومن المعروف أن المرجعية الشيعية, والحوزة الدينية بشكل عام, تتمتع باستقلالية كاملة ومطلقة عن الدولة والسلطة. وهذه الاستقلالية تشمل الجوانب المالية والتربوية والتعليمية. ومن اجل محاصرة المرجعية عمدت الحكومة العراقية إلى تأميم التعليم الأهلي فضمنت إمكانية تأميم المدارس الدينية وتحجيم التعليم الديني فسيطرت على معاقل التنظيم الحزبي لحزب الدعوة مثل كلية الفقه في النجف التي أسسها احد اكبر المجددين وهو الشيخ محمد رضا المظفر وتضم آلاف الطلبة, وكلية أصول الدين في بغداد التي أسسها السيد مرتضى العسكري. ولعل سيطرة الحكومة على هذه الصروح الدينية التعليمية, وقدرتها على مراقبة النشاطات فيها, وانكشاف قسم كبير من التنظيم بعد اعتقال عدد من أعضائه الكبار لمرات عدة, بدأت عام 1971 واستمرت في 1972 لتصل إلى ضربة موجعة عام 1974 حين اعتقل خمسة من قادة التنظيم ,وأصبح أمر الحزب مكشوفا وهدفا مباشرا لأجهزة الأمن البعثية, وأصبح الخوف من الاعترافات وكشف أعضاء وأجهزة التنظيم ماثلا في ذهن الصدر والحوزة الدينية حيث كان مئات من طلبتها أعضاء في التنظيم السري, هو الذي دفع الصدر عام 1974إلى إصدار فتوى بتحريم انضمام طلبة الحوزة إلى تنظيم الدعوة فأثار جدلا لم يهدأ حتى الآن في صفوف عدد كبير من الدعاة وسنتحدث عن هذه الإشكالات فيما بعد.
لم يسلم تأسيس حزب الدعوة من الطعن الشرعي رغم تأييد مرجعية آية الله العظمى السيد محسن الحكيم ورعايته له. فقد تعرض التنظيم الحزبي لعدة طعون من عدد من رجال دين من الشيعة في النجف. إذ بعضهم رأى أن فكرة الحزب فكرة استعمارية دخلت مع دخول الانجليز إلى البلدان الإسلامية. لكن هذا لم يمنع توسع التنظيم وتقوية نفوذه في صفوف طلبة الحوزة الدينية والجامعات العلمية والإنسانية على حد سواء. وربما لعبت هذه القضية دورا في عدم تحديد القيادة المؤسسة الأولى وكذلك عدم تحديد سنة تأسيس الحزب بدقة, فضلا عن تحديد دور الصدر في تأسيس الحزب وقيادته منذ البداية أو فيما بعد. وسنأتي على قضية شك الصدر في شرعية التأسيس اعتمادا على أية شرعية وحديث السيد محمد باقر الحكيم عنها.
يكاد الباحثون يجمعون على حضور الصدر الاجتماع التأسيسي للحزب, فيذكر حسين الشامي في كتابه (المرجعية الدينية من الذات إلى المؤسسة) أن النواة المؤسسة كانت مكونة من السيد محمد مهدي الحكيم والسيد محمد باقر الحكيم, نجلي المرجع الديني الشيعي الإمام محسن الحكيم, والسيد مرتضى العسكري, والمهندس محمد صالح الأديب, والسيد محمد باقر الصدر. لكن, وحسب الشامي في هامشه حول الموضوع, فان الحزب لم يصدر حتى الآن أي نص رسمي حول الأسماء المؤسسة عدا الصدر الذي يجمع عليه الباحثون. لكن محمد الحسني يذكر في كتابه عن الصدر أن الاجتماع الأول ضم محمد باقر الصدر(اعدم 1980) والسيد مهدي الحكيم(اغتيل في السودان 1988) والسيد محمد باقر الحكيم (اغتيل في النجف 2003) والمهندس محمد هادي السبيتي (سلمته السلطات الأردنية في نهاية الثمانينيات إلى العراق واعدم) والمهندس محمد صالح الأديب (توفي في دمشق 1996) والحاج محمد صادق القاموسي (صاحب المكتبة العصرية ومحقق الكتب, توفي في بغداد 1988 وكان انسحب مبكرا من الحزب) والحاج صاحب دخيل(اعدم 1972) والسيد آية الله مرتضى العسكري الذي لا يزال حيا.
كما يذكر الحسني رواية أخرى غريبة بعض الشيء عن التأسيس تخالف ما هو متعارف عليه, اعتمادا على الدكتور طالب الرفاعي, أن الرفاعي ومهدي الحكيم وشخص ثالث لم يذكره الرفاعي هم مؤسسو الحزب وان الرفاعي عرّف الصدر على قيادة الحزب ودعاه للانضمام إليه فتصدر الصدر الحزب الذي لم يطلق عليه حزب الدعوة الإسلامية إلا عام 1960. ورغم غرابة هذه الرواية وعدم تداولها في الكتب والأبحاث الخاصة بالصدر مفكرا وقائدا ومرجعا وشهيدا, إلا أن الرفاعي كما يبدو كان من الحزبيين السابقين في حزب التحرير السني. إذ يذكر الشيخ عبد الهادي الفضلي في رسالة إلى الحسني أن هناك مجموعة من شباب الشيعة في بغداد والبصرة والنجف كانت منتمية إلى حزب التحرير الإسلامي من أبرزهم طالب الرفاعي في النجف والمهندسان محمد هادي السبيتي وأخوه مهدي السبيتي في بغداد, والشيخ عارف البصري (الذي سيعدم في 1974 كأحد ابرز قياديي حزب الدعوة). وبما أن حزب التحرير كان سلفيا متشددا يكفّر الشيعة فقد استفتت المجموعة هذه المرجع الأكبر محسن الحكيم حول شرعية انتمائهم إلى ذلك الحزب فأفتى بتحريم الانتماء إليه, وعلى أساس فتوى الحكيم, تحرك الأخوان محمد ومهدي السبيتي وطلبا من الرفاعي أن يفاتح الصدر لتأسيس حركة إسلامية شيعية فاستجاب الصدر بحماس وشرع بتأسيس حزب الدعوة.
قد تكون هذه الحادثة صحيحة, ولكن تاريخها قد يكون لاحقا على تأسيس حزب الدعوة, أو أن الحادثة بذاتها لم تكن المحرك الأول والدافع الأساس للصدر لكي يقوم بتأسيس الحزب . فضلا عن التساؤل عن اختيار الصدر دون غيره من علماء الشيعة لمفاتحته؟ كما أن الاجتماع التأسيسي شهد حضور السبيتي ولكنه لم يشهد حضور البصري والرفاعي, علما ن حزب التحرير الإسلامي كان حاضرا في الهمس السياسي الذي يدور على الألسنة حول الأحزاب الدينية في نهاية الخمسينات ومطلع الستينات بينما لم يكن حول الدعوة مثل هذا الهمس للتشدد الذي رافق انطلاقته. وشخصيا كنت اسمع عن حزب التحرير في بغداد في مطلع الستينات متداولا على الألسن رغم سريته, ولم اسمع بحزب الدعوة إلا على نطاق ضيق ومن بعض زملائي ومعارفي وأصدقائي في النصف الثاني من الستينات وكان ممن التقيت بهم الشهيد جواد الزبيدي(الذي أصبح عضو الارتباط بين الصدر وقيادة الحزب في نهاية السبعينات واعدم في 1982) وكان مقربا لي وطلب مني أن اكتب مقدمة لكتابه عن العمل الفدائي ودعاني في عام 1968 أن القي محاضرة عن الصحافة في جامع براثا الذي كان احد المراكز المهمة لشباب الدعوة دون أن اعرف ذلك آنذاك, ومع هذا تحدث عن حزب الدعوة دون أن يفصح عن علاقته به رغم الثقة بيني ويبنه, فضلا عن عدد من طلبة كلية الطب الذين اتضح أنهم أعضاء في حزب الدعوة وبعضهم أعضاء في البرلمان العراقي الآن ممثلين لحزب الدعوة, وكذلك لقائي بالشيخ عارف البصري في حسينية الكرادة الشرقية عام 1967 مع صديقي الحميم عبد الكريم الشكري الذي اتضح انه في صفوف الدعوة وهو الذي عنيته برؤيتي لكتاب فلسفتنا بيده في مطلع البحث.
هذه السرية قد تكون قد انطلت على الواقعة التي يذكرها الرفاعي وجعلته يعتقد انه من مؤسسي الحزب. وإذا كان هناك، طبقا لهذه السرية الشديدة, اختلاف في التاريخ وأسماء المؤسسين, فان اختلافا آخر سيظهر في مكان التأسيس أيضا. فالمرحوم محمد صالح الأديب يذكر أن التأسيس كان عام 1957 في منزل الإمام محسن الحكيم في كربلاء حيث كان المنزل يعد لسكن المرجع أثناء زيارته إلى كربلاء وتواجده فيها فقط وكان خاليا أثناء الاجتماع. بينما يذكر المرحوم محمد باقر الحكيم أن الاجتماع التأسيسي كان في بيت أخيه مهدي وليس في بيت والده.
مهما يكن أمر التأسيس, فان دور الصدر وموقعه في الحزب وعمله في دفع الحزب إلى واجهة الأحداث الكبرى في العراق وقيادته له وتأسيس قاعدته الفكرية الصلبة تجعل من الحزب ولادة صدرية. ويؤكد هذه الولادة الصراع الذي خاضه الصدر من اجل الحزب والصراع الذي خاضه أشخاص وقوى ضد الصدر باعتباره مؤسس وقائد الحزب.
يقول السيد محمد باقر الحكيم (كانت هناك تساؤلات وشهادات حادة ومهمة مطروحة, على مستوى الحوزة العلمية, والأمة, حول الشهيد الصدر وعلاقته بالتنظيم الخاص, خصوصا بعد تصديه للمرجعية وبروزه في صدر الأحداث) ويعدد الحكيم أسبابا موضوعية وذاتية عديدة لهذه التساؤلات, منها ما يتعلق بموقع المرجعية وفهم رجال الدين لها باعتباره بعيدا عن السياسة والاصطدام مع السلطة مما يضعفها ويعرضها للمخاطر, ومنها ما يتعلق بالفهم العام الشائع لدى عدد من رجال الدين البارزين, لدور المرجعية وحجمه وعدم تحديده بإطار سياسي تنظيمي الأمر الذي يحجم المرجعية ودورها, ويعتقد الحكيم إن والده, كمرجع أعلى للشيعة, كان مدفوعا بهذا الدافع ليطلب من ولده مهدي, ومن الصدر, الخروج من التنظيم الخاص.
تعرضت مرجعية الصدر كذلك لتجاذبات أخرى ذات طابع شخصي, وتجاذبات ذات طابع سياسي وإقليمي, فضلا عن تأثير ما كان يبدو استفزازا للآخرين من قبل كثير من مقلدي الصدر كمجتهد, الذين رفعوا مرجعيته إلى مقام عال يجعل منافسة المرجعية العليا أمرا محفوفا بالمخاطر. ولعل شبابه وأفكاره ومؤلفاته لعبت دورا في ذلك الرفع الذي حدا بالإمام أبو القاسم الخوئي, المرجع الأعلى آنذاك, إلى التعبير عن رؤية وسطية وتوفيقية لتدارك الاحتمالات, إذ كان يرى (أن تصدي الصدر للمرجعية في هذا الوقت المبكر ربما يعرضه للأذى والتحجيم وان من الضروري الانتظار قليلا وستكون المرجعية له بلا شك).
كان الحديث عن حزب الدعوة ودور الصدر فيه قد بدأ يتسع لأسباب كثيرة. فهناك من كان يتحدث من داخل الحوزة الدينية عن هذا الأمر مدفوعا, ربما, بدافع ذاتي أو موضوعي وذاتي في وقت واحد. ويعتقد السيد حسين الشامي, احد المسؤولين العسكريين عن قوات الصدر التي أنشئت في إيران في الثمانينات, إن هناك من المحسوبين على الحوزة من تعمد إيصال الخبر إلى السلطات. وصل إلى أسماع السلطات الحكومية وأصبح وجود حزب الدعوة أمرا واقعا في سجلات أجهزة الأمن وسعي الحكومة لإضعافه عن طريق عزله عن المرجعية أولا , فأوفدت حسين الصافي, الذي أصبح وزير العدل في حكومة البعث الأولى عام 1963, إلى المرجع الحكيم مبديا حرصه وحرص الحكومة على المرجعية محذرا الحكيم من خطر الصدر وخطر وجود حزب يقوده الصدر باسم حزب الدعوة. غير أن الحكيم, الذي كان يعرف مناورات الحكومة ويعرف موقع ودور الصدر, رد الصافي قائلا بعنف (وهل تتصور نفسك احرص من الصدر على الحوزة الدينية) فخرج الصافي محبطا. لكن الحكيم استلم الرسالة ومفادها الواضح. ولعل هذا هو السبب الذي دفع الحكيم للطلب من ابنه مهدي ومن الصدر الابتعاد أو الخروج من التنظيم, فالرسالة كانت واضحة وهي أن الحزب قد كشف وانه أصبح تحت أنظار السلطة وأجهزتها وان هذه الأجهزة لن تغفل عن قادته ومؤسسيه. ولإدراك الحكيم أن السلطة تسعى إلى شق المرجعية عبر استغلال قضية التنظيم, ولإدراكه الخطر الجديد المحدق بالصدر وبالحزب معا, فانه أرسل احد أبنائه إلى الصدر داعيا إياه أن يكون موجها وراعيا للحزب من خارجه, فوافق الصدر وقرر بعد ليلة من الأرق كتابة رسالة انسحابه قائلا فيها (كنت اكتب الرسالة ويدي ترتعش, وبت الليلة الماضية وأنا ارق أفكر في هذا الموقف. وانه ليعز عليّ مثل هذا الموقف) ثم عيّن عبد الصاحب دخيل (الذي سيعدم فيما بعد) عضوا للارتباط بينه وبين الحزب. وفي حين تقرر شهادات عديدة أن الصدر ابتعد عن الحزب إلا أن شهادات أخرى تؤكد أن الصدر ظل مرتبطا بالحزب فيؤكد الشيخ عبد الهادي الفضلي الذي عاصر الصدر وكان قريبا منه أن الصدر لم يترك الدعوة, بينما يؤكد السيد محمد حسين فضل الله أن الصدر كان ملتزما بالحركة الإسلامية في كل مراحله لأنها كانت نتاج عمره.
والحقيقة أن من يتعرف على معالم مشروع الصدر يدرك أن ابتعاده عن حزب الدعوة ليس موقفا أو قرارا وإنما , مناورة سياسية لإعطاء الحزب في مراحل محددة إمكانية الانطلاق دون قيد, إذا كانت علاقة الصدر به قيدا, سواء في أجواء الحوزة من جهة, أو في الأجواء الأمنية المحيطة بالحزب من جهة أخرى رغم الفارق بين الاثنين.
وحين جاء البعث إلى السلطة مرة أخرى بانقلاب 1968 كانت المعلومات عن الحزب متوفرة, فوضع الحزب هدفا من الأهداف الكبرى لأجهزته الأمنية, ولكن وجود الإمام الحكيم كان على ما يبدو الظل الذي يحمي الصدر والحزب. فما أن توفي الحكيم في حزيران عام 1970 حتى بدأت السلطة بين عامي 1970 و1972 اولى الاعتقالات حيث شهد قصر النهاية الشهير ومعتقل الفضيلية في بغداد ومعتقل الشعبة الخامسة في مديرية الأمن العامة ومعتقل امن الديوانية حملات اعتقال وتعذيب طالت عددا من كوادر وأعضاء الدعوة من رجال الدين والأكاديميين والمهندسين والأطباء وكان من جملتهم, عضو الارتباط بين الصدر وقيادة الدعوة عبد الصاحب دخيل الذي أذيب جسده بحوض الأحماض الكيمياوية, وكان الصدر نفسه من جملة المعتقلين.
لكن عام 1974 شهد اخطر التصفيات إذ حكمت السلطة البعثية بالإعدام على خمسة من قادة الحزب وأعدمتهم في الخامس من كانون الأول من نفس العام وهم الشيخ عارف البصري والسيد عماد الدين الطباطبائي والسيد عز الدين القبانجي والكاتب نوري طعمة وحسين جلوخان.
بعد هذه الإعدامات اصدر الصدر فتواه بتحريم انتماء طلبة العلوم الدينية في الحوزة إلى حزب الدعوة. يقول الشيخ عبد الحليم الزهيري في اتصال تلفوني بيني وبينه في قم أن الفتوى لم تشمل الذين يتمتعون بظرف امني مناسب, فقد أكد الصدر على الشيخ الآصفي في الكويت أن الفتوى لا تشمله, كما انه أكد على السيد الحائري أنها لا تشمله لأنه في إيران وقال للشيخ البصري أن الفتوى لا تشملك لان وجودك ضروري للحزب. لكن الفتوى أسيء فهم مراميها. وأكد الزهيري أن السيد محمد الغروي اخبره أنه التقى الصدر وأكد له أن الفتوى لا تنطبق على الدارسين الجدد في الحوزة الذين يحتاجون إلى تثقيف في بداية حياتهم الفكرية, لان الحزب حسب الصدر مدرسة تثقيفية, وان الطالب الحوزوي يستطيع قطع علاقته بالحزب حالما يصل إلى درس اللمعة الدمشقية في الفقه التي تتطلب سنتين أو ثلاث.
وحول فكرة الاعترافات التي قيل أن الحزب دفع بعض أعضائه إليها تجنبا لمواجهة التعذيب والاعترافات الشاملة, أكد لي الزهيري أن بعض الاعترافات قد حدثت ولكن على أشخاص خارج العراق وفي مأمن من بطش السلطة كالاعتراف على الشيخ الطفيلي في لبنان والسيد الحائري في إيران, لكن الصدر لم يكن مهتما بالتفاصيل العديدة التي حدثت بسبب خلافات بينه وبين بعض القيادات في الحزب.
وفي عام 1979 تصاعدت الأزمة بين الحزب والسلطة واعتصم الصدر ثم اعتقل وجرت حملة تضامن فأطلق سراحه ولعبت أخته بنت الهدى (آمنة الصدر) دورا في التعبئة والتحشيد بين المواطنين في النجف من اجل إطلاق سراحه. وأراد الصدر اللقاء وهو في اعتصامه كما يقول الشيخ الزهيري مع السيد مهدي علي مهدي (أبو زينب) المعتقل الآن في بغداد لدى القوات الأمريكية لتنفيذ اعتصام شامل والتقى أبو زينب بالشيخ محمد رضا النعماني لكن قيادة الدعوة رفضت فكرة الاعتصام بحجة عدم فاعليته ضد نظام استبدادي والفكرة تنفع في أوروبا الديمقراطية, وصعد الصدر من خطابه ضد السلطة واخبر وفودا تضامنية انه قرر السير على خطى جده الحسين وقرر الشهادة, واندلعت أعمال مسلحة ضد السلطة التي بادرت فاعتقلت الصدر وأخته ثم أعلن عن إعدامه في الثامن من نيسان 1980 فكانت شهادته تراجيدية هي الأخرى حملت من الرمزية ما جعلت حزب الدعوة ينهض في الخارج على اثرها ومعانيها, وأعطت للصدر في العالم الإسلامي مكانة جديدة, سياسية وأخلاقية كبرى, إلى جانب المكانة التي احتلها كمفكر وفيلسوف إسلامي من طراز كبير, وبذلك جمع الصدر ما لم يجمعه سوى المصلحين الكبار من قوة الفكر والاستعداد للتضحية, ولعله النموذج الأمثل الوحيد في الساحة الإسلامية منذ سيد قطب الذي ما يزال يضع بصماته على كثير من التطورات في عالمي الفكر والسياسة في العالمين العربي والإسلامي.
التحول الاجتماعي للدين
لقد أنجز مشروع الصدر في العراق وفي بعض الدول الأخرى عملية التحول في جماهير الدين وقاعدته الاجتماعية. فقد كانت جماهير الدين بشكل عام هم الفلاحون والكسبة الصغار وفئة من التجار من أهل المدن. وإذا توخينا الدقة السوسيولوجية فان الطبقة الوسطى في العراق لم تكن منتمية للالتزامات الدينية, خاصة مع المرجعية والفتاوى, ذلك أن الوحدة السياسية الحزبية أو الأيديولوجية قد سحبت اهتمام الطبقة الوسطى وخاصة التكنوقراط منها. وحين تأسس حزب الدعوة فان توجهه, باعتباره تجديدا في أساليب العمل الديني, كان صوب الطبقة الوسطى, وبالذات التكنوقراط فيها, لذلك فان غالبية أعضاء حزب الدعوة هم من الأطباء والمهندسين والصيادلة وخريجي الجامعات التقنية والتطبيقية والمدرسين وأساتذة الجامعات والجيل الجديد من رجال الدين وطلاب الحوزة الدينية في الستينات والسبعينات بعد أن حصل التنظيم الحزبي السياسي على دعم من المرجعية ممثلة بآية الله الحكيم كما ذكرنا, الذي تنتمي الحوزة الدينية لتوجيهاته بشكل اعتباري, فضلا عن الإطار الديني للانتماء.
إن هذا التحول جعل حزب الدعوة جزءا متحركا تحت الظهور العلني للمجتمع. أي كان للحزب, باعتباره تنظيما سريا, تحركا تحت سقف المجتمع يصيد من أعلى السقف, وليس كصياد الأسماك, الأفراد لعضويته والنشاط في صفوفه.
إن دراسة فكر الصدر تزيل الدهشة التي يبديها البعض من تأثيره العميق, خاصة قضية توسع الحزب في ظروف تصاعد الموجات الفكرية –الأيديولوجية الماركسية والقومية في عصره. منذ البداية تجنب الصدر السجال المباشر حول الإيمان والإلحاد, والإسلام والعلمانية, والشرق والغرب الذي كان سائدا في السجالات الدينية مع الآخرين, وذهب إلى مفهومين أساسيين وعصريين في الغرب, هما الفلسفة السياسية للدولة ونظامها, والاقتصاد الذي أصبح يحرك السياسة في العالم الحديث.
من هذا المنطق الشمولي حصر الصدر منطلقاته الكبرى في كتابيه (فلسفتنا) و(اقتصادنا) دون أن يربط في العناوين الإسلام مثل الفلسفة الإسلامية كما هو شائع تقليديا في الكتابات الدينية, ودون أن يكرر العناوين مثل الإسلام والرأسمالية أو الإسلام والشيوعية.
لقد انطلق من نقطة صفر إذا جاز القول ليفتح طريقا طويلا لم ينته حتى الآن.
* بنت الهدى, هو الاسم الذي نشطت وكتبت ونشرت تحته السيدة آمنة الصدر أخت أية الله محمد باقر الصدر. وقد ولدت بعده بعام أي في 1936 وتربت في كنفه ويبدو تأثيره واضحا عليها, وقد وقفت معه حتى اللحظة الأخيرة مستلهمة موقف السيدة زينب أخت الإمام الحسين, في شعور عميق جعل من المشابهة( تشابيه. والتشابيه هي طقوس إعادة فاجعة كربلاء التي قتل فيها الإمام الثالث للشيعة الحسين بن علي بين أبي طالب سبط الرسول(ص) وابن بنته السيدة فاطمة الزهراء.
نشأت آمنة الصدر في تحت رعاية أخوالها آل ياسين بعد وفاة أبيها, وتميزت بذكاء يبدو انه جزء من طبيعة الأسرة , ومن الواضح أنها كانت إلى جانب أخيها جزءا من مشروعه في المجال النسوي, فقد أشرفت على المدارس الدينية في الكاظمية والنجف, ونشطت في الندوات والمجالس عبر محاضراتها ودروسها الدينية, كما نشطت في مجال الكتابة, سواء في مجلة( الأضواء) التي كان الصدر يكتب افتتاحياتها أو من خلال نشرها كتبا وروايات تعليمية عديدة. ومن رواياتها, رواية (الفضيلة تنتصر) و(الباحثة عن الحقيقة) و(ذكريات على تلال مكة) و(الخالة الضائعة)و(امرأتان ورجل)و(ليتني كنت اعلم)و(صراع من واقع الحياة), إضافة إلى كتب منها, (بطولة المرأة المسلمة)و(المرأة مع النبي).
بقيت إلى جانب أخيها ولم تتزوج, ولعبت دورا في الانتفاضة التي اندلعت في صيف 1979 احتجاجا على اعتقال الصدر, وخاطبت الجنود ورجال الأمن بشجاعة وبسالة في مدينة النجف, ودفعت ثمن مواقفها حين اعتقلت مع الصدر وأعدمت معه في نيسان1980