لندن / عدنان حسين أحمد –
نظّمت مؤسسة الحوار الإنساني بلندن أمسية ثقافية تحت عنوان “تطور المدينة العراقية منذ منتصف القرن التاسع عشر وحتى الوقت الحاضر” للدكتور ليث رؤوف. وقد ساهم في تقديمه وإدارة الندوة الناقد عدنان حسين أحمد. استهل الدكتور ليث محاضرته بالقول: “إنَّ موضوع هذه المحاضرة مأخوذ بالدرجة الأولى من أطروحتي للدكتوراه التي أكملتها سنة 1982، وقد ابتعدت، منذ ذلك الوقت وحتى الآن، عن الحياة الأكاديمية، وأصبحت مشغولاً ومنهمكاً في العمل بلندن”. قسّم الدكتور ليث محاضرته إلى خمسة محاور تعتمد على الحقب الزمنية التي جاءت على وفق التسلسل التالي: “حقبة الوالي مدحت باشا التي تمتد منذ (1869-1872)، حقبة الاحتلال البريطاني للعراق التي بدأت منذ عام 1914، حقبة ما بعد ثورة 1958، حقبة الحكم الدكتاتوري المقيت منذ 1968 ولغاية 2003، وحقبة الحكم العرقي – الديني منذ 2003 وحتى الوقت الراهن”. ذكر المُحاضر بأن تاريخ المدينة العراقية قديم جداً ويعود إلى العهد السومري والبابلي والآشوري مروراً بالعهود اللاحقة، ولكنه اختار لبحثه حقبة زمنية محددة تبدأ بالنصف الثاني من القرن التاسع عشر، وتحديداً من حقبة مدحت باشا حيث كان العراق قبل مجيئة “ستاتيكياً” ثابتاً، بل أنه كان إقليماً مهملاً لدولة متخلفة حيث كانت المدينة العراقية مقسّمة إلى محلات على أساس عرقي- ديني، فهناك اليهود، والمسلمون بمذهبيهما المعروفين، والنصارى، كما أنّ بعض المحلات كان مقسّماً على أساس الحرفة، فهناك حي النجارين والحدّادين والصباغين وما إلى ذلك. أما مواقع هذه الأحياء فيعتمد على أنواع الحرف، فالدباغون كانوا قريبين من النهر، والعلافون كانوا قريبين من الضواحي والأرياف. أما الدولة فقد كانت ضعيفة لأنها كانت تحكم في المدينة وضواحيها فقط، ولا وجود لها خارج المدينة، ولا تستطيع أن تسيطر على الريف العراقي. أما الاقتصاد فقد كان متخلفاً جداً، والعملة متنوعة، ففي الجنوب كانوا يستعملون العملة الهندية، بينما في الشمال كانوا يستعملون العملة العثمانية، وهذا الأمر ينطبق على الأوزان المتنوعة حيث كانوا يستعملون الحُقة والكيلو. وتأكيداً على ضعف الدولة فقد كان الشيوخ شبه مستقلين في المناطق الوسطى والجنوبية، والأغوات كانوا شبه مستقلين في المناطق الكردية بسبب ضعف الدولة وعدم قدرتها على بسط نفوذها على المجتمع برمته. أدخل الوالي مدحت باشا خلال سنوات حكمه الثلاث عدداً من الإصلاحات التي أفضت إلى نمو اقتصادي وعمراني وثقافي ملحوظ، ويمكن أن نشير هنا إلى بعض الإنجازات الأساسية مثل إنشاء أول مدرسة للذكور، واستقدام أول مطبعة، وتشييد مدرسة الصنائع للأيتام المسلمين الذين لا معيل لهم كي يتعلموا بعض المهن ويعتاشوا منها، إنشاء سكة حديد العربات التي تجرها الخيول في بغداد، إكمال بناء القشلة الذي شرع نامق باشا في بنائه، إصدار جريدة الزوراء باللغتين العربية والتركية، ملاحقة المرتشين ومحاولة القضاء عليهم هذا إضافة إلى العديد من الإصلاحات والإنجازات الأخرى التي لا يسع المجال لذكرها جميعاً.
يعتقد الدكتور ليث رؤوف أن المدينة هي مرآة المجتمع، بتعبير آخر أنها تعكس الرؤية الحضارية للمجتمع نفسه بما ينطوي عليه من ثقافات وقناعات دينية محددة، كما أنها تستجيب للدينامية الاقتصادية والاجتماعية لأية مجموعة سكانية مهما كبُرت أو صغُرت. ففي عهد مدحت باشا تم فتح بعض الشوارع في مدينة بغداد، كما ساهم إدخال المدارس اليهودية والمسيحية في تنوير عقول التلاميذ، وتوسيع مداركهم، ومن الناحية العمرانية ساهمت هذه المدارس، والبيوت الفخمة التي غامر بعض الأثرياء في بنائها خارج جدران المدينة في استقدام تقنيات البناء الأوروبي، لكن الصيانة والخدمات التي كانت تُقدَّم لهذه البيوت ظلت بسيطة وعلى قدر كبير من البدائية.
أشار الدكتور ليث بأن الغزو البريطاني للعراق في الحرب العالمية الأولى أحدث نقلة نوعية أدمجت العراق بفضاء البلدان التي بدأت تنفتح على التطور والتقدم والتكنولوجيا. وعزز المُحاضر الرأي القائل بأنّ بريطانيا قد أنشأت البنى التحتية في العراق لخدمة جيوشها أول الأمر، لكن هذه البنى صارت متاحة لاستعمالها من قبل العراقيين. وحينما انتعشت الطبقة الوسطى من التجار، وموظفي الدولة الكبار، وبعض الشخصيات المُعتَبرة، اسهمت في تطوير البلاد، وتحريكها على أكثر من صعيد.
يعزو الدكتور ليث التقدم العمراني الذي حدث في أثناء الاحتلال البريطاني للعراق إلى الأمن الذي كان سائداً في تلك الحقبة الزمنية، هذا إضافة إلى عوامل أخر مثل توفر الأموال، ورخص الأيدي العاملة، واستقدام التكنولوجيا المعاصرة، وظهور السمنت في أواخر الأبعينات من القرن الماضي. كما توقف المُحاضر عند نقاط أساسية مهمة من بينها مجلس الإعمار، والبنك العقاري، لكنه انتقد الدولة التي لم تتدخل بعدالة في توزيع القروض. أشار المُحاضر إلى أن دوكسيّادس، وهو مهندس معماري يوناني ومختص في تخطيط المدن، هو الذي خطط قناة الجيش، ومشروعي شرق بغداد وغربيّها الذي تمدد على العشوائيات المتناثرة بعد عام 1958، وكان مشروع غربي بغداد عبارة عن بيوت وثيرة وُزعت على ضباط الجيش وبأسعار رمزية.
أحدثت ثورة 1958 خلال حقبتها الزمنية المعروفة تغييراً جذرياً في شكل العاصمة بغداد ويعود سبب هذا التغيير إلى الأموال التي كانت ترد من العائدات النفطية، وإلى ازدهار الطبقة المتوسطة، وإلى الجمعيات التعاونية التي كانت توزع الأراضي على الموظفين وفقاً لمهنهم الرسمية. إذاً، كان دعم الدولة من قبل البنك العقاري متاحاً سواء بفوائد زهيدة أو حتى من دون فوائد، الأمر الذي أدى إلى التوسع الأفقي للمدن العراقية.
لعبت الحقبة الدكتاتورية المقيتة دوراً في تشويه المدن العراقية، إذ قامت بتوزيع الأراضي إلى الضباط الكبار، والرفاق الحزبيين، والمتنفذين في الدولة العراقية بشكل غير مسبوق حتى أنها تجاوزت على الأراضي الزراعية المحيطة ببغداد وغالبية المدن العراقية. كما ساهمت الحرب العراقية – الإيرانية على إحداث النقص في الأيدي الأمر الذي دفعهم لاستقدام العمالة المصرية لسد هذا النقص الكبير، ومع أن أجور العمل ظلت رخيصة إلا أن الشعب العراقي ظل في حالة انتظار، بينما كان الدكتاتور منشغلاً ببناء قصوره الباذخة في بغداد وغالبية المدن العراقية بطريقة استفزازية لأن الشعب كان يتضوّر جوعاً بينما كان هو ممعناً في تبديد ثروات البلد.
أما الحقبة الخامسة والأخيرة فتمثلت بإسقاط الدكتاتورية من قبل أميركا والقوات المتحالفة معها في عام 2003، لكن الشيئ المؤسف أن العراق الذي انهمك في موضوعي الإعمار والمواطنة عاد بعد قرن من الزمان إلى نفس النقطة التي انطلق منها حيث عادت الأحياء والمحلات إلى تقسيمها العرقي- الديني لنعود من جديد إلى المربع الأول الذي انطلقنا منه في عهد المصلح الكبير مدحت وباشا. وفي ختام المحاضرة دار حوار عميق بين جمهور الحوار الإنساني والدكتور ليث رؤوف الذي أجاب بشكل مفصّل على أسئلتهم ومداخلاتهم ويكفي أن نشير هنا إلى بعض السائلين وهم الأستاذ غانم جواد، نبيل الحيدري، د. سعد حسين، خالد القشطيني، د. عباس الفياض، والدكتور إبراهيم الحيدري.