د. خسرو باقري – فيلسوف تربوي وأستاذ في جامعة طهران
کما أُطلق على “أرسطو”، هذا الفيلسوف الجامع والمفكّر العظيم على مدى العصور، لقب ” المعلّم الأوّل”، وهذا بالطبع يشير الى المقام الجليل للمعلم والتعليم ، يليق بنا حالياً أن نمنح الكورونا لقب ” المعلّم الأخير “!
واصطلاح “الأخير ” هنا لا يعني الأقل أهمية أوفي المرتبة الأخيرة ،بل لعله يكون المعلّم الأعظم، ” المعلّم الأخير ” هنا تعبير عن “آخر معلّم “. لكن ما هي تعاليم هذا المعلّم ليستحق هذا اللقب ؟
? أولاً، لقد غيّر الكورونا نظرتنا للعالم، حيث أثبت بأن العالم مليء بالأسرار ؛ أظهر هذا للعيان: كيف يطوي صفحات حياة البشر، بما لديهم من حضارات بطولها وعرضها . فهو يتمكن، عبر تدخله بتفاصيل بسيطة تكاد لا تساوي شيئاً، من جعل البشر كالعصف المأكول و الأوراق المهملة و رميهم جانباً وكأنهم ليسوا شيئا مذكوراً!
على الإنسان أن يتعلم بأن العالم مفعمٌ بالأسرار وأنه يسير في غار ذي ألف باب وباب، يخرج من كل باب سراً يسير نحو غاية وساحل مقصود. لقد دلّ الكورونا أيضاً بأن المادة والمعنى مندمجان معا في هذا العالم؛ الروح والجسم متعانقان سوياً؛ كما أن روحك القيمة متوقفة على جسم رخيص و بسيط كالكورونا، ما يعلّمنا جيداَ بأن حراسة الروح رهن بالمحافظة على طهارة الجسد.
? ثانياً، لقد أحدث الكورونا تحولاً في “علم المعرفة”(الابيستمولوجيا) لدينا . أثبت أن هناك وقائع موجودة في العالم لا يمكن تجاهلها والمرور بها مرور الكرام ، بل يجب الوقوف عندها بتواضع و خشوع. أين هم أصحاب “النظرية البنائية” constructionism؟! ليأتوا ويروا بأن ليس كل شيء صنيعة أذهاننا، بل توجد وقائع عظمى تغلق علينا الطريق و تجبرنا على التعرف اليها . نعم، هو ذهننا المبدع من يجب عليه أن يخيط ثوباً لائقاً بقامة هذه الواقعيات، ولكنّه ليس ثوباً للا أحد و للاشيء!
نحن أسمينا الكورونا المعلم الآخر، ولكن هل هو إسم بلا مسمّى ؟
? ثالثاً، قلب الكورونا القيم والأخلاق رأساً على عقب! الكورونا داع عظيم للمساواة. لقد وضع مساواة البشر أمام أعيننا؛ تماماً كوالده “الموت”، برهن الكورونا بأن الجميع متساوون أمام قانونه ولا تمايز لأحد على أحد؛ الحبر الأعظم كأبسط الرعية. يصرع الملك على الأرض نفسها التي عاش عليها المتسول ردحاً من الزمن.
والأسمى من طلب المساواة هذا، لقد حوّل الكورونا الـ”أنا” الى الـ”نحن ” ودلّ بشكل قاطع بأن الناس ليسوا متساوين فقط، بل مندمجين معاً وأن مصير كل إنسان متداخل مع الإنسان الآخر في نسيج منسجم و كلٌّ معقّد متحد؛ وليس الأمر بأنّه إن استطاع أحد أو جمع ما “أن يقلع شوكه بيده”، سيتمكن من النجاة بنفسه ويأوي الى “ركن شديد” و يعيش حياته هانئاً في فقاعته المستقلة وجزيرته المعزولة: إمّا أن نحيا معاً أو نموت معاً! هذا درس الكورونا العظيم، وبهذا التعليم يضع في أيدينا المفتاح الذهبي للأخلاق: الإنتصار على محورية الأنا و الأنانية، ليكون مظهراً للكلام (العلوي)الحكيم “فأحبب لغيرك ما تحب لنفسك، واكره له ما تكره لها”
وأخيراً، يجب الإقرار بأن الكورونا هو مربٍّ حاذق؛ يقبض قبضتك بقبضته ويرميك أرضاً لتقوم وتنهض صانعاً من الضعف قوّة ! يصيبك بمصيبته عدّة أيّام لتقاومه وتواجهه، تكتشف بهذه المعركة قدراتك الكبرى المجهولة، سيرحل الكورونا ويعود ليدفن في التراب لتعيد إنتاج قوّتك و طاقتك المتجددة. كانت هذه “حيلته” لتحقق رشدك وتكاملك. وهو سيعود في يوم من الأيام ليهاجمك باسم آخر و شكل آخر؛ يعود ليكسر غرورك، ليحطّم هذه القدرة الوهمية و يستخرج قدرتك الحقيقية من وجودك الحقيقي. نعم ، الكورونا هو المعلّم الأخير !