لندن / عدنان حسين أحمد–
احتفت مؤسسة الحوار الإنساني بلندن بالفنان التشكيلي أمين شاتي لمناسبة مشاركته في بينالي فلورنسا بإيطاليا هذا العام حيث نظمت له أمسية بصرية تحدث فيها عن تجربته الإبداعية التي تمتد منذ قبوله في كلية الفنون الجميلة عام 1984 وحتى الوقت الراهن. كما ساهم في تقديمه والحديث عن تجربته الفنية التي تمتد لعقدين ونصف العقد تقريباً كاتب هذه السطور الذي ركّز على لوحاته الأربع التي سوف تشارك في بينالي فلورنسا، بدعمٍ أساسي من المركز الثقافي العراقي بلندن، كما تناول بعض المؤثرات السومرية في أسلوبه ومنهجة التشكيلي. استهل شاتي حديثه بمقولة لأحد كتّاب أميركا اللاتينية مفادها: “نحن لا نولد حينما تلدنا أمهاتنا، ولكن تجبرنا الحياة على ولادة أنفسنا بأنفسنا ولمرات عديدة”. منوّهاً فيها إلى المخاضات العسيرة التي يمر بها الفنان خاصة، والمواطن العراقي بشكل عام. كما يعني شاتي أن الولادة الحقيقية قد تكون من خلال قراءة كتاب أو لقاء عميق بصديق مهم يقلب ذائقتك الفنية رأساً على عقب، أو دراسة معمّقة لفرع من فروع الأدب أو الفن أو العلم وسواها من أقنية العلم والمعرفة. ذكرَ شاتي بأن الولادة الحقيقية الأولى له كانت حينما قُبِل في أكاديمية الفنون الجميلة ببغداد وقد وصفها بالفرحة الكبرى التي هيمنت على حياته آنذاك لأنها شكّلت البداية الأولى لصقل موهبته الفنية الخام آنذاك ووضعت قدميه على الطريق الصحيحة لكي يقدّم محاولاته الفنية التي انطلقت من حاضنة الأكاديمية في العراق. أشار شاتي إلى أن دراسته في الأكاديمية استمرت لست سنوات في محاولة للهروب إلى الأمام من الحروب “الغبية” التي كان يشنها النظام سواء على البلدان المجاورة أم في داخل حدود العراق، وكان هذا التمديد المقصود في عمر الدراسة هو محاولة جدية للإفلات من السقوط في شرَك الحرب، وكان الأساتذة يعرفون بهذه النوايا، لكنهم كانوا حريصين في تدريسهم للطلبة فلا غرابة أن يطلب منه أستاذه ناظم حامد أن ينفِّذ كل الأشياء المطلوبة التي تخدم مصلحة الطالب، وتطوِّر موهبته الفنية، ولهذا كان شاتي يمحض أساتذته حُباً من نوع خاص، ولا يزال يكّن لهم احتراماً كبيراً على الرغم من تقادم السنوات لأنهم شكّلوا الأساس في صقل موهبته الفنية التي تفتحت قبل ولوجه إلى أروقة الأكاديمية. وبعد تخرجه في أكاديمية الفنون الجميلة عام 1989 التحق بالجيش لتأدية خدمة العلم، لكن هرب لاحقاً لعدم قناعته بالحروب العبثية، ثم أُتيحت له فرصة السفر إلى الأردن عام 1992 لتبدأ رحلته مع المنفى حيث مكث في العاصمة الأردنية عمّان خمس سنوات قبل أن يغادر إلى هولندا، البلد الذي أغدق عليه أشياء كثيرة على الأصعدة الحياتية والمعرفية والفنية فلابد من تقديم الشكر والعرفان لهولندا وشعبها المضياف الذي أحاطهم برياعة خاصة وكريمة. أشار أمين شاتي إلى أنه قد بدأ الدراسة مجدداً في كلية الفنون الجميلة في جامعة سانت يوست في مدينة “بْريدا” عام 1990 بينما لا يزال هو طالباً لحق اللجوء السياسي الذي لم يحصل عليه بعد آنذاك، فقد أمضى ثلاثة أرباع السنة في أحد مراكز اللجوء، وحينما ولج جامعة “بْريدا” في جنوبي هولندا أول مرة شعر بأنه بدأ يحقق أولى أحلامه الوردية التي كانت تغازل مخيلته النقية القادمة من بلاد العذابات والأوجاع المستديمة. كان شاتي يحلم، شأنه شأن غالبية الطلبة العراقيين بالدراسة في الجامعات الأوروبية، وقد تحقق له هذا الحلم حيث درس في جامعة بْريدا، وأُعجب جداً بمواد المنهج الدراسي الذي يختلف كلياً عن المناهج التي درسها في أكاديمية الفنون ببغداد حيث كان التركيز منصّباً على كيفية أن يكون الطالب ملوِّناً أو مخطِّطاً، أما في هولندا فهم يتركون للفنان أن يختار أسلوبه الخاص ومنهجه الذي يريد أن يتبّناه. لفتَ الفنان أمين شاتي الانتباه إلى مسألة في غاية الأهمية مفادها بأنّ الأساتذة الهولنديين يؤكدون بأنّ اللون والتخطيط هما من صلب الواجبات الأساسية للطالب الذي يدرس الفن التشكيلي، إذ عليه أن يخطط، ويرسم الاسكتشات الخاصة به أو ينقل اللوحات العالمية بنفسه حتى يتمكن من هذه المهارات الخاصة بالفنان نفسه، أما في أثناء الدراسة فإنّ عليه أن ينشِّط مخيّلة الفنان، هذه المنظومة المهمة والحسّاسة التي تمكِّنه من البحث في الموضوع الذي يختاره وينهمك فيه وينجز أعماله الأكاديمية الصرف أو غير الأكاديمية. لقد مرّ شاتي بثلاث مراحل حينما كان طالباً في جامعة سانت يوست، ففي السنة الدراسية الأولى انهمك في البحث بموضوع “الحلم” وأنجز عدداً من اللوحات عن هذه الثيمة، وحاول فيها أن يوضّح فيها ماهية الحلم عند الإنسان؟ وهل هو مكمِّل لليقظة أم لا؟ وما هو تأثير اليقظة على الحلم؟ وهل أعاد التوازن لليقظة، أم أن اليقظة هي إعادة توازن للحلم؟ بكثير من المحبة والعرفان أشار شاتي إلى دور أستاذه الفنان الهولندي ثيو فان بيرخن الذي أمدّه بالعديد من العناصر المعرفية التي غيّرت مجرى حياته ورفدته بزخم كبير من رؤية فنية قد تكون مغايرة للرؤية الفنية السابقة التي كانت تستحوذ عليه، كما فرز مؤثراته الفنية السابقة، وطالبه بالخروج من خانق التأثير بغية بناء شخصيته الفنية الخاصة به والتي لا تحيل إلى فنان آخر مهما كان كبيراً أو عظيماً في منزلته الفنية. استمر فان بيرخن على تشجيعيه في تمثّل جدلية الحلم ودعاه للتعمّق فيها مثلما سوف يدعوه لاحقاً لتمثّل اليقظة من جهة، وحلم اليقظة من جهة أخرى. وفي السنة الثانية بحث في موضوع “اليقظة” لأنه يرى اليقظة حياة، فيما يعتبر الحلم موتاً مؤقتاً يمر به الإنسان لمدة سبع ساعات في اليوم تقريباً! وحينما وضع هذه المعادلة بين الموت والحياة اكتشف أن الحياة متوقفة عند بعض الناس فلاغرابة أن يقْدم بعضهم على الانتحار. عرض شاتي بعض اللوحات التي تتناول هذه الموضوعات الثلاث التي نفذها بأساليب فنية حديثة جداً كالتجريدية وبدت فيها حركة اللون مقاربة، وربما متطابقة مع حركة تخطيط القلب في إشارة إلى أنها لا تزال حية أو نابضة بالحياة كما يتمناها الفنان نفسه. بحث شاتي في السنة الثالثة في موضوع “حلم اليقظة”، وهو يعتقد بوجود حاجز شفاف جداً يفصل بين الحلم واليقظة وقد شبّهه بالشَعرة الواهية التي تقف كحاجز في الانتقال من الحياة إلى الموت أو من الموت إلى الحياة، ومن النوم إلى اليقظة، أو من اليقظة إلى النوم. كما أرانا بعض اللوحات التي تعزز هذه التجربة التي يمتزج فيها الفن التشكيلي بالجانب النفسي الذي يكشف عن رؤيته الإبداعية التي بدأت تتجسد على أرض الواقع بطريقة مغايرة لما كانت عليه قبل الولوج في هذه المراحل الثلاث. نوّه شاتي إلى أن هذه الدراسة الأكاديمية المعمقة قد أفادته كثيراً في عملية البحث الرصين لأن أساتذته استطاعوا أن يستفزوا مخيلته ويحرضوها على المزيد من النتاجات الفنية التي تحمل بصمته الخاصة التي أخذت تؤسس لمشروعة التشكيلي منذ ذلك الحين وحتى الوقت الراهن. أكدّ شاتي بأن البحث في الفن السومري خاصة والحضارة السومرية بشكل عام كان يراوده منذ زمن طويل لأنه يعتبر الحضارة السومرية منجماً للفنون المتطورة جداً حتى قياساً بالوقت الحاضر، وربما يكون شاتي قد توقف عند ملاحظة مهمة جداً مفادها الإمساك بالروح الداخلية للأشياء التي ينجزها، وهو يعتقد أن الفنان السومري كان يضع شيئاً من روحه في المنحوتة التي ينفذها، وأشار إلى منحوتة “غوديا”، تمثيلاً لا حصراً، التي نُحتت من حجر صلب اسمه “ديورايت” وهو حجر أقسى من الحديد، لكن الفنان السومري جعل من هذه المنحوتة شيئاً شفافاً يمكن تلمّس رقته وعذوبته الجمالية. وقد استلهم شاتي عملاً فنياً من هذه المنحوتة التي استعار فيها “الإناء النذري” الذي يعتبر أهم مكتشف أثري في حينه. أوضح شاتي بأنه لا يجد حرجاً في استعارة بعض الرموز السومرية وتوظيفها في أعماله الفنية، لكنه يضفي عليها شيئاً من روحه، تماماً كما كان يفعل الفنان السومري، وبهذه الطريقة يقترب أمين شاتي من الفنان السومري متناصاً معه، ومتلاقحاً مع أفكاره ورؤاه الفنية الجميلة التي لا تزال تذهل الناظرين. استعان شاتي بمقالتين نقديتين، الأولى لكاتب هذه السطور، والثانية للناقد التشكيلي محسن الذهبي اللتين تلخصان المشروع الفني لأمين شاتي وتحيطان به من كل جوانبه. وذكر بأن “النقاد أقدر من غيرهم على تسليط الضوء على تجربة أي فنان تشكيلي لأن لديهم أدوات متعددة مثل اللغة، والاصطلاحات التشكيلية، ومعرفة بالمدارس والتيارت الفنية القديمة والحديثة، أما أنا، وربما معي الكثير من الفنانين، فلا نستطيع لعب هذا الدور لغوياً، لكنني أستطيع بواسطة الفرشاة، واللون، والتخطيطات أن أصل إلى ذات المنطقة التي يصل إليها الناقد الفني الحصيف”. وفي ختام محاضرة الفنان أمين شاتي عقّب كاتب السطور على بعض المحطات الأساسية في حياة شاتي الفنية وحثّ الفنان على التخلص من المؤثرات الخارجية حتى وإن كانت لفنانين تشكيلين سومريين كبار لأن المتلقي يبحث بالنتيجة عن بصمة أين شاتي نفسه، ولا يفضِّل أن يسمع أصوات الآخرين تتعالى من أجواف منحوتاته أو أعماله الفنية الجميلة التي تبهر المُشاهدين حقاً. كما سلّط كاتب هذه السطور الضوء على الأعمال الفنية الأربعة التي سوف تشارك في بينالي فلورنسا والتي سأوجل الحديث عنها لأنني سأفرد لها مقالاً نقدياً خاصاً. وكالعادة فإن مؤسسة الحوار الإنساني بلندن تخصص في كل أمسية ثقافية مدة زمنية كافية لجمهورها الموقر الذي تعتبره متلقياً أو مشاركاً عضوياً في موضوع المحاضرة لذلك أتاح كاتب هذه السطور، بوصفه مقدماً للندوة ومديراً لها، المجال أمام مداخلاتهم وأسئلتهم القيّمة وكان من بين السائلين الدكتور صباح جمال الدين، والسيدة كيلاس، والأستاذ سمير الركابي الذين أغنوا موضوع المحاضرة، وأثنوا على توجهات الفنان شاتي، وأعربوا عن إعجابهم برؤيته الفنية العميقة، وجهوده المتواصلة لتقديم الوجه الناصع للعراق الجديد.