عبد الرحمن الحاج –
ليس من السهل أن ينجو المرء عند ذكر «الهوية الوطنية» من الربط الذهني الاشتراطي بمفهوم العلمنة، والتي بدورها لا تزال ترتبط بذهن الكثير من إسلاميي اليوم بالموقف السلبي من الدين، وقد كنا بمندوحة عن أن نخوض في هذا الموضوع لولا أن الأحداث في منطقتنا ـ التي يتفجر فيها العنف الطائفي وتندلق إرهاصاته في أماكن عدة ـ تدفع باتجاه فتح مناقشة جدية وعلى نطاق واسع لعلاقة الهوية الوطنية بالهوية الدينية في الدولة الحديثة.
بدءاً من أحداث العراق حيث يزعم بناء دولة «ديمقراطية» على أنقاض الديكتاتورية الصدامية تندلع أسوأ أعمال عنف طائفي تهتك ما تبقى من قشور المواطنة الكاذبة، مروراً بلبنان حيث يشكل «حزب الله» قوة سياسية وعسكرية تعطل الدولة وتشن الحروب لمصلحة دولة أخرى لأسباب دينية بالدرجة الأولى، وصولاً إلى اليمن حيث يقاتل الحوثيون على أساس إخضاع الهوية الوطنية لإملاءات الهوية الدينية، والأهواز حيث يقاتل السنة العرب من أجل الاستقلال بالاستناد إلى الأسس العرقية والمذهبية، وإلى الصين والفيليبين حيث يقاتل المسلمون من أجل الاستقلال، فإن تعداد أحداث العنف السياسي بسبب صراع الهوية الدينية أمر يطول، غير أن المهم في كل ذلك أنه يفرض علينا السؤال عن معنى الهوية الدينية في موازة مفهوم المواطنة والهوية الوطنية.
لقد كان لظهور مفهوم المواطنة كجزء من مفهوم الدولة الحديثة انعكاسه على نظام الخلافة الإسلامية، – التي لها سمات الإمبراطورية وبعض ملامح الدولة الحديثة، وقد سبق وأشرت في مقالات عدة بأن الخلافة هي نظام وسيط بين الإمبراطورية والدولة – إذ بدأ عصر التنظيمات (1839- 1876م) كنوع من ترميم شيخوخة السلطنة العثمانية وإعادة الشباب الآفل لها، وطُرح في ذلك الوقت (1850م) شعار «العثمنة» لطوائف السلطنة وقومياتها بوصفه مفهوماً مطابقاً لصفة المواطنة، بهدف إعادة اللحمة الى الاجتماع السياسي العثماني الآخذ بالتفكك على أسس جديدة من خلال تقنين العدالة والمساواة بين المسلمين وغير المسلمين من أبناء السلطنة في الحقوق والواجبات دون اعتبار للدين والعرق أو اللسان، بما في ذلك إلغاء الجزية عن غير المسلمين والسماح لهم بدخول إدارات الدولة والجيش على أمل ان يحد ذلك من تطلعاتهم الانفصالية المدعومة من المستعمر الأوروبي، وبحلول عام 1869 صدر قانون الجنسية العثمانية.
كان من المفترض أن يقضي نظام الجنسية على الامتيازات التي كانت تحظى بها الأقليات المسيحية المدعومة من الأوروبيين، فوقف مسيحيو السلطنة العثمانية ـ المفترض أنهم يجب أن يدافعوا عن المواطنة والمساواة ضد نظام الملة التمييزي – ضد نظام الجنسية والمواطنة، وساندتهم الدول الأوروبية الاستعمارية، فتراجعت السلطنة وأبقت الامتيازات بجوار الدولة، فيما رفض الشيوخ (في مقدمهم شيخ الإسلام) والمعممون قانون الجنسية لأنه يعني أن المسلمين لم يعودوا أصحاب السيادة في الدولة، وأنه بدلاً من أن نقلد الغرب الكافر على الغرب أن يقلدنا! ولقد كان أكثر القضايا تأثيراً في عدم ترسيخ الهوية الوطنية هي فقدان الثقة بين المسلمين والأقليات الدينية، خصوصاً المسيحية، فقد منح الخط الهمايوني امتيازات خاصة لأبناء الأقليات الدينية المسيحية بجوار المواطنة الأمر الذي عزز عدم الثقة بين الطوائف، وانفجرت أحداث عنف طائفي في بعض الأماكن المتفرقة من السلطنة (مثل أحداث دمشق).
في الجملة فإن النقاش حول الهوية الوطنية والهوية الدينية بدأ في عصر التنظيمات، وإذا كانت السلطنة العثمانية بدأت بقانون الجنسية (المواطنية) فإنها زرعت في الوقت ذاته الانقسام حول الهوية الوطنية والهوية الدينية وكرست انعدام الثقة بين الطوائف الدينية في المجتمعات التي تنضوي تحتها مع ارتباط التجمعات الدينية الطائفية بمشاريع سياسية خارجية اعتماداً على الرابط الديني (أوروبا المسيحية).
لقد وسعت التنظيمات وطورت أوضاع الدولة العثمانية النقاش حول مفهوم المواطنة والمساواة الحقوقية في دولة الخلافة، وبلغ هذا النقاش ذروته لدى عبد الرحمن الكواكبي في كتابه «طبائع الاستبداد»، الذي يشير فيه بوضوح إلى «مفهوم المواطنة باعتباره مساواة سياسية أولاً وأخيراً، ويدعو إلى ما سماه «الاتحاد الوطني» بالقول: «يا قوم، وأعني بكم الناطقين بالضاد من غير المسلمين أدعوكم إلى تناسي الإساءات والأحقاد، وأجلكم من أن لا تهتدوا لوسائل الاتحاد وأنتم المتنورون السابقون، فهذه أمم أوستريا وأميركا قد هداها العلم لطرائق شتى، وأصول راسخة للاتحاد الوطني دون الديني، والوفاق الجنسي دون المذهبي، والارتباط السياسي دون الإداري».
لقد كان فكر الكواكبي تطوراً فكرياً مهماً في موضوع المواطنة في إطار النسق الفكري والثقافي للمجتمع الإسلامي العربي، غير أن تسارع الأحداث وانهيار الخلافة أديا إلى كبح تطورات هذا النمط من التفكير وانتكاسه إلى نمط ما قبل تنظيمات الخلافة، خصوصاً أن كثيراً من الدعوات القومية والعلمانية بمعناها الديني كانت من قبل أشخاص ينتمون للأقليات الدينية غير المسلمة.
عاد التوتر وساد جو من عدم الثقة، وسمح حدث بحجم سقوط الخلافة لقضية المواطنة أن تتحول إلى معضلة فكرية، خصوصاً مع ولادة المفهوم الهجين «الدولة الإسلامية» أي: دولة الإسلام المنتظرة بعد أفول نجم الخلافة، وبما أن «الدولة الإسلامية» هي في الواقع أيديولوجيا سياسية فقد قضت هذه الأيديولوجيا على أي محاولة جدية من داخل النسق الإسلامي لترسيخ مفهوم الوطنية في إطار الأمة والجماعة المسلمة، بدءاً من كتابات الشيخ حسن البنا، التي تنبئ عن ارتباك بين المواطنية الأممية على أساس ديني والمواطنية الدولتية، ويبدو للمتابع لما كتب منذ ذلك التاريخ أن هناك صراعاً بين مفهوم الأمة ومفهوم المواطنة، فالمواطنة – كما تعكسها هذه الكتابات – تحدّ من مفهوم الأمة، وتقتات عليه، إذ ان معنى المواطنة هو إلغاء منظومة معقدة من الواجبات والالتزامات الفقهية التي تفرضها أخوة العقيدة.
ما كان بوسع معظم كتاب الأجيال الأولى التي تلت سقوط الخلافة أن تفلت من هذه المعادلة، لكن كتابات قليلة بدأت تظهر في تسعينات القرن المنصرم ومطلع الألفية الثانية للميلاد تظهر تقدماً في النظر للقضية، إذ أجريت محاولات جديدة لتجذير المواطنة في الفكر الإسلامي السياسي (في شكل خاص: طارق البشري وفهمي هويدي وراشد الغنوشي)، صحيح أنها لا تزال كتابات قليلة، ويعوزها النقاش والتطوير، لكنها متقدمة كثيراً قياساً إلى ما كتب قبلها.
ربما علينا أن نعيد النظر في مفهوم الأمة، ونتساءل عن معنى الأمة بوصفه اجتماعاً دينياً قبل أن يكون سياسياً، وعن معنى حدود التعارض بينه وبين مفهوم المواطنة، فكثير من الأفكار هي عوالق أيديولوجية أكثر منها رؤى فقهية.
وفي هذا السياق فإن بناء تصورات فقهية أمر ليس بالهين، غير أننا نجد في مقاصد الشريعة ما يعين على فهم هذا الأمر وتكييفه فقهياً، فمقاصد الشريعة تقدم «حفظ النفس» الجزئي على «حفظ الدين» الجزئي، وحفظ النفس الكلي على حفظ الدين الكلي، إذ لا دين من دون نفس إنسانية، وإذا صح أن العقد الوطني هو تواضع الجماعة على مبادئ لحفظها من الصراع والهلاك فإن مقاصد الشريعة من دون شك تجعل العقد الوطني مقدماً على العقد الديني للجماعة، الأمر الذي يعني أن الهوية الوطنية أعلى من الهوية الدينية، لأن حفظ الوطنية يندرج في حفظ النفس، وحفظ الدينية يندرج في حفظ الدين.
مهما تكن المقاربة الفقهية التي يمكن أن نصل إليها، إلا أن ثمة إمكانات ـ وليس إمكاناً واحداً – لفهم الهوية الوطنية وإدماجها في إطار الفقه الإسلامي السياسي الحديث، بعد أن بدا واضحاً أن تقديم الهوية الدينية على الهوية الوطنية كانت نتائجه كارثية لا تقل عن حرب أهلية أو شبه حرب، ومع ملاحظتنا لاستمرار عدم الثقة بين أبناء الطوائف والمذاهب في مجتمعاتنا منذ الخلافة، فإن مفهوم المواطنة ربما لن يترسخ بأفكار سياسية في الوقت القريب، قبل أن يترسخ بالممارسة السياسية بعد أن نكّل من القتل وسيول الدماء الجارية بلا حساب في حروب الفتنة.