
ادريس هاني
أكرر حتى أبحّ، الفكر التحرري والنباهة الثورية لا نستوحيها من المراهقين على درب تاريخ يجهلون فيه كوعهم من بوعهم، المغالطة والثورة لا يلتقيان، الهروب من التاريخ حيلة من لا تاريخ له، وضع الرأس كالنعامة في الرمل، حالة غوغائية، الكيل بمكيالين خلاف للمروءة والصدق، الثورة ليست هي العويل، التحرر ليس الفحيح، أين الرؤية، أين البصيرة، أين الاستقامة في رؤية الأشياء كما هي؟ الفكر الثوري لا ينتجه القطيع، العلل نسق، ليست أحداثا متجاورة قابلة للانتقاء، العلل تسلسل نهائي، والتسلسل اللانهائي مستحيل فلسفيا. أين الوعي التاريخي، أين قواعد التفكير المنطقي؟ أين التفكيك؟ لماذا نحرن في منتصف الطريق؟ لماذا نقمع السؤال بالضجيج؟ لماذا يخشى الثورجي من سماع ما يجب سماعه؟ ما هذه الكآبة العقلية، ما هذا الرقص على جثّة الحقيقة؟
إذا استمرّ العرب على هذا النمط من النظر والعمل، فلن يدوموا كثيرا، سينقرضون كديناصورات، سيصبحون مسمى الديناصور، أي وزغ على جدران المستقبل. انطلق في التفكير من المبادئ والحقائق، إن كانت لك حسابات أو نسق رؤيوي مغشوش، فستتعب، ستتعقد الأمور، لأنّ هناك تجزيئ في الرؤية وفي الأحكام.
نصيحتي للملّة المشردّة على رصيف متاهة في الفكر والسياسات، هي الروية ثم الروية وإلاّ السقوط. قلت إنّ أسلوب أبي موسى الأشعري يتكرر في كل سياساتنا، ولها أكثر من تصريف، والأغرب أنّنا نشعر بذكاء وهمي، ونسرف في ذلك حدّ السّكر.
قلت وأكرر، إنّ منطق الأشياء يأبى “البسبسة”، الأحكام العامة للمنطق لا تقبل الصيغ المغالطة: ولكن، إنما، غير أنّ…الحقيقة لا تنبت في مزرعة الخطاب التداولي الكيدي، ذلك قصاراه أن يكرس الكراهية. ترى ما أضعفنا في التأثّر، تلك هي روح البروباغاندا، هل سنسمح للمراهقة أن تحدد مصيرنا. أيها العرب إنّكم مخطؤون، وفاقدون لوحدة النوايا والضمير، ما أكثر أقنعتكم، لا شيء من فكركم يركب على أبسط معادلات المنطق الرياضي، ومع ذلك عنادكم تزول منه الجبال.
حينما أتأمّل مليّا وجوه صناع البروباغاندا، وجوه عليه غبرة ترهقها قترة، فلقد علّمتنا سنوات طويلة من مكافحة النفاق، أنّها وجوه تتشابه، وهي مصممة بطريقة واحدة: الاستفزاز. نزعتي الثورية المحروسة بحس فائق للعدالة غير قابل للعبثية، يجعلني أعرف تلك الشنشة من أخزم. لعل الأسوأ أن ثقافة القمع تسري في شرايين بيئة تلقت تربيتها بشكل لا يسمح بنُبل السؤال والميل النقي للعدالة والعشق الكبير للتحرر، الكل في وجر للذئاب، في خمّ للدجاج، في مربض للبقر. هناك من يعوض كآبة الطفولة بتمردات في الوقت بدل الضائع، لا خوف على التحرر ممن تمرّد في الأرحام، وقد جاءت في قصيدة لي ثمانينية:
أنا الخديج
سابقت الزمان للتغيير.
إنّها التربية، التربية على النظر وعلى العمل. هذه أمّة كما ذكرت مرارا تحتاج إلى تربية، لأنها فقدت الإحساس والضمير والعقل، وهي تفكّر بغريزة حبّ البقاء.
نتابع، ونتأمّل، ونلجم أنفسنا بألف لجام، لأنّه ما أسهل علينا أن نمضي في هذا المارستان فنُجنّ فوق المجانينا، ونقفز فوق القافزينا، ونزمجر فوق النّاهقينا. كل هذا وأزود نتقنه حدّ الإسراف، غير أنّ المانع هو الأرحام، والاحترام، والعدل، والوفاء، والمروءة.
ريلاكس.. هذا أفضل، وحدّد لنفسك مجموعة تعريف دالة( Domaine de définition)، ولا تخلط الأوراق وتكسر الأقضية كصحون إبليس. نحن هنا لنخدم المبادئ الكبرى، لا لكي نُستدرج عبيدا لخدمة أجندات، فيها من الاعورار ما يدركه أولي النُّهى. فمن ضاقت ذمته كان قلقا، ومن اتسعت ذمته وتمزقت، فسيمضي في ضلال بلا حدود.
إمّا أن تجرّ باؤنا مثل ما تجر باؤكم، أو نخرق قواعد الإنحاء، لا تكرهوا الفتن والأقدار، ففيها تمحيص للقلوب والعقول والنوايا، لعل ما يحصل فيه خير كبير، إنّنا نعلق آمالا على مكر التاريخ وإن مكروا مكرا كبّارا، ولكن وجب الحذر من القلوب حين تبدو معلّقة بين السماء والأرض، فهي تعجّل بمكر التاريخ الأعظم. أعلمُ أنّ العدو ومن أخفته صحيفة بن اليمان في مكر بالليل والنهار، ولكنه مكر مهما توهّم الواهم هو مكر ضعيف، نتكفّل به في صوامعنا فنرديه كالعهن المنفوش. العوارض كثيرة والمعضلة في الجوهر، والجوهر يتحرّك باتجاه الكمال في الشّر، اقتربت الساعة وانشق القمر. إيّاك ثم إيّاك أن تستهين بالأسد الجريح؟
اعرف عدوك، اعرف عدوك، اعرف عدوك، تلك هي السياسة، ضع الرطانة والاشتباه في لغة التعريفات، فالإلتباس يبدأ من هنا، لا تقل شيئا لا يصرف في ميزان العلم، ومن اختلّ لديه الميزان في مقام التعريفات، فلن ينفعه الإنشاء، ألا هل بلّغت؟!
ادريس هاني: كاتب وباحث من المغرب