غالية القباني –
شخصية العام .. من القرن الثامن عشر!
يمكن وصف عام 2013 في بريطانيا على المستوى الأدبي بأنه كان عام الروائية جين أوستن بامتياز، رغم أن أكثر من ثلاثة أعوام تفصلنا عن احتفالية وطنية لمرور قرنين على رحيلها الذي يصادف عام 2017. من ذلك قرار بوضع صورتها على ورقة 10 جنيهات، إعادة كتابة أعمالها لتناسب العصر الجديد، ومزاد لأصل اللوحة الوحيدة التي رسمت لها وألهمت لاحقا فنانين آخرين وستكون ضمن مبيعات دار «سوذبيز» الشهيرة أوائل ديسمبر (كانون أول) المقبل، إضافة لحكاية خاتم التركواز خاصتها.. ولن أفاجأ أن وفدت تفاصيل أخرى في أعقاب نشر هذه الرصد لسنة كاملة انشغلت بأخبار عنها.
جاء قرار اعتماد صورة الروائية جين أوستن على ورقة الجنيهات العشر بعد التماس رفع للبنك المركزي البريطاني ووقع عليه 35 ألف اسم، خصوصا وأإن صورة إليزابيث فراي المصلحة التشريعية في عالم السجون الموضوعة على ورقة الجنيهات الخمسة ستزال قريبا لصالح ونستون تشرشل رئيس وزراء بريطانيا فترة الحرب العالمية الثانية. وكانت فراي هي إحدى شخصيتين نسائيتين فقط اعتمدتا على الأوراق النقدية منذ قرر البنك المركزي عام 1970 نشر صور الشخصيات التاريخية التي قدمت خدمات للأمة البريطانية على أوراق العملة. إن صورة جين أوستن بخلفية البيت الذي نشأت فيه ستحل محل صورة العالم والقس الشهير تشارلز داروين صاحب نظرية النشوء والارتقاء، أما الكتابة التي سترفق بصورة جين أوستن فهي مقولة وردت على لسان كارولاين بنغلي إحدى شخصيات رواية «كبرياء وتحامل»: «أعلن بعد كل شيء ألا متعة تعادل متعة القراءة».
لقد كان اختيار جين أوستن نصرا نسويا أولا، ونصرا أدبيا ثانيا لاسم روائية تقع ضمن أشهر الكتاب المؤسسين لفن السرد الذين يعشقهم سكان هذه البلاد، إلى جانب كل من الروائي تشارلز ديكنز والكاتب المسرحي شكسبير. هي الرمز النسوي الأكثر شهرة في عالم الأدب المكتوب بالإنجليزية رغم وجود بعض الأسماء التي ظهرت لاحقا، إلا أن الهوس بها لا يمكن مقارنته أبدا بفرجينيا وولف التي جاءت بعدها بقرنين من الزمن، فوولف رمز للمثقفين البريطانيين وهمومهم النخبوية، بينما تبقى أوستن رمزا إنجليزيا تحديدا، أكثر شعبية لدى قطاع أكبر من القراء. إنها تقارب «الأخوات برونتي» في الشعبية لكنها سبقتهن جميعا إلى اقتحام عالم الكتابة بسبب ولادتها قبلهن في القرن الـ17.
ترمز روايات جين أوستن للكتابة التي أثارت قضايا اجتماعية ونسوية مبكرة، مثل طموحات النساء في الطبقة المتوسطة وما فوق والعراقيل التي توضع أمامهن فتحد من تفوقهن وبروزهن، بدءا من تشريعات تبعدهن عن الميراث إلى تعقيدات الزواج الطبقية وأحلام النساء التي تذهب سدى في واجبات أسرية واجتماعية وواجهات سلطوية يسيطر عليها الرجال. من هنا فإن أعمال أوستن لا تكف عن إلهام الدراما في التلفزيون والسينما بإنتاج يحقق نسبة مشاهدة عالية رغم أن غالبية المشاهدين قرأوا الروايات وعرفوا تفاصيل أحداثها ونهاياتها فلا فضول ينتظرهم فيها، إلا أن كتاب السيناريو والمخرجين يبحثون دوما عن زوايا جديدة لاختراق المكرر بالتقنيات الجديدة من إضاءة وتصوير، أو من خلال أداء تمثيلي مختلف عبر ممثلين مختلفين يتولون بطولة الشخصيات.
حديثنا عن شعبية روايات أوستن والأفلام المستوحاة منها لم يمنع بعض الجهات من التفكير بأقلمتها مع الزمن الجديد وجذب القراء الجدد من جيل التواصل الاجتماعي، في مشروع نشر بادرت به دار «هاربر كولينز» وكلفت بها أربع كتاب حتى الآن. وقد طلب منهم في هذا المشروع الالتزام بالشخصيات والحبكة نفسها بكل رواية، مع حرية الإضافة لتسبه الشخصية زمنها الحالي.
نسخ عصرية من روايات أوستن
أنجزت جين أوستن ست روايات في حياتها لم تحقق لها الشهرة آنذاك لكنها تحققت بعد وفاتها. لذا فإن ست مؤلفين سيقدمون نسخ معاصرة لهذه الأعمال. لقد اشتهرت جين أوستن بنظرتها الحادة التي قرأت مجتمعها المعاصر بذكاء وعلى الكتاب أن يبقوا على هذه الخاصية. كانت أولى رواياتها (العقل والعاطفة) قد نشرت باسم مستعار (سيدة) عام 1811. وتحكي قصة أختين من عائلة داشوود تتضامنان على الحياة مع أمهما بمقابل انتقال إرث الأسرة والبيت الكبير للأخ وتوتر العلاقة مع زوجته غير اللبقة معهن. صدر النسخة المعاصرة لهذه الرواية في أكتوبر (تشرين أول) الماضي بتوقيع الروائية البريطانية «جوانا ثرولوب» التي جعلت الشقيقة الكبرى مهندسة معمارية والصغرى تهوى الفنون وتسعى لاستكمال تعليمها في إحدى الكليات. الأختان تضطران لمغادرة البيت الذي قضيتاه فيه 20 سنة من حياتهما بسبب تغير الوضع المادي، فكيف سينعكس ذلك على مفاهيم مثل الحب والالتزام واستمرار العلاقات الاجتماعية والعاطفية كما كانت عليه؟ أما رواية «نورثنغر آبي» التي تجنح نحو الغموض فقد أسندت إلى «فال ماديرمد» التي يطلق عليها ملكة الكتابة السيكولوجية التشويقية. بينما رواية «إيما» التي تحكي عن شابة صغيرة تحاول أن تقوم بدور المقربة بين شخصين لكي تساعدها على الزواج فتعود المتتاليات عليها وعلى الطرفين بطريقة غير مريحة، أسندت للروائي الأسكوتلندي «ألكسندر ماكول سميث» الذي اشتهر بالسلسلة الروائية «وكالة التحقيق النسائية رقم 1» التي تحولت إلى مسلسل تلفزيوني قبل سنوات، والآن سيكون ضمن من سيفتحون روايات أوستن على الحساسيات الجديدة لجمهور مختلف من قراء الرواية عما كان عليه قبل قرنين. وكلف الأميركي «كيرتس سيتنفيلد» الذي صدرت له أخيرا رواية «أرض الأخت»، بكتابة نسخة من «كبرياء وتحامل» التي تصدر في خريف عام 1914. وهناك روايتان من أصل الستة، هما «مانسفيلد بارك» و«إقناع» لم تسندا بعد لأحد وسيعلن عن المؤلفين لاحقا نهاية هذا العام.
انشغال المزادات برسمها وخاتمها
بعيدا عن الكتابة شغلت أوستن الإعلام البريطاني على مستوى آخر، إذ ستعرض لها دار سوذبيز للمزادات لوحة البورتريه الأصلية الوحيدة المعروفة لها وهي من توقيع الفنان جيمس أندروز بالألوان المائية وقد استلهمتها رسوم بورتريهات أخرى عبر الزمن، إذ لم تكن أوستن موجودة فترة اختراع الكاميرا فهي مولودة أواخر القرن الـ18. ومع ذلك لم تجلس أمام الفنان ليرسمها، لقد أنجز البورتريه بعد رحيلها بسنوات، عندما كلف أحد أحفاد العائلة وهو إدوارد أوستن لي هذا الفنان عام 1869 بإنجاز لوحة ترافق نشر أول كتاب سيرة ذاتية لجين أوستن وحمل توقيعه. ولم يكن لدى الأسرة رسما لجين أوستن سوى اسكتشات رسمتها لها أختها كاسندرا (محفوظة الآن لدى متحف البورتريه الوطني)، إلا أن الحفيد لم يقتنع أنها تعبر عن الخالة فعلا، صاحبة الخطو الخفيف والواثق معا، والملامح التي تشي بالصحة والحيوية، لذا كلف الفنان بإنجاز لوحة البروتريه معتمدا على اسكتشات كانت قد رسمتها لها أختها إضافة لتفاصيل من ذاكرة الحفيد.
بقيت اللوحة طويلا ضمن مقتنيات ورثة العائلة حتى عرضت للبيع في المزاد ويتوقع أن تحقق مبيعا يتراوح بين 150 – 200 ألف جنيه إسترليني في دار سوذبيز في العاشر من ديسمبر (كانون أول) المقبل.
الخاتم الفيروزي الذي سيبقى في مسقط رأس صاحبته
ولأن جزءا من روايات أوستن يحفل بالرومانسية التي تحوم فوق صدور بطلاتها، فلنضمن المقالة بعضا منها طالما أننا نتحدث عن سنة حافلة من الأحداث حول هذه الروائية الأسطورة التي لم تهنأ فترة حياتها باحتفاء مجتمعها بها. فقد أثار القائمون على متحفها الصيف الماضي بيع خاتمها الفيروزي الذي كان محفوظا لدى إحدى حفيدات العائلة في مزاد علني في لندن اشترته المغنية الأميركية كيلي كلاركسون بقيمة 126 ألف جنيه إسترليني. وقد دفع الاحتجاج الشعبي بوزيرة الثقافة إلى إصدار قرار بمنع خروج الخاتم من بريطانيا لعدة شهور باعتباره ثروة قومية لحين إيجاد حل للبيع.. في تلك الأثناء عمل معجبوها الكثر حول العالم على جمع المبلغ واستعادوا الخاتم من المغنية التي تنازلت عنه بقولها إنه «سيعرض في المتحف – البيت الذي قضت فيه جين أوستن السنوات الأخيرة من عمرها ببلدة شوتون التابعة لمنطقة هامشاير، وهو مكانه الصحيح». الخاتم الفيروزي أثار الجدل حول قيمته ونشرت مداخلات في الصحف والمواقع الإلكترونية حول العلاقة بين أشياء المبدع وقيمته الإبداعية التي تحكي عنه أيضا، وذكر البعض بطريقة استعراض جين أوستن للأغراض من حلي وغيرها في رواياتها وكيف كانت تمنحها الدلالات حول العلاقة بين الأشخاص.. وهو موضوع أثارته مؤلفة سيرة جديدة لحياتها أطلقت على الكتاب اسم: «جين أوستن الحقيقية: الحياة من خلال الأشياء الصغيرة».. الكتاب صدر بداية عام 2103 كأنما ليفتتح كل هذا الانشغال بروائية ثبت أنها محبوبة في الوعي الجمعي أكثر من غيرها من كتاب مروا على تاريخ الثقافة في بريطانيا.