ربَّما قائل يقول: كيف مَن لقبه، أو نسبه، الأفغاني يكون إيرانياً. بالتَّالي ستكون مدونتنا ، بهذا العنوان، على منوال عجز بيت القاضي أبي الحسن علي بن يحيى الذَّروي (ت 579 هـ): “أقام يجهدُ أياماً رويته/ وفسر الماء بعد الجهدِ بالماء”(الأزدي، بدائع البدائه). ليس هكذا، إنما هناك مَن اعتبر السَّيد جمال الدِّين الأفغاني (ت 1897) إيرانياً، مولداً وموطناً ومنشئاً، باختلاق قصة إخفاء أصله عن العثمانيين، يوم كانوا على نزاع مع الصَّفويين ثم القاجاريين الإيرانيين، وأن كُتاباً إيرانيين يريدونه إيرانياً، وهذا مِن شغف بالكبار، ولو كان الأفغاني بهذه الضَّخامة والفخامة ما ادعاه أي بلدٍ لنفسه. حتى الأفغان أنفسهم لا يهمهم أن يكون أفغانياً أو إيرانياً، لكنَّ أمثال الأفغاني جمال الدِّين لا تًخفى أنسابهم، ولا يُتركون لأنساب كاذبة.
صعب على الأفغانيين أن يؤخذ منهم اسم سارت به الرُّكبان وحمله الزَّمان ولسانه لم يحتج لترجمان؛ فقد عرف لغات مَن اختلط بهم، وجالس الملوك مِن شرقيين وغربيين، وطمعوا أن يكون مشاوراً أو منفذاً في بلاطهم، وأينما حلَّ ورحل تجده محل ترحيب وتعظيم، فبأي عذر يصبح إيرانياً وبلاده لم تكن قليلة الشَّأن، إذا تحرينا تاريخها مع الإسلام وما قبله، وليس العقود الأخيرة المظلمة بكافية أن يحجب عن أفغانستان ألقها في التَّاريخ البعيد والقريب، فبها في يوم مِن الأيام تجاوب مع الحضارة وهمَ بالنَّقلة الكبرى ولكن …!
كتب غلام حسين الموسوي الأفغاني كتاباً بهذا الصَّدد، ردَّ به على العلامة العراقي علي الوردي (ت 1995)، وكان الأخير قد استنتج مما كتبه أحد الإيرانيين بأن جمال الدِّين الأفغاني كان إيرانياً. صدر كتاب الأفغاني غلام حسين، تحت عنوان “الرَّد على الدُّكتور علي الوردي”(بغداد: مطبعة أسعد 1972)، عدد صفحات الكتاب (67) صفحة، ختمه المؤلف بصفحات عن الثَّقافة الأفغانية- العربية، كأنه يريد القول فيها للذين جردوا جمال الدِّين الأفغاني مِن أفاغنيته: أفغانستان ما زالت على قيد الحياة ثقافةً وشعباً وجغرافيا.
كان يقصد في رده كتاب الوردي “لمحات اجتماعية من تاريخ العراق الحديث” (1969). كان الرَّد موثقاً بالمصادر الواضحة التي لا تقبل تأويلاً ولا تفسيراً، جاء جامعاً مانعاً لكلِّ شاردةٍ وواردةٍ خصت حياة السَّيد جمال الدِّين الأفغاني ونسبه، وما قاله هو في سيرة حياته، وكيف يُكذَّب إنسان بنسبة نفسه لموطنٍ، وهو المتحدث لا غيره؟!
كانت المواطن متداخلة سياسياً، لكنَّ الجغرافيا تبقى ثابتة، وإن غيرت المعاهدات والاتفاقات الحدود، وأثرت الاحتلالات والاجتياحات في الأنساب. مع ذلك لم يكن مسقط رأس الأفغاني جمال الدِّين قد خضع لتداخل أو اجتياح، فـ”كنر” قرية مِن قرى كابل عاصمة أفغانستان. يقول غلام حسين الموسوي الأفغاني ناقداً علي الوردي: “إن الأستاذ قد ارتكب في البحث كثيراً مِن الخطأ، العمدي وغير العمدي، لعوامل وأهداف خاصة، ومِن دواعي الأسف أيضاً أنَّه انحرف عن طريق التَّحقيق في التَّاريخ، وقلما أدى الصُّدق والأمانة، الَّذين يجب أن يتصف بهما كلِّ مؤرخ وكاتب… فمِن المسائل التي طرحها الأستاذ الوردي في كتابه هذا، وفق منهجه الحديث هي جعل السَّيد الأفغاني إيرانيَّاً لا غير”(الرَّد على الدَّكتور علي الوردي).
هنا اتفق مع المؤلف الموسوي، واختلف معه في الوقت نفسه. اتفق معه أن العلامة الوردي لم يكن محققاً، فالكثير مِن الروايات التَّاريخية يأخذها بلا تمحيص ويبني عليها الأفكار، ولنا بحث في هذا الأمر نشرناه قبل أربعة عشر عاماً، في صحيفة “الحياة” تحت عنوان “الوردي والرواية التَّاريخية”، وشاركنا به بعد توسيعه في ندوة عُقدت ببغداد(2005) بمناسبة مرور عشر سنوات على وفاته، وما لا نتفق به مع صاحب الرَّد الموسوي هو اتهامه للوردي بوجود الأغراض الخاصة، فنقول: إن الوردي لم يكن مِن أهل الأغراض الخاصة ولا الأهداف بعيداً عن المعرفة، إنما كان متعالياً على الاتجاهات والميول كافة، وأصدر كتباً ذات قيمة نافذة في العقول، حركت المياه الرَّاكدة، ذاعت عناوينها داخل العراق وخارجه، وكان صاحب أسلوب بليغ، واضح العبارة والفكرة، ولو تنبه إلى غربلة الرّواية التَّاريخية ما ترك مجالاً للرَّد عليه.
أقول: مِن حق السَّيد غلام حسين الأفغاني، الدارس والمقيم لزمن بحوزة النَّجف الدِّينية، أن يدافع عن أفغانية مواطنه جمال الدِّين، وما كان لعلي الوردي أن يشغل بحثه عنه بتأكيد موطن غير صحيح له، فحبذا لو أخذ بما قاله جمال الدِّين عن نفسه واكتفى بعرض أفكاره ومراحل حياته. يقول جمال الدِّين عن نفسه في كتابه “العروة الوثقى”: “لقد جمعت ما تفرق مِن الفكر، ولملمتُ شعث التَّصور، ونظرتُ إلى الشَّرق وأهله، فاستوقفني الأفغان، وهي أول أرض مس جسمي تُرابها، ثم الهند وفيها تثقف عقلي، فإيران بحكم الجوار، فجزيرة العرب مِن الحجاز، وهي مهبط الوحي، فالشَّرق الشَّرق”. وهل عبارة “يمسي جمسي” تعني غير مسقط الرأس؟
كذلك قوله في “خاطرات جمال الدِّين”: “إنني ولدتُ سنة 1254 هـ، وعمرتُ أكثر مِن نصف عصر، واضطررتُ لترك بلادي الأفغان، وهي مضطربة تتلاعب بها الأهواء والأغراض”. كذلك ورد أنه مِن سُكان كابل، ومن سادات كنر ، مسقط رأسه(مجموعة اسناد ومدارك لعلي أصغر مهدوي). وكيف لإيراني يقول: بلادي الأفغان؟!
مَن يظن أنه أخفى أصله الإيراني خشية من العثمانيين أو قرباً لهم، ضمن نزاعهم مع الإيرانيين، يجهل البحث في حياة جمال الدِّين الأفغاني، فنجده في مقابلة صحفية أجرتها معه صحيفة “بال مال” بلندن (1309 هـ)، قال: “أنا أفغاني، والذي يُعتبر مِن أخلص عناصر الآريَّة، وبما أن الإسلام كحلقة وصل تربط البلدان الإسلامية، لهذا قد لفت أنظار الأُمراء والمجتهدين وبعض الزُّعماء إيران لنفسي”.
أما من جعل للأفغاني قرية أسد آباد بهمدان مسقط رأسٍ، فهذا محض خلط، اختلط عليه الأمر بين اسم قرية أسد أباد كابل، عاصمة أفغانستان، وأسد أباد همدان إيران، واختلط عليه بين جمال الدين الأفغاني وجمال الدين الواعظ الهمداني، أحد معاصري الأفغاني، ومِن رواد المشروطة بإيران (غلام حسين عن فرهنك كيلاني). يكفي أنه عندما توفى بتركيا (1897) حضرت السفارة الأفغانية، وتولت نقله إلى أفغانستان، فضريح جمال الدين صفدر الكنري الكابلي الأفغاني بكابل وليس بطهران.
يصل غلام حسين الموسوي، في رده على مَن حاول تأكيد إيرانية جمال الدِّين بشيعيته، إلى الآتي: “في طول تاريخ السَّيد جمال الدِّين لم يُشاهد منه تمايل إلى مذهب خاص، فأين هذا مِن أن يشتهر بالانتماء إلى مذهب معين، فلدينا شواهد كثيرة مِن كُتاب الشِّيعة والسُّنة في هذا المضمار”. كذلك يقول الكاتب الإيراني فلاتورى: “السَّيد (جمال الدين) لم يكن شيعياً مثلما نحن نفهمها ونتصورها، ولم يكن سُنياً تلك التي سمعنا عنها وشاهدنا البعض من أفرادها، بل كان السَّيد مسلماً”.
إن تصحيح التَّاريخ مسؤولية كبرى، ومَن يكتب موضوعاً صحفياً عابراً، ليس مِن شأنه أن يبحث لتصحيح خطأ شائع، لهذا نعذر مَن تورط مؤخراً، ذلك إذا كانت نيَّته سليمة مِن التَّعصب. لكنَّ علي الوردي ليس مِن الكُتاب العابرين ولا مِن أصحاب الأغراض والنَّوايا ، فيأتي كتاب غلام حسين الموسوي نافعاً له، لكنه لم يستفد في تصحيح طبعات كتابه “لمحات…” في حياته. مع أن الوردي عاش بعد صدور الرَّد أكثر مِن عشرين عاماً.
مما نلفت النظر إليه أن بحث الوردي عن جمال الدِّين أُستل مِن كتاب لمحات، وأخذ يباع مستقلاً، حتى أن أحد الأصدقاء أتصل يبشرني بصدور كتاب جديد للوردي، قلتً له: ليس لديه كتاب بهذا العنوان، إنه مِن المستلات يقوم بها سُراق الوراقة. إنه تلفيق آخر وتجاوز يقوم به مستلو الكتب ويصدروها مستقلة، وهي سرقة وإيذاء للكتاب وهدر لحق المؤلف، فلو أراد لجزأ كتابه بنفسه.
أخيراً: مَن يكتب موضوعاً في التَّاريخ، أو السيرة الشخصية، عليه أن يجهد نفسه ويبحث، فرجلٌ يولد ويعيش ويكتب وينشط بلقب أفغاني، ويخرج أحدهم ويلقبه إيرانياً مسألة فيها نظر، هنا لا أقصد الوردي، فالأمر صار قديماً، إنما قرأت لبعضهم قبل أسابيع.