استضافت مؤسسة الحوار الإنساني بلندن، و ضمن موسمها الثقافي الشتوي للعام 2021، الباحث و الأكاديمي العراقي الأستاذ الدكتور إسماعيل نوري الربيعي الذي تحدث في موضوع ؛ ( السياق و الدلالة؛ حالة العراق) . الربيعي استهل المحاضرة بمدخل نظري للتعريف بالمفاهيم الرئيسة ، منطلقا من أهمية الوقوف عند التمييز المدقق للمصطلح العلمي و طريقة التعاطي معه، وبالتالي القدرة على استثماره في البحث و الدراسة. و أشار إلى أحوال التداخل المستشرية في المزيد من القراءات لا سيما في الثقافة العربية، مما كان الأثر المباشر في خلق أحوال سوء الفهم لدى جمهور الباحثين و المتلقين العرب. أزمة المصطلح ما انفكت تحضر وهي ليست بالجديدة بل راحت تكشر عن انيابها في ظل انتشار وسائل التواصل الاجتماعي، وتوسع مجال المساهمة من غير المتخصصين، لتبرز للعيان ظاهرة تداخل المواقع حتى بات من العسير تمييز الجاد والرصين عن الغث والهزيل.
الفكرة الرئيسة التي تقوم عليها المحاضرة، ترتكز على أهمية الوعي بقيمة التطبيق المنهجي في الدراسات الإنسانية، و تلك هي الأخرى إشكالية لم تزل تفرض بثقلها على واقع الدراسات العربية. فقد أحال البعض من الباحثين التطبيق المنهجي إلى أسلوب إملأ الفراغات التالية ، باعتبار التطلع نحو تمييز المفاصل الرئيسة في منهج علمي ما ، نال شهرته و صيته عبر التداول في الوسط الأكاديمي و الثقافي. ليتطوع الباحث في استلال العناوين الرئيسة ، و السعي نحو الخوض في المطابقة الصورية ، و التي لا ينجم عنها سوى الخروج بعناوين براقة ، لاتتضمن أي عمق تحليلي علمي. استمراء لعبة توظيف المنهج بوصفه مدخلا للفت الانتباه، أضرت كثيرا بسمعة التطبيقات المنهجية ، بل ساهمت في خلق أجواء من الانقسام في طريقة النظر إلى المناهج و التشكيك فيها.
شدد المحاضر على أهمية الجهود التي قدمتها المؤسسة الأكاديمية و الثقافية العربية ، و لها الحق أن تفخر بأسماء ذهبية استحقت أن تحفر أسماءها بماء الذهب. و لكن يبقى الإشكال قائما لا سيما في طريقة التعاطي مع ترجمة المصطلح العلمي الذي أثار المزيد من المشكلات، بل و تسلل الكثير من الخلط في طريقة إنتاج المعنى . هذه الظاهرة يمكن ترصدها في المشرق العربي حيث أحوال التكاسل في طريقة التعاطي مع اللغة الإنكليزية، فيما المغرب العربي استثمر انتشار اللغة الفرنسية، و التي لم تنج هي الأخرى من طريقة المبالغة في تقعير و تعقيد المصطلح العلمي.
حاول المحاضر أن يتوقف عند الموضوع الرئيس و المتمثل في حالة العراق، محاولا التوقف عند اللحظات التاريخية التي كان لها الأثر المباشر في صناعة و تكوين الكيان السياسي العراقي. منطلقا من لحظة سياق الهيمنة الذي يمثله صانع القرار في لندن : ممثلا في رئيس الوزراء لويد جورج و وزير المستعمرات ونستون تشرشل، يقابله في الطرف الآخر الجهاز التنفيذي ممثلا في برسي كوكس المندوب السامي البريطاني و إدارته الميدانية في العراق. الأمر هنا يتعلق بمحاولة ترصد لحظة تشكيل الكيان العراقي بوصفه فكرة ، انطلاقا من تعالق السؤال الشائك و الذي اختلف فيه المؤرخون و الباحثون. و الذي يقوم على ، هل العراق وليد اتفاقية سايكس بيكو 1916، أم هو نتيجة تفاعل سياقات تاريخية لاحقة؟
من دون الخوض في ترجيح واقعة على أخرى أو الوقوع في لوثة تكريس أهمية عامل على آخر ، اقترح الباحث الرجوع إلى الأرشيف الوطني البريطاني، مستحضرا الوثائق التاريخية المتاحة لتداول الجمهور ، ساعيا إلى إعادة قراءتها و الكشف عن العناصر الرئيسة الفاعلة في صناعة الحدث، متوقفا و بتركيز شديد على واقعة لقاء رئيس وزراء فرنسا كليمنصو بنظيره البريطاني في مقر السفارة الفرسية في لندن في الأول من دسيمبر 1918. هذا اللقاء يحتل أهمية استثنائية في طريقة إعادة النظر في فكرة تكوين العراق، بشكله المتعارف عليه اليوم . لقاء تفاوضي بين سياسيين خرجا من الحرب العالمية الأولى منتصرين. لكن السياق التاريخي يفرز المزيد من التداعيات. الأمر الذي يجعل أحوال التدبير و التفعيل قائمة و حاضرة ، و غير قابلة للسقوط في نشوة الانتصار. بل أن فكرة الانتصار بذاتها تحفز هذين الطرفين نحو خطوة أخرى أكثر تعقيدا ممثلة في ( استثمار الفوز). و هكذا يبرز السياق التاريخي انتفاء قيمة معاهدة سايكس بيكو و عدم جدواها بعد أن كشف عنها البلاشفة الروس. ليكون التطلع نحو تفعيل مجال الموجهات و الأهداف المستجدة و التي أفرزتها الأحداث المتلاحقة ، هذا بحساب الزمن السياسي المتسارع. فكان التسابق نحو التماهي مع اللحظة. الجانب الفرنسي يسعى للحصول على دعم بريطاني في قضية التفاوض، وهذا الأخير لم يتوان عن استثمار اللحظة للحصول على المكافئات المجزية.
الدرس التاريخي يتوقف عند الموّجه المعرفي الرئيس و المتمثل في أهمية الإدراك العميق بأن وعي الراهن يختلف عن وعي الماضي، هذا بحساب أن لكل مرحلة تاريخية نظامها المعرفي الخاص بها. مشكلة اليوم تختلف جذريا عن مشكلة الأمس. الأمر هنا يرتبط بطريقة التفكير و سياق التلقي، قد يتبدى التشابه حاضرا ، و في الكثير من الأحيان مربكا إلى حد التطلبق، لكن يبقى الأهم في كل هذا إنما يقوم على أهمية الوقوف عند دالة ( الوضع التاريخي). ذهنية السابق محكومة بسياقاتها الخاصة، و لحظتها التارخية الموغلة بالخصوصية و الموصوفة بــ ( النظام المعرفي الخاص). ما كان بالأمس محرما ، يصبح تلقيه في الراهن المعاش مقبولأ و أكثر قابلية للتداول. و عبر هذا التصور تتبدى أهمية إمعان النظر في طريقة التفكير و المواقف من قضايا حقوق الإنسان و المرأة و التمييز العنصري، و طبيعة التعاطي مع المواقف السياسية و الاجتماعية و الثقافية.
ثنائية السابق و اللاحق تكون بمثابة الكشف عن اساليب و مستويات التعاطي مع القضايا الأكثر إلحاحا في المحيط الاجتماعي. السابق كانت حدود الوضعية التاريخية فيه ، تمارس عليه التقنين المعرفي و الجاهزية و التنميط، فيما الحاضر المتفاعل في خضم الثورة المعرفية و الاتصالية و تنامي دور وسائط التواصل الاجتماعي، كان له الدور الأهم في انبثاق موجهات التفكير الجديدة ، تلك التي تتساوق مع طروحا من نوع ؛ التاريخ الجديد. حيث الإعلاء من أهمية الانفتاح على التخصصات المتنوعة و المختلفة . و حث الموجهات المعرفية نحو تناول موضوعات المسكوت عنه و المضمر و الكامن و اللامفكر فيه. حيث حث التطلع نحو إعادة النظر في أن التاريخ لا يمثل الحقيقة المطلقة بقدر ما هو ، تمثيل للنسبي في خضم العلاقة مع الواقع. و هكذا يكون التوجه نحو استثمار قراءة المزيد من الحقول في الواقعة التاريخية مثل؛ الذهنيات، المشاعر، الأوهام، إعادة النظر في اليقينيات. قراءة لا تزعم بلوغ الحقيقة ، بقدر ما تحاول استثمار الشواهد و الرموز و الوثائق و العلامات و التداعيات، تلك التي تفعل أفاعليها و تترك آثارها على المجمل من المدركات السياسية و الاقتصادية و الاجتماعية و القانونية و الثقافية.
انه المسعى نحو توجيه الأنظار نحو امكانية توظيف مفهوم ( الفترة الطويلة Long term ) بكل ما فيه من أنساق و أساليب عمل و تأثيرات، كل هذا يكون مشفوعا ([1]) بالطروحات التي أسست لها مدرسة الحوليات التاريخية و الجهود التي بذلها فرديناد بروديل في طريقة تمييز النظر حول الزمن ، و اجتراح مفاهيم مثل: الزمن الجغرافي الثابت ، و الزمن السياسي السريع، و الزمن الثقافي البطيء. الأمر برمته منوط بطريقة التعاطي مع التاريخ، فهل هو الغاية و الهدف المرسوم و المنشود، أم هو عبارة عن حقل معرفي يحتوي على المزيد من المسارات. إذ لم يعد من المجدي التعاطي مع التاريخ و فقا لسير الأبطال و الأحداث و قيام الإمبراطوريات و سقوطها، و ماذا يحب هذا القائد و ماذا يكره؟ إذ انيطت هذه المهمة بمحرك البحث Google ، و الذي راح يؤديها بمهارة تفوق أعتى المؤرخين التقليديين مهارة و دربة . الأمر هنا يتعلق بأهمية البحث في موقع المؤرخ و طريقة التعاطي مع زاوية النظر إلى التاريخ ذاته، بوصفه حاملا لعلاقات القوة و السلطة داخل المحيط الاجتماعي، حيث المسعى نحو فرز موجهات التأثير و النفوذ و الهمينة، و بهذا تتجلى أهمية التاريخ بوصفه حقلا مكتنزا بالمعطيات المعرفية ، و ليس الحقائق المطلقة .
التاريخ تفعيل و تثمير للتفاصيل التي يزخر بها الواقع، بكل مافيه من رسمي و شعبي، نخبوي و شائع و عام، رفيع و هامشي، ملهاة و مأساة، مهم و غير مهم. ألوان، علامات، ارتقاء و نكوص، هزائم و انكسارات، و انتصارات و مجد و تحليق. إنه التطلع نحو قراءة المجال الذهني، نائيا بنفسه عن ممارسة الاسقاط التاريخي، إنه المبحث العميق و الدال في صميم التفاعلات داخل الميكرو Microالاجتماعي ، و التوجه نحو تمييز مفاصل الماكرو Macro الاجتماعي، مهمة قوامها البحث في المواقف و السعي نحو الإمساك بخيط المخاض الإنساني في ذروة اشتغاله في الواقعي المعاش الحي. مهمة المؤرخ الراهن شاقة وشديدة التعقيد حتى أن المؤرخ الفرنسي فرانسوا دوس François Dosse لا يتردد من إطلاق توصيف الانتحار المزدوج double suicide ([2]) على موقف المؤرخ الراهن من طريقة التعاطي مع مفهوم التاريخ حيث الخيار الذي يكاد يكون مبهما ما بين التطلع نحو استثمار معطيات العلوم الاجتماعية و توظيفها في مدرك موضوعي، و طريقة التعاطي مع التاريخ التقليدي الذي لا يتوان حاضرا بظله الثقيل. لكن هذا الحال لا يمكن أن يعفي المؤرخ من التطلع نحو ممارسة الاختيار الواعي للموقف ، حيث الاستيعاب ([3]) Assimilation .
[1] Goldin Marcovich, G., & Markovits, R. (2019). Editing the first Journal of World History: Global history from inside the kitchen. Journal of Global History, 14(2), 157-178. doi:10.1017/S1740022819000019
[2] .François Dosse – 1994 , New History in France: The Triumph of the Annales, University of Illinois Press, p 4.
[3].Clifford Wilcox – 2006, Robert Redfield and the Development of American Anthropology , Lenxinngton Books, New York, p 48.