إبراهيم الحيدري
قبل اكثر من قرن، أي في عام 1910، كتب احد نواب بغداد في البرلمان العثماني يقول: “أسلم للمرء ألف مرة ان يعتمد على العشيرة من ان يعتمد على الحكومة،” لان العشيرة مهما كانت ضعيفة فأنها تقف الى جانب اعضائها اذا وقع أي ظلم عليهم”. (حنا بطاطو وستيفان لونكريك).
هذا القول يبين بوضوح قوة العشيرة ودورها في حماية افرادها قبل تأسيس الدولة العراقية. والسؤال الحاسم الذي بات يؤرق بال الكثير من العراقيين هو : لماذا لم تستطع الدولة والمجتمع المدني في العراق تفكيك سلطة القبيلة بعد حوالي قرن على تأسيس الدولة العراقية؟!
للإجابة على هذا السؤال علينا طرح اشكالية الدولة والهوية وروح المواطنة للبحث، حيث لم يشهد العراق حتى تشكيل الحكم الوطني في بداية القرن الماضي دولة قوية ذات سيادة وطنية وحكم مركزي. وأن أغلب الدول التي احتلته كانت استبدادية فرضت سيطرتها بالقوة والقمع, منذ سقوط بغداد على يد هولاكو عام 1256 الذي شكل بداية الانحطاط الاجتماعي والحضاري، حتى تأسيس الدولة العراقية عام 1921.
ان ضعف السلطة المركزية في العراق خلال القرون الماضية والحروب والصراعات والموجات البدوية المتوالية التي نزحت إليه، الى جانب استبداد الحكام والولاة وضعفهم، ساعدت على نشوء إمارات ومشيخات وسلطات محلية وطوائف وجماعات مختلفة وفرت مجالاً خصباً لتقوية الروح العشائرية والنزعات الطائفية وإعادة انتاج القيم والأعراف والعصبيات العشائرية، حتى يحافظ كل من الحاكم والمحكوم على موقعه ومصالحه والدفاع عن “ديرته” وحمايتها. وهو ما ساعد على ترسيخ القيم والعصبيات القبلية والطائفية والمحلية على حساب القيم والأعراف الوطنية والحضرية والديمقراطية، حيث حلّ الولاء للقبيلة والطائفية مكان الولاء للدولة والوطن.
كما ان التخلف والركود الاجتماعي والاقتصادي وتطور نظام شبه اقطاعي ساعد على تفكك بنية القبيلة وتحول الفلاحين الى عمال زراعيين أجراء يعملون في أراضيهم، اضافة الى تخلف أساليب وعلاقات الانتاج الزراعية واستبداد الشيوخ وظلمهم. كل ذلك أدى الى انخفاض انتاجية الأرض واستغلال الشيوخ المالكين الكبار للأرض استغلالاً مقيتاً، دفع الى نزوح مئات الألاف من الفلاحين الى المدن للبحث عن عمل وحياة أفضل. ولم تمض إلا بضعة عقود حتى أصبح المهاجرون من الأرياف العراقية يشكلون غالبية سكان المدن الكبيرة. وبسبب أصولهم الريفية و قيمهم واعرافهم وعصبياتهم القبلية أخذت كل جماعة منهم تستقطب مشاعر الولاء للقبيلة والعشيرة والطائفة وفقاً لدرجة تطورها الاجتماعي والثقافي ودورها ووظيفتها وحضورها في الحياة العامة. ويتصدر الولاء للقبيلة بقيمها وأعرافها العشائرية ذات الخصائص الأبوية – البطريركية، التي هي التعبير الحي عن الروح القبلية المترسخة في المجتمع العربي، ثم الولاء للطائفة باعتبارها تكويناً اجتماعياً – دينياً يقوم على نمط محدد من الممارسة الدينية أو المذهبية، التي تكتسب بمرور الوقت طابعاً اجتماعياً وسياسياً.
وبالرغم من محاولات الحكم الوطني، منذ تشكيل الدولة العراقية، دمج القبائل والعشائر والطوائف في المجتمع المدني وتطوير طبقة وسطى متنورة حملت على اكتافها التحديث والتقدم، فان صعود حزب البعث الى السلطة حوّل العراق الى دولة ريعية – شمولية. ومن أجل تثبيت السلطة في قبضتها الحديدية شهدت الدولة ولأول مرة اندماج القبيلة بالمؤسسة العسكرية عن طريق التلاحم القرابي والمناطقي العشائري الذي كون قاعدة إسناد مقررة لأجهزة الدولة والحزب، مما شجع على تداخل القيم والأعراف العشائرية بقيم وأعراف المؤسسة العسكرية والحياة الحضرية وتوليد أشكال من التماسك التقليدي الذي ساعد على تمركز السلطة في يد القبيلة وتحطيم الدولة البرلمانية التقليدية عن طريق ضرب المنظمات الجماهيرية وإضعاف الطبقات الاجتماعية وبخاصة الطبقة الوسطى وتفكيكها، وهو ما ساعد على استرجاع العلاقات العشائرية بعض قوتها وأعرافها وترسيخها وإعادة استخدام “القوانين” العشائرية، كالدية والفصل والبدل والثأر والحسم وغيرها، بحيث اصبحت العشيرة بديلاً لعدد من مؤسسات المجتمع المدني.
ان هذه التركيبة المجتمعية غير الطبيعية ولدت جيلا لا يعرف معنى الانتماء للوطن والولاء للدولة الحديثة وروح المواطنة ولا الانتماء الحزبي أو النقابي. فليس من الغريب ان تستعيد القبيلة والطائفة، التي هي الوجه الديني الآخر للقبيلة، سلطتهما وأن تظهر من جديد التحالفات والعصبيات القبلية والطائفية وفي جميع المحافظات العراقية وتنظم نفسها للعب دور سياسي كبير بعد سقوط النظام السابق وانهيار الدولة الشمولية بمؤسساتها وأجهزتها البيروقراطية. وبعد الغزو والاحتلال لم تستطع الدولة الضعيفة توليد اشكال من التلاحم والاندماج المديني بين طبقات وفئات المجتمع المختلفة وتوحيدهم في هوية وطنية واحدة.
ومن الطبيعي ان تستغل المكونات الاجتماعية، الاثنية والدينية والقبلية والطائفية وغيرها، الفترة الانتقالية المضطربة التي يمر بها العراق بمساعدة قوات الاحتلال وضعف الدولة وتفكك المؤسسات والفوضى الهدامة والتسيب الذي عم البلاد لتحقيق مصالحها وطموحاتها وأهدافها وان تمارس مختلف الطرق والأساليب الشرعية وغير الشرعية لإعادة تعريف نفسها وتوكيد هويتها الفرعية على اساس ايديولوجي.
وإذا كان اعادة تعريف الهوية أمر ضروري في ظل هذه الظروف غير الطبيعية التي يمر بها العراق، فمن الممكن ان تكون محفوفة بالمخاطر، خاصة وان تركة النظام السابق الثقيلة ما تزال تلعب دورا مؤثرا في سيكولوجية الفرد العراقي. ولهذا فليس من المستبعد ان تمارس التكوينات الاجتماعية المنقسمة على نفسها نوعا من التمركز على الذات والتعصب والانحياز نحو مصالحها الاثنية الخاصة باسم العرق او الطائفة او القبيلة او المنطقة او الحزب، وان تفرز مفاهيم وشعارات لاعقلانية وعاطفية متسرعة، وتبرر ذلك بحجج واهية مستغلة ضعف الدولة وروح المواطنة والاحتلال الاجنبي والظروف غير الطبيعية التي تمر بها البلاد.
واذا كان للقبلية وللطائفية وظيفة ودور اجتماعي، فهما وظيفة ودور سابقان لتكوين الدولة الحديثة. فالقبيلة في الأصل تكوين اجتماعي ما قبل حداثي تقوم اساسا على وحدة الدم والقربى ولها نزعة تعصبية تعبر عن الولاء للقبيلة والانتماء لها وليس للدولة والوطن، وان أهميتها ودورها الاجتماعي يكمنان في المحافظة على وحدة القبيلة وقيمها واعرافها وحل المنازعات العشائرية ضمن المجتمع البدوي/الرعوي وليس الحضري، ولا يمكن ان تكون بديلا عن القيم الاسلامية ولا عن قيم الحداثة والتحضر، والتي تتناقض مع حقوق الانسان ومؤسسات المجتمع المدني. والمشكلة انها تحولت اليوم الى مشروع سياسي وتحول دور المضيف الى ما يشبه الحزب السياسي يعقد تحالفات عشائرية وصفقات سياسية وغزوات عشائرية.
وللطائفية نزعة مذهبية تعصبية ايضا تجعل الفرد يقدم ولاءه الكلي أو الجزئي للقيم والتصورات الدينية وليس للدولة والوطن، وتستخدم الولاء الطائفي للالتفاف على قانون المساواة وتكافؤ الفرص الذي يشكل قاعدة الروابط والعلاقات الوطنية. كما وجدت المؤسسة الطائفية في المساجد والعتبات المقدسة والحسينيات والمضايف والدواوين مكانا لتوسيع نفوذها وتحقيق اهدافها ومصالحها السياسية والاقتصادية ورفع الطقوس الدينية البعيدة عن روح الاسلام الى مستوى العقيدة حتى لا يطالها النقد والتجريح، كما تستخدم العصبية الدينية والقرابية في السياسة وتنظر الى الطائفة من حيث هي جماعة مصالح خاصة، وبذلك تتحول الطائفة من مفهوم ديني الى شكل ايديولوجي جديد من التحزب السياسي والتمترس في خندق مذهبي ضيق. وهنا يتغلب الصراع الطائفي على الصراع السياسي، مما يجعل هذا المفهوم الديني/الاجتماعي اكثر توظيفا في السياسة، معتمدا على التحالف والتحزب والتعصب اكثر من اعتماده على المساواة والوفاق والتسامح.
ان دخول الدين/الطائفة، اللعبة السياسية القائمة على المراهنات السياسية يفرغ الطائفة من القيم والاخلاق الدينية التي تنادي بها ويجر افرادها الى صراعات على المصالح والثروة والنفوذ وليس الى التعاون والتكافل الاجتماعي.
كما ان استفحال الولاء للقبيلة والانتماء للطائفة انما يشكل تحد كبير يواجه بناء الدولة الحديثة وروح المواطنة والهوية حيث ينقسم المجتمع العراقي اليوم على ذاته الى قبائل وطوائف ومناطق ومحلات، حولت الصراعات والمنازعات والعصبيات العشائرية الى المدن والاحياء ومؤسسات الدولة والمجتمع المدني. فمنذ سقوط النظام السابق تم تشكيل 14 مجلساً عشائرياً وقامت سلطات الاحتلال بتأسيس مكتب ارتباط مع العشائر وتدشين مقر للاتحاد العشائري وبحضور الحاكم العام الأميركي جيم ستيل ومسؤولين عراقيين. كما تم تأسيس صحوات العشائر. فبالرغم من اهميتها الآنية في استتباب الأمن، فمن الممكن استغلالها في الاوقات السياسية العصيبة وجعلها طابورا خامسا. الى جانب دورها في تقوية الاعراف والقيم والعصبيات القبلية التي تتعارض اساسا مع الديمقراطية. والحال ان قوات الاحتلال حاولت خلق توازنات جديدة: الصحوة القبلية مقابل الصحوات الطائفية، وميليشيات جديدة مقابل المليشيات القديمة. وفي 16 تشرين الثاني عام 2008 تم تأسيس “مجلس أمراء قبائل العراق” من العرب والكرد والتركمان والمسيحيين والصابئة والأيزيدية ليضمن التقاليد العشائرية والاعراف و”العصبيات” القبلية، وفق “المصلحة الوطنية العليا” و”الديمقراطية التوافقية”. وقد وجد البيان التأسيسي التأييد من قبل الحكومة.
واخيرا تم تأسيس دائرة شؤون العشائر في وزارة الداخلية وتعيين وزيرا للدولة لشؤون العشائر في وزارة المالكي الثانية. ألا يعني ذلك وضع عقبات وعراقيل امام تطبيق وممارسة الديمقراطية؟!
ان سمات وخصائص القبلية التي استفحلت في المجتمع العراقي اليوم تختلف تماما عما كانت عليه سابقا، حيث كانت وظيفة القبيلة كمؤسسة اجتماعية/اقتصادية تهدف الى الحفاظ على وحدة القبيلة وافرادها وقيمها واعرافها وتضامن افرادها في السراء والضراء سواء في البادية او الريف، اما اليوم فتعمل القبيلة والطائفة على اخضاع افراد المجتمع المدني لأهداف سياسية ومصالح شخصية وسيطرة اجتماعية تتعدى حدود وظيفة القبيلة الى تأكيد دورها في المشاركة في السلطة او ان تكون بديلا عن الدولة. وقد فتحت التطورات السياسية التي اعقبت سقوط النظام والفوضى الشاملة افاقا واسعة لدخول القوى السياسية والاحزاب ومنظمات المجتمع المدني الى المسرح السياسي ومن بينها المؤسسات القبلية والدينية والطائفية، التي استطاعت تجميع افرادها عبر تحالفات مصلحية وبمساعدة قوى الاحتلال والحكومات الضعيفة التي شكلتها على اساس المحاصصة السياسية/الطائفية.
ان تنامي الدور السياسي للمؤسسة القبلية والطائفية يبرز العديد من المخاطر، فالمشكلة تتعدى كونها بديلا لمؤسسات دولة القانون والمجتمع المدني، وإنما لكونها تطرح نفسها كبديل عن المؤسسات الدستورية والديمقراطية المنتخبة، ولأنها لا تمتلك أي شكل من اشكال الديمقراطية وليس لها برامج سياسية او اقتصادية واضحة المعالم، بل تتمحور اغلبها عن مطالب تغالبية ومصلحية ضيقة للحصول على مناصب اساسية في دولة المحاصصة التوافقية، بحيث وصل الأمر اخيرا الى احتراب على مناصب الوزارات السيادية. ان صيغة المحاصصة الطائفية بامتياز هي في الحقيقة التفاف على نتائج الانتخابات وتشويه للعملية الديمقراطية التي تتبجح بها جميع الاطراف المشاركة في الحكومة، كما انها تعرقل مسيرة الديمقراطية الوليدة بكونها تضع نفسها كبديل عن مؤسسات المجتمع المدني، وبالتالي تخترق قيمها واعرافها وعصبياتها قيم التحضر والديمقراطية وتقف ضد المواطنة والحداثة وعملية التغير والتغيير.
ان الاعتزاز بالقبيلة والولاء لها دون الوطن يتحول الى قبلية وان الاعتزاز بالطائفة والانتماء لها دون الدولة، يتحول الى طائفية، وهذا يشير الى ضعف الاندماج الاجتماعي العضوي في المجتمع ومع المكونات الاجتماعية الاخرى وعدم قدرتها على التوحد في هوية وطنية واحدة تحقق الانسجام والأمن والاستقرار والتعايش السلمي فيما بينها بحيث تصبح النظرة الى الأخر ذات بعد واحد. وهنا يكمن خطرها والخطر الذي يهددها من جراء تقديس الهويات الفرعية والمبالغة فيها بحيث تتحول الى حالة خوف وتربص ودفاع مستمر عليها، وفي ذات الوقت عجز عن مقابلة الأخر بالتفاهم والتواصل والحوار.
أ