ربما كان من المفيد في بداية حديثنا عن مختارات «عناق المسند» للشاعر العراقي شوقي عبد الأمير، الصادرة حديثاً عن دار «أروقة» في القاهرة، أن نستدعي قول محمد أركون حول عدم تفرقته بين الحضور التاريخي/ الحقيقي للشخصيات التراثية – سواء ثبت أو لم يثبت – وحضورها الوجداني/ الفكري في الوعي الجمعي للمتلقي المعاصر، وهو بهذه الرؤية يتجاوز الإشكالية التي طرحها طه حسين في كتابه «في الشعر الجاهلي» حول الشك في الوجود التاريخي لبعض الشخصيات. فالمهم – حقاً – هو الحضور الوجداني الموجَّه إلى الحاضر والمتحكم في وعي المتلقي وانحيازاته، وفق أركون. ويبدو لي شوقي عبد الأمير قريباً – في رؤيته الشعرية – من مقولة أركون. فالتراث عنده يمثل وحدة كلية يستوي فيها الأسطوري والتاريخي والمعاصر، حيث تحيا تلك العناصر داخله وتمارس تأثيراتها على رؤاه الشعرية، بما أن الأسطورة ليست خرافة أو ماضياً نذهب إليه، بل هي حضور يعيش داخلنا. في مقابلة صحافية معه يقول عبد الأمير: «حاور إينانا وليلى الأخيلية بالدرجة نفسها التي أخاطب فيها حبيبتي». وعبد الأمير أصدر عشرة دواوين تجلت في معظمها الأساطير السومرية، ومنها «ميلادُ نخلة» الذي وظّف فيه أسطورة «إينانا»؛ إلهة الحب والحرب عند السومريين والتي تقابل عشتار في حضارة ما بين النهرين وأفروديت عند اليونانيين. واستدعاء الأسطورة أو التفكير بها يتم – غالباً – من خلال المكان الذي يتجاوز جغرافيته مشيراً إلى ماضيه بكل حمولاته الرمزية. وشوقي عبدالأمير على وعي واضح بهذا التقاطع بين بنيتي الزمان والمكان، وذلك الوعي انعكس على مفهومه للحداثة. فالحديث عنده لا يساوي المعاصر بالضرورة بل هو القادر على البقاء ومقاومة آلة الزمن. ويلاحظ أن المكان بتاريخه واستدعاءاته هو محور أساسي في تجربة شوقي عبد الأمير من دون أن يعني ذلك انغلاقاً على المكان «الهوياتي»، أو مقاومة الانفتاح على العالم، ذلك لأنه يتعامل – في هذه المختارات الشعرية – مع امرئ القيس بوصفه معطى شعرياً لا يختلف عن آرثر رامبو، في محاولة للخروج على «الحضن العائلي والوطني والقومي الذي يشكل نسقاً مضاداً للشعر لا بد من كسره والخروج عليه. وهو ما يتوازى مع خروج الشاعر على الإيقاع الغنائي إلى الرؤية التأملية ومن اللغة المجانية إلى لغة أكثر اقتصاداً، بل وأكثر برودة وصرامة، ومن الأحادية إلى البولوفينية والملحمية. بهذه الرؤى نستطيع الاقتراب من «عناق المُسند» الذي يبدأ بنقش سبئي في لغته الأصلية وترجمته العربية وعلامية النقش الثابت العابر للعصور لا تدل – فحسب – على أن الشاعر في حوار دائم مع أرواح أسلافه بل تستدعي لغة خاصة تمزج الماضي بالحاضر في سبيكة واحدة. يقول: «قبائل من ثمود/ أفرغت خراطيم البارود على رخام عرش بلقيس/ هل كانت تريد اصطياد الطائر المرمري لطيف القرون؟». وعلى رغم التباعدات الزمنية الواضحة هنا، فإن الشاعر يجمع بين ثمود وبلقيس وخراطيم البارود بدلالتها المعاصرة في أطراف صورة شعرية واضحة كأننا أمام سيولة زمنية لا تعرف الماضي من الحاضر. ولعل هذا هو الفارق بين النثر والشعر في علاقتيهما بالزمن. ومن الوارد في هذه الحالة، أن يزدوج الصوت الشعري: صوتٌ يطرح أساليبه الإنشائية الاستفهامية والطلبية: «من يقتنص طائر العري لامرأة مختومة كالنبوة؟ ضعي أظافرك فى مخبأ الليل/ إطليها باللازورد من سماء سبأ/ وارفعي حجارة الله/ عن رقبة المُسند». وصوتٌ يرجئ الإجابة أو يحبطها من خلال أداة الاستدراك حين يقول تعليقاً على ما سبق: «لكن المنظر منهمك بالتذكر/ لم ينفض الغبار عن ياقته/ منذ قرون». إن لغة شوقي عبد الأمير لغة إشارية مكتنزة بالمعنى، تغلب عليها الجملة الاسمية بثباتها كأنها النقش القديم: «مطرٌ مطرٌ ولا غيم/ قلائد من شموع معبد بلقيس/ أطيان وفلاحون/ جسور خفيضة قبل الثمار/ جيل من المغتربين يعبر الحدود/ دم للجباية/ يمن». نحن أمام تصوير لماضي اليمن وحاضره من خلال تقنية التشبيه البليغ. واللافت أن المشبه – اليمن – يأتي في نهاية الصورة الشعرية، بينما يأتي المشبه به بأطرافه المتنوعة في البداية، لكن الأهم هو ذلك الاكتناز الدلالي الذي تستدعيه عبارات مثل «أطيان وفلاحون» و«دم للجباية»، وكأنها تختصر تاريخاً طويلاً من القمع والظلم والقهر. كما تعتمد هذه الشعرية على ما يمكن أن نسميه بالدوال «المشعة» التي يحيل ذكرها إلى حوادث ماضية. فالهدهد الذي «يعشعش في أنقاض حكمةٍ»، يحيل إلى قصة سليمان مع بلقيس. كما تستدعي خراطيم فيلة أبرهة رغبته المعروفة في هدم الكعبة. ثم ينتقل الشاعر نقلة زمنية بعيدة مفاجئة إلى «عيون الغربيين» التي «تجر وراءها عربات الذكر الكولونيالية». هذه اللغة الإشارية المشعة تحاول أن تكون شبيهة بالموسيقى التي تصبو الفنون جميعها – كما يقول نيتشه – إلى أن تكون شبيهة بها. ولهذا يتوسل إليها الشاعر أن تحاكي أصواتها أصوات العالم وحركته، وأن «تكون له كل شيء سواه». وتصبح اللغة قسيمة الموسيقى بتجلياتها الإيحائية المختلفة، فهي «ذات الآيات/ المأهولة بالأسرى الجبارين/ المخفورة بالملأ المفتونين/ بذات عماد». كما يلمح الشاعر إلى أن هناك صراعاً دائماً بين البياض؛ بياض الصفحة والكتابة. فالكتابة تقاوم هذا البياض حين تتجسَّد في كلمات تملأ فضاء الصفحة أو بالقوة حين تكون مجرد معنى يبحث عن تجسيداته اللغوية، كما نفهم من قوله: «هذه المساحة المُرقَّعة بجلودنا/ وهشيم خطانا/ من قال إنها بيضاء؟». إن شاعرنا يفكر من خلال الأشياء، في ما يقترب من المعادلات الموضوعية، حين يتحدث عن «ساعة الحائط» التي تنهض مبكرة وتنام متأخرة وتحتفظ لنفسها بعقرب يدور حولها لا فيها. وهي صورة تحمل درجة من الانحراف عن المألوف، وتعد تمهيداً لأن يكون هذا العقرب رمزاً للشاعر أو معادلاً موضوعياً له حين يقرر أن هذا العقرب «ليس شيئاً آخر سواه». ويظل القهر – في بعده السياسي المباشر- هو الأكثر بروزاً. والشواهد على ذلك كثيرة يقدمها الشاعر في إيجاز دال من قبيل «يقطفني الجلاد عنقوداً في الجنة/ ويأكلني»، و«أقضم أغصان القات/ مثل سياسي يداهمه رجال الأمن/ فيبتلع أوراقه»، و«في ليل الأمهات/ حنجرة جلاد تقهقه». وتبدو بعض المقاطع متأثرة بالفن التشكيلي التجريدي من خلال تجاور الدوال الحسية: «نخل/ أذرع/ بيوت/ عيون/ عواميد». هذه النزعة الحسية تنعكس على رؤية الشاعر للمعنويات، كالموت الذي يراه على هذه الصورة: «الموتُ عينٌ ترابية/ تحدق من أعالي التلال/ إلى الوادي الإنساني». ومع ذلك لا يمكن القول إن شوقي عبدالأمير شاعرٌ حسي فقط، لأنه يجمع بين الحسي والمعنوي والفيزيقي والميتافيزيقي في تآلف شعري مميز..