براهيم الحيدري
ثمة مفهوم جديد بدأ ياخذ مكانه في نهاية الآلفية الثانية بين مفاهيم الادب والفن والفلسفة والعمارة والعلوم الاجتماعية. ومع كثرة استخدامه وتداوله في الكتب والصحف والمجلات، الا ان الكتاب اختلفوا في تعريفه وبقى مبهما وملتبسا، حيث يرى كثير من المفكرين بان مصطلح “ما بعد الحداثة” هو مصطلح عصي عن التحديد ويستحيل توضيح حدوده ، لانه متمرد على كل تعريف أحادي وذلك لارتباطه بسياقات ثقافية واجتماعية وفلسفية متعددة تتجاوز حدود الحداثة التي حددها عصر التنوير. فمن المفكرين من تناوله كايديولوجيا جديدة ومنهم من حاول تنظيمه كنظرية اجتماعية معاصرة ومنهم من اعتبره اتجاها ادبيا لا يزال في طور التحقيق.
يشي تيار ما بعد الحداثة بان هذا العصر انما يمثل نهاية عصر الحداثة وبداية ونهاية ” السرديات الكبرى” التي تشمل جميع الفلسفات والمذاهب الكبرى التي سعت الى تفسير العالم تفسيرا شموليا وقيادة الانسان وتوجيهه في جميع مناحي الحياة كالمذاهب الراسمالية والاشتراكية والديمقراطية وغيرها. وهم يعتبرون الحداثة, شأنها شأن الفلسفات الكبرى ادت الى تكبيل الفكر وحجزه في اطار ضيق لا يستطيع التحرر منه، وبذلك انتهكت حرية الانسان الفكرية وحقوقه وذلك بسبب ان هذه المذاهب تقوم على فلسفات تدعي الوصول الى الحقيقة.
وقد انطلقت ردة الفعل هذه ضد تمجيد النزعات الوضعية والتقنية والعقلانية وفكرة التقدم والتخطيط العقلاني الرشيد للانظمة الاجتماعية وتوحيد انماط انتاج المعرفة. ويمثل التشكيك في فكرة الحداثة واهدافها القاسم المشترك بين جميع الاتجاهات الفرعية لما بعد الحداثة، التي تعتبر التنوع والتعدد والاختلاف والتفكيك واللا تحديد من سمات عصر ما بعد الحداثة، الذي يسعى الى تجاوز التصورات العقلية ومفهوم الذات العاقلة الذي ارسى دعائمه ديكارت ثم كانت، وبهذا فان ما بعد الحداثة يشمل خطابات متنوعة ومتعددة تلتقي كلها حول نقد الاساس العقلاني والذاتي للحداثة. ومع ذلك فان مفهوم ما بعد الحداثة ما زال موضع نقاش وسجال وجدل لاسباب عديدة منها:
اولا- من حيث الشرعية. فالبعض يقول انه لا توجد ظواهر كافية تبرر استخدام هذا المفهوم. وان ما بعد الحداثة ليس سوى ” نبيذ معتق في زجاجة جديدة” ، وان السجال الذي يدور حوله يكشف عن سعار ودعاية سرعان ما ينكشف زيفه، وهو محاولة للهروب من قبل اولئك الذين ينادون بظهور عصر جديد، بعد ان وجدوا بان عصر الحداثة لم يحقق ما وعد به.
ثانيا- من حيث الاستخدام. فما زلنا نعيش عصر الحداثة وما يستخدم الآن ليس سوى محاولات مختلفة تريد تثبيت نفسها ومصداقيتها. وفي الاساس فان ما بعد الحداثة هو مفهوم ادبي امتد تأثيره الى الفن والعمارة، ثم انتقل مؤخرا الى علم الاجتماع والفلسفة.
واذا كانت الحداثة تربط التقدم بالثقافة والعقلانية ، فان ما بعد الحداثة تفصل ما ارتبط وتفككه. وتبعا لذلك ينبغي تحديد الثقافة من الآن فصاعدا دون الرجوع الى تقدم العقلنة.
ويرى جياني فاتيمو ان هناك تحولين اساسيين لتحديد ما بعد الحداثة هما نهاية السيطرة الاوربية على العالم، وتطور وسائل الاعلام والاتصال التي ساعدت على ظهور الثقافات المحلية، واخيرا اختفاء الكونية التي كانت تعطي أهمية كبيرة للحركات الاجتماعية، ولم يعد للمجتمع اي وحدة وبالتالي ليس هناك خطاب يحتكر المعنى، وهو ما ادى الى تعددية ثقافية واختفاء الذات التاريخية.
حددّ آلان تورين اربعة تيارات لفكر ما بعد الحداثة، كل منها يشكل قطيعة مع ايديولوجيا الحداثة وهي :
أولا، يتمثل فكر ما بعد الحداثة بالمجتمع الصناعي المتضخم الذي لا يكف عن التسارع و يطبع الانتاج والاستهلاك الثقافي.
ثانيا، ان الحداثة اخترعت نماذج مضادة، اي مجتمعات تستدعي تحقيقها سلطة مطلقة، وهي نتيجة مباشرة لازمة اليسار الثورية، التي تفككت بفعل الانتقال من النقد اليساري الى النقد ما بعد الحداثي للحركة اليسارية ، ونفي ما هو اجتماعي.
ثالثا، القطيعة مع النزعة التاريخية عن طريق تحطيم وحدة الثقافة وحلول التعددية الثقافية مكانها.
ورابعا، ان انفصال الاعمال الثقافية عن الاطار التاريخي التي ظهرت فيه جعل ” لسوق الفن” اهمية جديدة. فلم يعد الفن للنخبة والهواة، وان تنتصر المؤسسة الانتاجية والاستهلاكية على الايروس والامة، اي انتصار الحركة وتغيير الوجود، ولم يعد الانسان امام العالم ويعيد انتاجه في صور، كما يرى هايدغر، وانما ” اصبح الانسان في العالم” وهذا هو معنى التصريح الشهير لجان فرانسوا ليوتار حول نهاية السرديات الكبرى.
غير ان يورغن هابرماس يرى ان الحداثة مشروع مستمر ولم يكتمل ، نتج عن التحولات التي حدثت في اوربا منذ عصر النهضة وما رافقها من اصلاحات وتوسع في التجارة والصناعة والثروة العلمية والتقنية والمعرفية ومبادئ عصر التنوير، كاحترام العقل والتقدم الاجتماعي وحقوق الانسان، أما ما بعد الحداثة فهو مشروع تحرر فكري وعملي من مشروع الحداثة الذي لم يكتمل ويجب وضعه ضمن الاتجاه التشائمي الذي يعود في أصوله الى فلسفة نيتشه.
ويمكننا ايجاز التحولات الجوهرية التي افرزتها الحداثة بالايمان بالانسان ومقدراته وبالعقل الذي هو مصدر تفوقه وتفرده وكذلك الايمان بالعالم الطبيعي، الذي علينا توجيه اذهاننا وجهودنا نحوه، لانه ليس عالما حقيرا وزائفا. واخيرا الايمان بالمجتمع بدل الدولة باعتباره مصدر السلطة، والذي انبثق عن التمييز المطلق بين الذات والموضوع.
اذن يمكننا التحدث عن ما بعد الحداثة كمرحلة اوتيار اومشروع يتجاوز استخدامه المحيط الاكاديمي.
وبالرغم من ان المفهوم ما زال بشكل او بآخر ضبابيا، لارتباطه بمفهوم الحداثة الذي ما زال ساري المفعول، والذي يريد ازاحته عن موقعه في التاريخ المعاصر، فان دعاة ما بعد الحداثة، يشكون في قدرته على اختراق الوعي بالحداثة لعدم انعكاس مضامينه حتى بداية الآلفية الثالثة في الواقع الاجتماعي المعيشي، ما عدا بعض المؤشرات التي اخذت تتجلى بين آونة واخرى لدى بعض المفكرين. وعلى المرء ان يميز بين انتشار مفهوم ما بعد الحداثة وبين دقته واستخداماته المختلفة ومظاهر تحكمه، كما يظهر ذلك من تقاطع الاقتصاد بالجنس والنظام الرقمي (الديجتل) بالثقافة والفلسفة بالسياسية.
وليس كل ما يشاع صحيحا من ان ما بعد الحداثة أمركة او فرنسة، بقدر ما هي “عولمة” كما يشير الى ذلك ليوتارد، لان جذورها تمتد عمقا في التاريخ. كما انها ليست من ابداع منظري الفنون او الفلاسفة، بقدر ما هي ابداع لواقع الحياة المعاصرة، في عصر العلم والتقنية والثورة الفضائية وثورة الجينيوم والثورة الاتصالية الالكترونية التي نشأت كجواب على النزعة الليبرالية ومن ثم تفسيرها بمطالب وخلجات وتصورات ومشاكل التعددية الثقافية. ان ما بعد الحداثة لم تكشف هذه الوضعية وانما عكستها، لانها لا تنظر الى الخارج، بقدر ما تبحث بنفسها في الزمن المعاش وتحدياته.
تقوم ما بعد الحداثة على منطلقات عامة هي: –
اولا – يمكن فهم ما بعد الحداثة كدستور للتعددية هدفه الدفاع عنها كمشروع مستقبلي لانها ليست جزءا من ظاهرة افقية عامة، وانما هي آفاق مشرعة واطر لها تماس بالارض ولكنها تخترق الآفاق، بقوة تأثيرها المتنوع في اطر التوقعات، ونفوذها الى جوهر العصر، لانها تشكل جذوره- ولانها عميقة الجذور فهي تعددية جذرية، بالرغم من ان التعددية كانت متضمنة في الحداثة، غير انها اصبحت اليوم دستورا لما بعد الحداثة.ان ما بعد الحداثة هي مرحلة او تيار يعترف بالتعددية كدستور للمجتمعات بعد ان اصبح للتعددية معنى ونموذجا ضروريا للعمل وتصورا ايجابيا داخليا لا ينفصل عن المباديءالديمقراطية.
ثانيا – افرزت ما بعد الحداثة تجارب اساسية تعكس في الواقع تشكيلات علمية ومخططات حياتية ونماذج سلوك جديدة اثبتت اهمية معانيها. ولذلك لا يمكن النظر اليها من جوانبها الخارجية فقط.
ثالثا – التعددية هي خيارها في الوقوف امام التوتاليتارية ( الشمولية) على اساس تجاربها مع حقوق الانسان وآلياتها، حيث تقف مع الاكثرية وضد اشكال السيطرة والتسلط القديمة والحديثة.