جوزيف براودي –
بغداد: مدينة في الشعر
تستحضر قصيدة عربية عن العاصمة العراقية بغداد في الذاكرة كل ما يربط بين المكان واللغة والشعب معا، مثلما تفعل تماما قصيدة عبرية عن القدس. بُنيت العاصمة العراقية التي يبلغ عمرها 1400 عام علي يد إمبراطورية إسلامية حملت شعلة الحضارة في القرنين الثامن والتاسع الميلاديين. في القرن الثالث عشر، تعرضت بغداد لعمليات سلب ونهب على أيدي غزاة المغول الذين جعلوا مياه نهر دجلة، كما تروي الأسطورة، تتلون باللونين الأحمر لون الدم والأزرق لون الحبر؛ بسبب إلقاء كتب المكتبات العظيمة الموجودة بالمدينة في النهر.
غلاف كتاب «بغداد: مدينة في الشعر» و رؤوبين سنير مترجم و محرر الكتاب
جرى إحياء بغداد في القرن العشرين على يد بناة الدولة الحديثة الذين جعلوها عاصمة التسامح والازدهار والقومية العربية، إلا أنها دمرت مرة أخرى على يد حاكم ديكتاتور وحروب خاضها ومزيد من زعزعة الاستقرار جراء الاحتلال الأميركي.
اقتفى التراث الشعري شديد التعقيد الذكريات الشعبية لهذا التاريخ المضطرب، ويمكن العثور على جزء صغير من هذا الأدب في كتاب «بغداد: مدينة في الشعر» وهو مجلد أنيق ومفيد تحرير رؤوبين سنير أستاذ الأدب العربي وعميد كلية العلوم الإنسانية في جامعة حيفا. يقدم الكتاب 200 قصيدة عن المدينة – نظمها في الغالب بغداديون على فترات تاريخية متنوعة؛ وفقا للترتيب الزمني. يبدأ الكتاب بـ«نجوم الدجى بين الندامى تغلب» للشاعر مطيع بن إياس (704 – 785) ، وينتهي بقصيدة «بغداد» لمنال الشيخ (1971). كما كتب سنير مقدمة مهمة تجمع بين أصوات الشعراء في إطار سرده الخاص المبهج عن بغداد عبر العصور.
كانت «المدينة المستديرة» الأسطورية في القرنين الثامن والتاسع – العاصمة السياسية والتجارية للدولة العباسية الإسلامية – تمثل أحد أعظم المراكز الفكرية في التاريخ: جمع الخليفة المأمون أكبر مستودع للكتب في العالم، واهتم بحركة ترجمة استمرت لعدة أجيال للحفاظ على النصوص القديمة الأصلية من العلوم والفلسفة والرياضيات والعديد من المجالات الأخرى. وقدمت دار الحكمة التي أسسها الخليفة الرعاية للعلماء الذين اعتمدوا على هذه النصوص في ابتكار تخصصات جديدة، وخاصة الجبر. وتعكس مختارات سنير من هذه الفترة المدينة التي تنعم بالترف؛ حيث «تحيا النُفوسُ إذا أَرواحُها نَفَحَت / وخَرَّشَت بينَ أوراقِ الرَياحينِ» كما يقول شاعر القرن التاسع منصور النمرى. ولكن يقدم الكتاب أيضا منصة للطبقة الدنيا، من خلال قصائد تحمل سخطا يتحدى الوصف السلس لمدينة متألقة. كتب شاعر مجهول عن عدم شعور أهل بغداد بالشفقة تجاه المحتاجين. ووصف آخر بخلهم لدرجة تَعَجُبه من أن يُسمح لهم بالعيش في مثل هذه الجنة.
المدينة القديمة
من خلال تقديمه لشعراء متباينين بهذه الصورة، يساعد سنير على اختراق مجموعة متنوعة من الافتراضات المعاصرة عن بغداد والمنطقة الإسلامية الواسعة. يؤكد التاريخ على أن بغداد كانت وما زالت عاصمة الإسلام، يشير سنير إلى ذلك: أُقرت المذاهب الأربعة في الشريعة الإسلامية السنية في هذه المدينة القديمة، وتبلور وجود جماعة كبيرة من المعارضين السياسيين والمعروفة باسم «شيعة علي» لتتكون منها إحدى طوائف الأقليات في الإسلام هناك. ولكن تظهر بعض قصائد الكتاب المدينة على أنها عاصمة الانغماس في ملذات الدنيا، على خلاف التصورات الحديثة للعواصم الإسلامية أنها تتسم بالمحافظة الدينية. تتحدث قصيدة من القرن العاشر عن صباح بغداد، جاء فيها:
«ببيت ترى فيه الزجاج كأنه/ نجوم الدجى بين الندامى تغلب
فما زلت أسقى بين صنجٍ ومزهرٍ/ من الراح حتى كادت الشمس تغرب». يتحدث شاعر القرن الحادي عشر أبو المعالي عن الثقافة الجنسية الجامحة في مقطع شعري يصف فيه ما يلحق به من نقد لخروجه مع صبي ملتح وليس أمرد.
قد تثير جوانب أخرى من تاريخ بغداد، تتناولها القصائد، الدهشة بين بعض العراقيين، تماما مثل القراء الغربيين. على سبيل المثال، جرى حذف تاريخ الجالية اليهودية الكبيرة التي كانت موجودة في بغداد من الكتب المدرسية العراقية منذ أكثر من ثلاثة أجيال.
وُلد سنير في إسرائيل لأبوين يهوديين مهاجرين من بغداد أُجبرا على مغادرة العراق عام 1951، مع ما يقرب من 125 ألف مواطن يهودي آخر من البلاد حسب بعض التقديرات.
ويستشهد سنير بإحصائيات عثمانية وبريطانية من أوائل القرن العشرين كشفت أن اليهود في بغداد كانوا يشكلون نسبة عالية من السكان، ويصف اندماجهم الشامل في التجارة، والسياسة، والثقافة المحلية. يضم الكتاب العديد من القصائد التي ألفها شعراء يهود، والتي لا يعرفها المسلمون العراقيون اليوم، والتي تعكس حبهم للعراق والتألم لوقوعها فريسة للطغاة، كتب شاعر القرن العشرين أنور شاؤول: «إن كُنتُ من موسى قبستُ عقيدتي فأنا المقيم بظل دين محمد».
يصف الشاعر العراقي الإسرائيلي روني سوميك بمرارة تجربته في ظل هجمات صواريخ سكود العراقية على تل أبيب أثناء حرب الخليج عام 1991: «يا دجلة، ويا فرات، يا ملاعب الدلال في خريطة العمر الأولى/ كيف خلعتما جلدكما وأصبحتما سامين؟».
يميل السرد القومي العراقي إلى ذكر القليل عن الأعوام الخمسمائة التي تفصل بين «القرون الذهبية» الأولى التي عاشتها بغداد والعصر الحديث – فيما عدا أنها فترة مظلمة شهدت غزو المغول المدمر في عام 1258 وغزوا على يد تيمورلنك في عام 1401. لا تحاول مقدمة سنير أن تملأ الفراغات المتعددة في هذه الفترة، ولا يحتوي الكتاب على قصائد مؤلفة فيما بين القرنين الثالث عشر والثامن عشر. ولكن يظهر الحديث عن المغول في القصائد التي ترجمها سنير من الفترة الحديثة – في كناية تعبر عن الغزاة الأجانب في العصر الحديث بالإضافة إلى الطغاة في الداخل. في مثال على النموذج الأخير، تتحدث قصيدة «كآبة الخريف» عن الحياة في بغداد في ظل الديكتاتورية العسكرية. في مقارنة بين بغداد 1258 وبغداد 1969، يقول الشاعر: «الأولى فتك بها التتار والثانية فتك بها أبناؤها».
العصر الحديث
تقع مجموعة القصائد، من العصر الحديث أيضا، في مشكلة واضحة تشير إلى مشكلة أكبر تتعلق بتأثير الطغيان على الذاكرة التاريخية. يضم الكتاب ترجمة لقصيدة من عام 1999 باسم «هولاكو» (قائد الغزاة المغول): «يا هولاكو هذا العصر، انزع عني سيف القهر». في الحقيقة مؤلفتها سعاد الصباح ليست بغدادية ولا عراقية، كما يشير وجود قصيدتها في الكتاب. ولكنها مواطنة كويتية زارت العراق أثناء حرب إيران والعراق وامتدحت صدام في شعرها لدفاعه عن «العروبة» ضد الغزاة «الفرس»، ليتغير رأيها في الديكتاتور العراقي بعد غزوه لبلادها في عام 1990. وفي الوقت الذي كتبت فيه قصيدة «هولاكو»، كانت مبعدة عن العاصمة العراقية. بالنسبة لمواطنين كويتيين مثل الصباح، كانت بغداد ذاتها هي الغازية.
من وجهة نظر بغدادية، لم تكن خسارة شعراء مثل الصباح الخسارة الثقافية الوحيدة الناجمة عن حروب صدام المدمرة. في خلال عشرة أعوام من الحرب مع إيران، سعت الدولة العراقية إلى محو الدور التاريخي للفرس في ذاكرة بغداد الجماعية من كتب التاريخ والنقاشات العامة العراقية؛ تماما كما حدث مع التاريخ اليهودي في العراق عندما جرى محوه قبل ذلك بجيلين.
وهكذا حُرم أهل بغداد من معرفة الدور الجوهري للفرس، والتعايش الفارسي العربي، الذي ساهم في إنشاء العصر الذهبي لمدينتهم. في الواقع، كانت الأسس البيروقراطية في بداية حكم الدولة العباسية من آثار الإمبراطورية الساسانية الفارسية التي اقتلعت جذورها. كان كثير من أبرز العلماء في دار الحكمة في العصر الذهبي من الفرس، ومن بينهم رائد علم الجبر البيروني، وعالم الطب ابن سينا. أغفلت مقدمة سنير كل هذه المعلومات. كذلك لا نعلم أن الشعر البغدادي في الفترة التي تقع في صميم كتاب سنير – القرنين الثامن والتاسع – كانت جزءا لا يتجزأ من بيئة إبداعية توافقية ازدهرت بين الثقافتين: استخدم شاعرا القرن التاسع إسحاق الخريمي وطاهر بن الحسين الخزاعي، وكلاهما مترجم له في الكتاب، كلتا اللغتين ولا ترجع أصولهما إلى بغداد بل ينتميان عرقيا إلى إقليم خراسان الفارسي، الذي أصبح الآن جزءا من أفغانستان.
الذاكرة الانتقائية
تجعل التعقيدات العرقية والدينية والتاريخية في مدينة بغداد من الصعب ترجمة القصائد التي تحدثت عن المدينة دون تقديم مستويات مختلفة من السياق. ويتضاعف التعقيد في ظل حقيقة أن قيمة الصور التقليدية من الشعر العربي تنبع بدرجة ما من الاستخدامات النحوية الفريدة في اللغة وصعبة الفهم. أضف إلى ذلك مشكلة الذاكرة الانتقائية: كما تبين من غموض قصائد اليهود البغداديين في العراق اليوم، أحيانا ما تكون المعرفة بقصائد معينة نتيجة لانتشارها أو لقمع الطاغية من أجل خدمة هدف طائفي أو آيديولوجي. لذلك يمكن أن يثير اختيار المادة للترجمة تساؤلات سياسية بل وأخلاقية أيضا.
في المجمل، يواجه كتاب «بغداد: مدينة في الشعر» هذه التحديات بدرجة مقبولة تسمح بتقديم مجموعة ذات تأثير عميق لتعريف قراء الإنجليزية بالتراث الثري والباقي للعاصمة العراقية. فقد العديد من الأميركيين، الذين كونوا معرفتهم المحدودة عن المدينة من خلال الغزو الأميركي، الاهتمام بمعاناة العراق. وها هو سنير يعيد مدينته الحبيبة إلى الحياة. وهو بذلك يقدم تصحيحا للتصورات المغلفة عن بغداد، وأملا عقلانيا في مستقبل أفضل مستوحى من ماضيها الباهر.