عدنان حسين أحمد –
ضيّفت مؤسسة الحوار الإنساني بلندن الدكتور نوري لطيّف في أمسية ثقافية تحدث فيها عن “ثقافة الطائفية بين الشكل والمضمون”، فيما ساهم في تقديمه وإدارة الندوة الأستاذ غانم جواد. أشار الدكتور نوري لطيّف في مستهل محاضرته بأن دواعي اختيار هذا الموضوع تكمن في ثلاث نقاط أوردَها بالشكل الآتي: “خطورة الوضع الراهن، وتداعيات الفتنة الطائفية على العراق والمنطقة بأسرها” وما ينجم عنها من دماء زكية تُراق يومياً في معظم المدن
العراقية. “مناقشة أزمة الطائفية التي تحتاج إلى حلول لتفادي تشرذّم المجتمع العراقي والحفاظ على لُحمة الشعب ووحدة الوطن”. أما النقطة الثالثة من وجهة نظر الباحث فتتمثل بأنّ “المثقفين العراقيين وأصحاب الاختصاص مترددون في الخوض في هذه المسألة” الأمر الذي دفعه للتساؤل عن السبب الكامن وراء التغاضي عن إشكالية تهدد الوطن والمنطقة من وجهة نظر المُحاضر الذي يعتقد بضرورة الخوض فيها ومناقشتها بشكل جدي لأن المشكلة قد شُخصت وهي تحتاج إلى حلول ناجعة. ثمة آراء كثيرة بين أوساط المثقفين وأصحاب الاختصاص تقول العكس تماماً لأنهم يرون أن اللُحمة موجودة بين المكوِّنين الرئيسيين وأن أسباب التشرذم موجودة لدى السياسيين فقط وبعض الموتورين الذين يسبحون ضد التيار.
قسّم لطيّف محاضرته إلى أربعة محاور رئيسة وهي: “الجذور التاريخية للطائفية، ومحتواها الشكلي والمضموني، وأشكالها ومضامينها، والحلول الممكنة لها” أو التخفيف من غلوائها، كما يرى المحاضر، وإبعاد آثارها عن المجتمع العراقي من دون الإشارة إلى محفزاتها والتنويه للعناصر الموقِظة لها لأن شرائح الشعب العراقي برمته بريئة منها وأن المستفيدين من إذكائها معروفون لكل أطياف الشعب العراقي الكريم المتآخي على مرّ الأزمنة.
اعتمد لطيّف في ورقته البحثية على عشرة مصادر إضافة إلى القرآن الكريم ومن أبرز هذه المصادر كتاب “الطائفية في العراق الواقع والحل” للدكتور سعيد السامرائي، و “لمحات اجتماعية من تاريخ العراق” للدكتور علي الوردي، و “الشيعة والدولة القومية” لحسن العلوي، و “من تاريخ التعذيب في الإسلام” لهادي العلوي وغيرها من الكتب والمصادر التي تتمحور حول الطائفية. وفيما يتعلق بالمحاور الأربعة لا أجد أية ضرورة للخوض في الجانب التاريخي لأنه معروف للجميع وأن النبش فيه بحجة التفتيش عن حلول ناجعة لا يصب في خدمة الشعب العراقي. أما المحور الثاني المتعلق بشكل الطائفية ومضمونها فإن المُحاضر يعتقد بأن “الجميع طائفيون ومن دون استثناء” وهو يقصد بذلك “أن الإنسان يلد ويرث ويكتسب الاسم والدين والمذهب والطائفة والقومية واللون والشكل من دون إرادته”، وهذا الأمر لا يقتصر على المسلمين وإنما ينطبق على أتباع الأديان كلها، ولأن الدكتور لطيّف متخصص بالقانون فلابد أن يعرّج على القانون الوضعي الذي عالج مثل هذه الإشكاليات، فحينما يبلغ الإنسان سن الرشد القانوني يمتلك الحق في تغيير اسمه ودينه أمام المحاكم المختصة، “لكن الإنسان يصبح مرتداً إذا غيّر دينه ويتعرّض لعقوبة القتل” خصوصاً في بعض البلدان العربية أوالإسلامية غير أن هذه النزعة قد خفّت وصار بإمكان الإنسان أن يغيّر حتى شكله بعمليات التجميل! ذكرَ المُحاضر بعض الأمثلة على تغيير الاسم والدين معززاً رأيه بالآية (13) من سورة النجم “إن هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَان” إلى أخر الكريمة. ثم عرّف المحاضر الطائفية بالقول: “هي التعصب والتطرّف والتحرك على أساس الإلتزام الأعمى بالطائفية، رغم أن الدين يجمعه بآخرين. فالطائفي يتصرف بغض النظر عن الخطأ والصواب والجاهزية لارتكاب الجريمة خلافاً للواجب الديني والوطني الذي يلزمه أن يراعي الحق في قوله ومصلحة الوطن والمواطنين في عمله وأن يتحمل بالحس الإنساني الذي يحتم عليه احترام الإنسان وحقوقه بعيداً عن الدين والمذهب والقومية والجنس . . الخ” ثم اختصر تعريف الطائفي بالقول: “إنه هو الذي يتجرد عن كل القيم ومُثل المواطنة والإنسانية وحتى الدين وتتجلى طائفته لديه بوصفها القيمة الوحيدة”
أشكال الطوائف
أكد المحاضر بأن العراق يتوفر على نوعين من الطائفية وهما: “الطائفية الاجتماعية” و “الطائفية السياسية” ثم أضاف لها نوعاً ثالثاً استقاه من أحد نوّاب البصرة الذي أطلق توصيف “الطائفية الجهوية أو المناطقية” متشكياً فيها بأن البصرة تموّن فيها ميزانية العراق بنحو %80 لكنها محرومة من أبسط الخدمات، وليس لديها وزير واحد في الحكومة. كما أشار المحاضر إلى أن الطائفية الدينية موجودة في الدولة العربية والإسلامية إلى جانب الطائفية المذهبية.
لعل الشيئ المهم الذي ورد في حديث المحاضر عن الطائفية الاجتماعية هو قوله بأن “الشعب العراقي لم يألف الطائفية اجتماعياً، فهي وإن لم تكن معدومة كلياً . . إلا أن الشعب العراقي لم يعرها اهتماماً ولم يمارسها اجتماعياً لعدة أسباب أبرزها ازدواجية مذهب عشائره، والمصاهرة الواسعة العابرة للقوميات والأديان والمذاهب، وخاصة بين السنة والشيعة، مما أدى إلى ازدواجية مذهب الغالبية العظمى من الأسر العراقية. لم تفلح السلطتان العثمانية والإيرانية في جعل الطائفية ظاهرة اجتماعية. كما لعبت الاتصالات المباشرة والحوار بين مختلف أطياف المجتمع العراقي دوراً في إبعاد شبح الطائفية على مستوى المواطنين. هذا إضافة إلى أن بعض الأحزاب السياسية في العراق قد ضمّت مواطنين من مختلف المذاهب والأديان والقوميات آخذين بنظر الاعتبار أن التقسيم الأثني والديني والمذهبي في العراق متنوع جداً ويشمل العرب والكورد والتركمان والمسيحيين والصائبة المندائيين والإيزيديين والشبك واليهود سابقا” لذلك تجد السني والشيعي لدى العرب والكورد والتركمان، والمسيحي لدى السريان والكلدان والآشوريين والشركس والأرمن. ويعتقد المحاضر بأن سبب هذا التنوع الجميل هو أن منطقتنا ليست فقط حاضنة لجميع الأديان السماوية، بل هي أساساً موطن وولادة جميع الأديان فموسى “ع” ولد في مصر وتربّى في أحضان الفراعنة، وعيسى “ع” ولد في فلسطين، ومحمد “ص” ولد في مكة، أما إبراهيم “ع” فقد ولد في العراق. أشار المحاضر بأن هذه الأديان قد انقسمت حيث انشطر اليهود إلى فصيلين، والمسيحيون إلى أربعة فصائل، والمسلمون إلى خمسة مذاهب وقد استشهد المحاضر بالآية الكريمة التي تقول: “يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا. .” ولم يقل لتتقاتلوا أو تتنابزوا بالألقاب. ويعتقد المحاضر بأن هذا التنوع يمكن أن يفضي إلى ترسيخ القيم السماوية العليا، والتعايش السلمي بين الناس.
يعتقد المحاضر بظهور نفس اجتماعي طائفي أطلّ برأسه على العراقيين في العقود الماضية لعدة أساب من بينها “العزل، والإقصاء، وإسقاط الجنسية، وتسفير المواطنين، وتطليق الزوجات من التبعية الأجنبية في حقبة النظام القمعي السابق مما أدى إلى تفكك أسر عراقية كثيرة ومصادرة أموالهم المنقولة وغير المنقولة”. كما ساهمت الحرب العراقية – الإيرانية بتعميق الشعارات الطائفية، ثم تبعتها الانتفاضة وما تخللها من قمع وحشي ومقابر جماعية شملت شرائح عديدة من الشعب العراقي، ثم بروز ظاهرة الإرهاب على الساحة العراقية وتكفيرها لهذه الطائفة أو تلك الأمر الذي أضرّ بشرائح المجتمع العراقي برمته. توقف المحاضر عند بعض الظواهر التي عمّقت الشحن الطائفي مثل بعض الفتاوى التكفيرية، وظهور رجال دين محسوبين على الدين زوراً وبهتانا مُذكراً إيانا بمقولة فكتور هيغو الشهيرة: “في كل قرية هناك من يوقد شعلة هو المعلّم، وهناك من يطفؤها هو رجل دين مزيف”. كما أشار في هذا الصدد إلى ظهور أحزاب وحيدة الطائفة في العراق مثل حزب الدعوة، والمجلس الإسلامي الأعلى، والحزب الإسلامي السني، والجماعية الإسلامية الكوردستانية وما إلى ذلك.
يعتقد المحاضر أن الطائفية السياسية هي الأدهى والأنكى لأن الخطورة التي تكمن فيها هي التي أسست لطائفية الدولة العراقية حيث يستميت الطائفيون لتحويل الطائفية الاجتماعية إلى غطاء لها. يرى المحاضر أن العراق الذي كان مقسماً إدارياً إلى ثلاث ولايات وهي بغداد والبصرة والموصل قد توحّد بفضل ثورة العشرين وسياسات الحكومة البريطانية آنذاك.
لا يمكن الوقوف عند كل تفاصيل المحاضرة لأنها طويلة وتستعرض جوانب تاريخية يمكن العودة إليها سواء في المصادر العشرة التي أوردها أم في غيرها من الكتب والمراجع العراقية على وجه الخصوص.
الحلول الناجعة
يعتقد الدكتور نوري لطيّف أن القرآن الكريم هو المرجع الفاصل الذي يجب أن يتمسك به الجميع إزاء هذه الأزمة فهو يرى أن كل الأديان مولِّدة لنظام السلطة وقد استشهد بالآية (26) من سورة البقرة “إني جاعل في الأرض خليفة. . ” و الآية (30) من سورة رمى “يا داود إننا جعلناك خليفة فأحكم بين الناس بالحق”. وقد أحصى المحاضر (25) آية في القرآن الكريم تنص على أن الله يحكم بيننا فيما نختلف عليه. عدم الإساءة إلى الصحابة وإلى أئمة ورموز الأديان والمذاهب واحترام طقوسهم الدينية. لا خلاف على الشهادة والصوم والصلاة والزكاة والحج لذلك أوصى القرآن البشر في الآية (13) من سورة الشورى بالقيام على الدين وعدم التفرق لأن أصول وأركان الدين الإسلامي واحدة للجميع. ثم أورد الباحث في ختام محاضرته نصوصاً قرآنية صريحة في كيفية التعامل مع الآخرين نذكر منها “ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن” العنكبوت(36)، “أدعو إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن” سورة النحل(125)، و “لا إكراه في الدين” سورة البقرة (256)، و “فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر” سورة الكهف الآية 29 هذا إضافة إلى آيات أخر لا مجال لذكرها جميعا. أشار المحاضر إلى الحلول التي طرحها بعض الباحثين والدارسين منها أن يكون الإنسان عابراً للأديان والطائفية، لكنه يعتقد بأن الشخص يظل محسوباً على طائفته كما هو الحال مع سكرتير الحزب الشيوعي العراقي العابر للأديان والطائفية لكن أعضاء مجلس الحكم كانوا يحسبونه شيعياً. أما الدكتور نوري لطيف نفسه فقد قدّم ستة مقترحات لمعالجة الطائفية في العراق نوجزها بما يأتي: “نشر الثقافة والتعليم وتوفير فرص العمل لجميع أتباع الأديان والمذاهب والطوائف لأنها تسهم في الانفتاح والتفاهم والتعايش. ترسيخ الديمقراطية وجعلها أساساً للتعامل من خلال التربية والممارسة اليومية. وضع برامج تعليمية تبدأ من رياض الأطفال لغرس مفهوم التمسك بحقوق الإنسان واحترامها. فتح باب الحوار مع الآخر من أجل معرفته، وليس لتغييره. القضاء على البطالة، وإبعاد الدين عن السياسة، وخاصة رجال الدين الطارئين ووعاظ السلاطين، وترك الدين للمتدينيين”. وغب الانتهاء من المحاضرة أثار الحاضرون أسئلة عديدة أغنت المحاضرة وفتحت آفاقاً جديدة للحاضرين الكرام