عبد الخالق الفلاح
المثقف حالة عقلية ونفسية يعيشها المرء، يراقب الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية والثّقافية والسّياسية في دائرة مسؤوليته، أو الحدود الّتي تسمح له متابعتها وتقويمها للتي هي أحسن. حارس على امن المجتمع والمستميت في قول الحقيقة عكس المثقف المتلبس بثياب الطائفية التي تهدد سلامة الوطن وتؤثر على المواطن امنه وأساليب عيشه وأستقراره والمتنفع حتى اذا بلغ ضحاياه الالاف لا يهتم بشئ ولا يبالي ، في حين ان مصالح اي مجتمع وأسباب بقائه، ووحدته وعناصر أزدهاره، ودعائم حاضره ورواسي مستقبله، تتأصل وتهتدي متى ما تتحلى بمنهج الأعتدال ونبذ التطرف و درجة التوافق والتلاقي وقوة الوئام والتلاحم بين الشرائح المتباينة في المجتمع مهما كانت متناقضة أصلا في تركيبته وشكله ومادته تعتمد أعتمادا كلّيا على شدّة الألتزام وقوة التمسك بهذا المنهج القويم وعدم الخروج عن هذا الخط المقدس الا وهو خط الوسطية والتعقل والأعتدال . ويقول الامام علي عليه السلام: (إنّي لأَولى النّاس بالنّاس، أضمم أراء الرّجال بعضها إلى بعضٍ، ثمّ اختر أقربها إلى الصّواب وأبعدها من الارتياب).
لا يتنازل المثقف الحقيقي عن حب الثقافة لذات الثقافة كجزء محوري من رحلة الحياة،لانه هو ذلك المبدع الذي يمتلك نهجاً فكرياً يستطيع من خلاله بث أفكاره وطرحها لانه يحمل رسالة تهدف لليقظة، يملك الكثير من المعلومات في علوم مختلفة ومصدر تسلية لمن حوله وذاكرته تعج بالبيانات التي قد تصنف معرفة عندما تحلل ويكون لها مخرجات، معتمداً محاكمة عقلانية منطقية لكل ما تتم مناقشته، وناقدٌ همُّه أن يحدِّد، ويحلِّل، ويعمل من خلال ذلك على المساهمة في تجاوز العوائق التي تقف أمام بلوغ أفضل، ان كان انسانياً ، او عقلانياً ، ويمتلك القدرة من الالتزام الفكري والسياسي تجاه مجتمعه تؤهله لبيان وجهة نظره في المواضيع الشمولية ، هو صاحب رسالة يبحث عن كشف الحقيقة، ويكون شجاعاً في الدفاع عنها،. تتحول عنده الأفكار إلى نماذج ومُثُل ومبادئ لا تفرق بين عقيدة وعقيدة، أو لون ولون، أو جنس وجنس، أو توجه سياسي وآخر؛ بمعنى أن المثقف الواعي والمدرك هو ضمير المجتمع، وهو المعبر عن آلامه وآماله، وحامل مشعل النور في سبيل البلوغ لنظام سياسي واجتماعي أكثر إنسانية وعقلانية.
وهنا لا بد من الاشارة الى ان ليس كلّ مَن تخرّج من الجامعة وحمل شهادة دراسية يُعتبر مثقفاً، ولا يقاس بكم من الكتب التي قرأها، أو المؤتمرات والندوات التي حضرها، ولا عدد الشهادات حصل عليها؛ الثقافة هي إمكانية العبور لعقل الآخر، والقدرة على مشاركته في أهم القضايا التي تشغله، والمثقف الحق هو من يعيش الواقع، ويكون قادراً على تحليله، وطرح الحلول الممكنة، ومناقشتها مع شرائح كبيرة في المجتمع.وليس كلّ مَن كسب معارف ومعلومات كثيرة يُعتبر مثقفاً، إنّما المثقف الحقيقي هو كلّ مَن له تفكير علمي نقدي يكشف به عن المُسلَّمات والبديهيات الزائفة السائدة في المجتمع ويطرح الحلول ويقارب مسائل وقضايا مجتمعه باعتماد العقل والمنطق بعيداً عن التحيّز والعواطف والقيود السائدة ويكون ذو نصيب واسع من المعارف والعلوم المرتبطة بالمجال الذي يقاربه وتكون غاية أفكاره الإصلاح والتصحيح والتطوّر والمنفعة العامّة للمجتمع ويتقبّل النقد والأفكار والآراء المخالفة بصدر رحب دون تشنج وبذلك هو يختلف اختلافاً كبيراً عن أشباه المثقفين من المتعلمين وأصحاب الشهادات المؤدلجين الذين يتعصّبون ويتحيّزون لأفكار معيّنة ولأيديلوجية معيّنة بغض النظر عن ضررها حيث تكون غايتهم الانتصارلتلك الافكار والدفاع عنها وليس الاصلاح والتطور
يرى عالم الاجتماع الأمريكي المعاصر لويس كوزر كون المثقفون “أَنهم معنيون بالبحث عن الحقيقية والاحتفاظ بها، وبالقيم الجمعية المقدسة، تلك التي تتحكم بالجماعة والمجتمع والحضارة. المثقف كائن هجين ينتج عملًا فنيًا أو عمليًا تظهر التزامه بالبنية، وهو قادر في الوقت ذاته على رؤية التناقضات والعمل على الدعوة لتهميشها” يتميز المثقف بالاستقلالية والبعد عن العصبية الضيقة التي تجعل من المثقف ضيق الفكر مضمحل التصور، في حين تمنحه الاستقلالية حرية إبداء الآراء بمعزل عن التأثيرات الداخلية والخارجية فيكون له رأيه الخاص المنطلق من عمق المعرفة وقوة الثقافة وسعة الإدراك، فلا يكون للسلطة ولا لعوام الناس تأثير على رأيه ما دام أنه مبني على الموضوعية والحيادية،
يقول الدكتور علي الوردي: “ينبغي أن نميّز بين المتعلّم والمثقف، فالمتعلّم هو مَن تعلّم أُموراً لم تخرج عن نطاق الإطار الفكري الذي اعتاد عليه منذ الصغر. فهو لم يزد من العلم إلّا ما زاد في تعصبه وضيَّق من مجال نظره. هو قد آمن برأي من الآراء أو مذهب من المذاهب فأخد يسعى وراء المعلموات التي تؤيّده في رأيه وتحرّضه على الكفاح في سبيله. أمّا المثقف فهو يمتاز بمرونة رأيه وباستعداده لتلقّي كلّ فكرة جديدة وللتأمّل فيها ولتملي وجه الصواب فيها”.
“«ممّا يؤسف له أنّ المثقفين بيننا قليلون والمتعلمين كثيرون. ومتعلمونا قد بلغ غرورهم بما تعلّموه مبلغاً لا يحسدون عليه. وهذا هو السبب الذي جعل أحدهم لا يتحمّل رأياً مخالفاً لرأيه. يُقال إنّ مقياس الذي نقيس به ثقافة شخص ما هو مبلغ ما يتحمّل هذا الشخص من آراء غيره المخالفة لرأيه، فالمثقف قد لا يطمئن إلى صحّة رأيه، ذلك لأنّ المعيار الذي يزن به صحّة الآراء غير ثابت لديه، فهو يتغيّر من وقت لآخر. وكثيراً ما وجد نفسه مقتنعاً برأي معيّن في يوم من الأيّام، ثمّ لا يكاد يمضي عليه الزمن حتى تضعف قناعته بذلك الرأي.. وقد تنقلب ضده أحيانا انقلاباً شنيعاً». المثقف الحقيقي يتصف بشجاعة فكرية، ولا يتلقّى ما يسمع ويقرأه كالإسفنجة، ولا يستظهر كلّ ما قرأه كالببغاء، ولا يعتمد الأفكار الجاهزة مثل: العوام وجلّ المتعلمين، بل يعتمد التمحيص والبحث والتحري ويراعي الموضوعية والنزاهة حين التعبير عن رأيه بعيداً عن التعصُّب والتحيُّز.. وحين يقرأ فهو يقرأ قراءة الناقد لا قراءة الشارب المتلقّي الأعمى. فالمثقف الحقيقي حين يقرأ لا يلغي عقله، ويتشرّب بأفكار المؤلف الذي يقراء له ، بل يقرأ قرأة تمحيص ونقد ولا يثق بدون حجّج ولا يصدّق بسهولة”، وقد يتعرض المثقف للعديد من العوامل المحبطة التي تعيق إنتاجه والتقدير الذي من المفترض أن يلقاه فيتحول إلى إنسان محطم ومنزوي فواقع سيطرة السياسي على مجريات الأحداث تجعل ذلك المثقف تحت وطأة حالة من اليأس أو القهر الفكري وذلك مصحوبًا بعدم استطاعته ممارسة دوره مبشرًا بالفضيلة والتنوير، ما يؤدي إلى عزلته وإقصائه. والمستخلص ” أن المثقف يجب أن يعيش الحياة بالطلاقة الثقافية… وإلا فسيكون مرض لا ينم عن وقاية مفترضة” كما قيل.