د. أحمد عبد الملك –
تحدث الدكتور عبدالله الجسمي من دولة الكويت -في “أوان”- عن ثقافة الوحدة الوطنية. وهي التي تقوم على رفض الانقسامات الطائفية والفئوية، والتي تختلف عن الثقافة المدنية الحديثة، لأن الثقافات التقليدية تحمل في طياتها انقسامات فئوية؟ (انتهى).
وهذا موضوع مهم وملائم طرحه في هذه المرحلة من عمر شعوب الخليج. ذلك أننا نلاحظ أن دعوات تؤثر في جدران الوحدة الوطنية في بعض بلدان الخليج بدأت ترتفع! ويطال ذلك الأمن في المنطقة، ويبعد البعض في هذه الشعوب عن الاقتراب من المجتمع المدني.
لقد طغت الثقافة التقليدية على مظاهر الحياة العامة في المنطقة وامتدت لتطال أقدار الناس، ولربما التخوف من التأثير سلباً على مستقبلهم. ومن مظاهر تلك الثقافة التي ما عادت تناسب العصر، في تقديري الخاص، ما يلي:
* الاختلاف في التوجه الديني، ونعني به الولاء للطائفة أو المذهب (سُنة -شيعة -زيدية… إلخ) وهذا الاختلاف كان محصوراً في بعض الممارسات الدينية، ولكنه نشط مع تطور الأحداث حيث وصل أحياناً إلى درجة العنف الطائفي. وتحول من مجرد اتجاه أو اختلاف ديني في المجتمع الواحد إلى شكل سياسي غذاهُ الثورة في إيران، المختلفة مذهبياً عن جيرانها (السنة). كما أدى سقوط نظام صدام (السني) إلى زيادة بروز الاختلاف ومظاهره حيث تجاوز حدود العراق. وعلى رغم دعوات التقارب بين المذهبين (السني والشيعي) من طرف عقلاء كلا الطرفين، إلا أننا نلاحظ أن الخلاف مستمر ، بل إن البعض في الطرفين قام باستغلال التكنولوجيا الحديثة -ومنها المواقع الإلكترونية والفضائيات- لتعزيز مواقف كل طرف.
* الاختلاف في تجزئة المجتمع إلى فئتين اجتماعيتين أو مجتمعين (قبلي وحضري)، وتحت هذا الشعار أو التصنيف ضاع أحياناً العديد من الحقوق، وظهرت تمايزات سواء عبر ثقافة “الحظوة” أو الميزات التي يحصل عليها بعض الأطراف دون بعض آخر. وهذا الاتجاه أثر على الحياة النيابية في بعض الدول، ولعل النموذج الديمقراطي الكويتي خير دليل على هذا الاختلاف. وقد أصبح الولاء للقبيلة والطائفة -في بعض الظروف- أقوى من الولاء للوطن كجسد واحد. بل إن بعض النواب -في حالات المجالس في بعض دول الخليج- أصبحوا يركزون على إنهاء معاملات طائفتهم دون التفكير بخدمة الوطن والمواطنين ككتلة واحدة. وهذا قد يستهلك وقتهم وتفكيرهم ويضيع جهود المجالس ولا يفتح آفاق تفكيرها لحل المشكلات التي تواجه المجتمع. ومن مساوئ هذا الاختلاف شيوع طبقية سلبية تصل إلى حد عدم مصاهرة الطرف الآخر والتدخل في حياة الناس. كما ساهم هذا الاختلاف أحياناً في التعيينات وتبوؤ المناصب! وصار أن أثمر هذا الاختلاف ثقافة جديدة في الفكر الإداري! وهي فئة “أهل الثقة” -التي تحظى بكرم الدولة، و”أهل الغير” الذين يحاولون كشف الطابع التقليدي للثقافة الوطنية، وإذابة ألوان التفرقة بين أفراد المجتمع الواحد. وجل أفراد هذه الجماعة من التكنوقراط أو الليبراليين الذين يدافعون عن المظاهر الحضارية لحياة المجتمع، ويريدون تطبيق النظريات الحديثة التي تقرب المجتمع من الحياة المدنية، وكشف أية اتجاهات نحو تجزئة المجتمع أو التعدِّي على حقوقه أو الحط من كرامته.
والاختلاف كشف أيضاً مواقف الفئتين من التوجه الديمقراطي! ذلك أن الفئة المستفيدة من استمرار واقع الحال، وهي فئة “أهل الثقة”، لا تريد أن يتغير واقع الحال، لأن شيوع قيم المجتمع المدني، وإطلاق الحريات، سيزيل “نعم” التمايز التي تحظى بها هذه الفئة. بينما الفئة الأخرى التي تجاهر بأهمية التحول الديمقراطي تشعر، هي أيضاً، بأن الديمقراطية ستمنحها ميزات متوازنة مع الفئة الأولى، وتعالج مظاهر التمايز في المعاملة، وبأن الديمقراطية عماد الحياة المدنية، التي تصون حقوق الناس بشكل عادل، وتزيل “تراث” التمايز الذي يضر بالمجتمع.
* ومن مظاهر الاختلاف أيضاً شيوع الطبقية الاقتصادية التي تؤثر على الحياة الاجتماعية وتفكك المجتمع، في ظل التمايز الطبقي. فالعطاءات الضخمة للمشاريع الإنمائية قد تدار بعقلية وثقافة “الحظوة” وهذه قد تخلق عدم الانسجام بين أفراد المجتمع، الذين يرون أن من حقهم أن يساهموا في تلك العطاءات دون تدخل من أحد؛ وعبر إجراءات عادلة .
والطبقية الاقتصادية هي الأخرى تناقض التوجه المدني، لأنه قد يكشف قصورها، تماماً كما ترفض الديمقراطية لأنها ستحاسبها عبر نواب مجلس الأمة أو الشورى، أو لأن حرية الصحافة ستكشف أوراقها. ولذلك؛ فإن حاجة المجتمع الخليجي اليوم ماسة إلى التوجه المدني الذي يُذيب كل تلك الاختلافات، ويصون الحقوق ويرسخ الواجبات على الجميع في ظل الدستور. ولا بأس إن تضررت “مصالح” بعض الفئات -فقد أخذت الكثير- لأن هدف الحياة المدنية يجعل مصالح جميع الناس في ميزان واحد، دون أن تغلب أو تزيد جماعة معينة عن بقية البشر في ذلك الميزان. وهذه أيضاً فضيلة قيمية ودينية، وفضيلة مدنية ترد في أغلب الدساتير (المواطنون متساوون في الحقوق والواجبات). ولذلك فإن تطوير بعض أوجه الثقافة التقليدية بما يخدم الوحدة الوطنية أمر حاسم ومهم. والإتيان بثقافة مدنية، حتى وإن كانت قاسية لمصالح البعض في البداية! إلا أنها ستكون رحمة للأجيال القادمة وعامل أمن واستقرار في أي بلد.
ولأن جميع المواطنين مرتبطون بأقدار ومستقبل أوطانهم، ولأن حياة اليوم تقوم على العامل المادي القائم على الإنتاج الصناعي والعلم والتكنولوجيا، فقد خلق هذا واقعاً جديداً يشترك فيه الجميع، كما يقول الجسمي، فإن حق المشاركة العادلة أصبح أمراً مهماً تكفله نصوص الدساتير الدالة على الحقوق والواجبات.
نحن نرى في ظل الانفتاح العالمي والدعوات للمشاركة الشعبية وإرساء مبادئ العدالة وحقوق الإنسان وحرية التعبير، أن يُصار إلى تعديل، بل وإزاحة الأوجه غير المناسبة من ثقافة الوطنية التقليدية بكل مظاهرها واتجاهاتها ونعني تحديداً الأوجه التي تبدو في أغلبها سلبية، وعلينا بعد ذلك الإتيان بالثقافة الوطنية المدنية، والتي ينبغي ألا “ينزعج” منها أحد! لأنها قد تلغي الفوارق وتحقق العدالة والمساواة والعيش الكريم للجميع. ولا أعتقد أن نظام حكم رشيد، أو أي مواطن صالح يعارض شيوع هذه الثقافة النبيلة في أي مجتمع