العاصمة العراقية بغداد قبل الحرب –
رشيد الخيون –
كنت مدعوًا إلى موسم الجنادرية الأخير، ومِن العادة أن يزدحم بهو الفندق بالكتًَّاب والشُّعراء من السعوديين والضيوف مِن مختلف البلدان. تقدمت مني امرأة منقبة وأهدتني كتابًا، بعد أن سلمت باللهجة العِراقية الصَّافية “شلونك عمو”. كانت معها ابنتها التي تدرس القانون، سألتها: مِن متى أنت بالسُّعودية؟ قالت: لم آت مِن دولة أخرى، أتيت مِن الدَّمام! هل: أهلك عراقيون؟ قالت: لا! حرت بأمرها وهي تتحدث باللهجة العِراقية الجنوبية والبغدادية (القح)، وبحب مفرط للعِراق إلى درجة التَّعصب لهذا البلد! شعرت أن نقابها أخفى دموعها. بعدها أخذت أتصفح الكتاب “حريق الممالك المشتهاة”، وإذا هي رواية عراقية مِن ألفها إلى يائها.
شككت بعدم زيارة كاتبتها إلى العِراق، أو أن لا تكون مِن الأُسر الزُّبيرية، التي تجمع بين الجنسيتين العراقية والسُّعودية واللهجة أيضًا، أو مِن أهل الخميسية بالقرب مِن سوق الشّيوخ فهم مِن أُصول نجدية عراقية مشتركة، ولي بينهم أصدقاء كثر، وربَّما تكون الشاعرة والأديبة بلقيس الملحم منها! لكني قطعت الشَّك باليقين بعد أن قرأت عنها وعن روايتها في صحيفة “الرِّياض” الآتي: “لا يمكنك لوهلة تصور أن مؤلفة هذا العمل الذي يقع في (299 صفحة) لم تزر العراق أبدًا، وهي تكتب نصًّا سرديًّا متكاملاً، بلغة أنيقة وخاصة، تتجول داخل عوالم المكان والمجتمع العراقي. هذا هو نص الكاتبة السعودية بلقيس الملحم والذي تدور أحداثه حول امرأة.
تقول الملحم عن بطلة روايتها في الصحيفة نفسها: “امرأة لم يلتفت أحد إليها؛ ربما لأن النخيل المقطوع الرأس، تشابه على العراقيين، وهي امرأة تبحث عن أسباب موضوعية للموت الذي يختطف العراقيين كتقشير البصل! فلا تجد سوى فتحة النور، والباب الموارب لتستمر في البحث علَّها تجد دواءً شافيًا لمولودها علي، ولابنتها ضفاف، التي شابت قبل المشيب”. وأجابت على سؤال الصحيفة حول ما إذا سافرت إلى العراق قطعًا: لم أسافر إلا في الخيال فقط”! (الرياض 14 مارس 2013 العدد 16334).
تحدثت الملحم معي عن العِراق، كأنه بطل أحلامها، عن تاريخه عن لهجاته، عن مغنييه ومغنياته، عن علمائه، عن طوائفه، طائفة طائفة، ولكثرة ما تتحدث عن الطوائف والأديان بنقاء المحبة، حتى شكت لي ممَن يحاول أن يُنغص عليها هذا الخيال، وهذا الحب باتهامها بالتحول على عدد أديان العِراق وطوائفه! تحدثت عن أرضه كم هي معطاء، عن الماء كم هو فرات عذب، وهي لم تشرب لا مِن دجلة ولا الفرات إلا بالخيال.
نعم أجد العديد مِن المفاخرين بدراستهم في الجامعات والمعاهد العراقية، ويحرصون على سماع الأغاني العِراقية، ولم ينسوا الدراسة والصداقة مع اللغوي محمد مهدي المخزومي (ت 1993)، وعلي جواد الطَّاهر (1996) وغيرهم العديد، وإذا تحدثوا عن المدرسين العِراقيين تحدثوا بتقدير عالٍ لالتزامهم وباعهم العِلمي، سواء كان في المدرسة الثانوية أو الجامعة. لكن حتى الذين عاشوا هناك ودرسوا ليس لديهم هذه التفاصيل، بداية مِن الأهوار، في أقصى الجنوب، وحتى الجبال في أقصى الشِّمال، إنما ذكريات يعتزون بها ولا تهمهم كثيرًا التفاصيل.
كانت بلقيس الملحم تتحدث عن العراق بعبرة وغصة، نشعر بها نحن الذين هاجرنا مِن زمن وتركنا خلفنا أماكن وذكريات لم يبق منها شيء؛ فقد غطاها غبار الهجران والخراب، عندها تضيع الكلمات في حشرجة الحنين والألم. لذا حرصت على قراءة روايتها وكنت أظن أنها تبدأ بفصل داخل العِراق، ثم ترحل البطلة وتتم الفصول الأُخر ببلدان أخرى، لا تستمر تتابع الشَّتات العِراقي في الداخل والمهاجر. هذا ما كنت أتوقعه وأنا انتهي مِن فصلها الأول.
كانت بلقيس الملحم في ورايتها (حريق الممالك المشتهاة) تتحدث عن العراق بعبرة وغصة نشعر بها نحن الذين هاجرنا مِن زمن وتركنا خلفنا أماكن وذكريات لم يبق منها شيء؛ فقد غطاها غبار الهجران والخراب
لكن الفصول كاملة كانت عراقية في تلك الدروبنة مِن درابين شارع الرَّشيد، الذي استحضرت الكاتبة أسماء محلاته ومحاله التِّجارية وما آل إليه. في الرواية تحضر البصرة والنَّاصرية، والوجوه المسيحية والسُّنية والشِّيعية وأقوام العراق الأُخر، الوجوه التي تكحلت عيونها بسواد الحرب العِراقية الإيرانية وبالدكتاتورية وبالقتل على أساس الهوية. اعتقال المرأة وشرود ذلك الرجل، الذي يراد منه الاعتراف، ويعترف بما يريده المحقق ويمليه عليه.
سألت بلقيس: هل هناك صداقة لأسرة أو شخصية زودتكِ بهذه العاطفة العِراقية؟ فأحيانًا يحصل أن تحب البلد لذكرى مِن أحد مواطنيه أو مواطناته؟ لكنها نفت وقالت أنا كنت أبحث عنكم! وأنتم لا تعرفونني. كنت أُتهم لأجلكم، وأعاند الاتهام بعاطفة أكثر لكم؟ أين أنتم وأين بلدكم الأصيل بتاريخه؟ كانت ابنتها تسمع الحوار ولم يكن لها لا عمومة ولا خؤولة عراقية سوى ما خلقته والدتها في الخيال، وفرضت عليها خيال وطن عليها أن تحبه أيضًا، بما بين الأم والبنت مِن سرٍّ!
في صباح أحد الأيام مِن قبل شهور أيقظتني زوجتي على نبأ: قتل بلقيس الملحم؟ لأنها تدافع عن الأديان والمذاهب! ففزعت مِن النبأ، بتفسير أن حب العِراق يمكن أن يجلب المتاعب لمحبيه حتى القتل! لكن وجودها في مواقع التواصل الاجتماعي كذب النبأ، وما أحببت أن أُقلقها بما سمعت.
أكملت الرواية، مع أنني قلما أقرأ الروايات وبمواصلة، فالوقت لا يسع، وتمنيت قبل قراءتها أنني ما سمعت منها أو قرأت في الصحافة عن عدم عراقيتها وعدم زيارتها للِعراق، فقد أفسدت هذه المعلومة عليَّ قراءة الرواية، والنظر في أسلوبها وتركيبتها الفنية الجاذبة، فكنت مشغولاً بالمفارقة والغرابة، كلما ظهر اسم زقاق أو شارع أو كتاب أو شخصية.
لا يهم عندي معرفة الأسماء مِن أحياء وأزقة وحوادث تاريخية، ممكن معرفتها مِن أشخاص أو مِن الكتب، لكن اللهجة العِراقية التي سُردت بها الرِّواية، وكأني أقرأ رواية للعراقي سمير نقاش (ت 2004)، فكان يكتب بلهجة بغدادية صافية، أو لغيره ممِن كتبوا أو كحلوا سردهم بتلك اللهجة. بل تشعر وأنت تقرأ الرواية بقلق كاتبتها على العِراق، على تشظيه، تنزل إلى أغوار تاريخه مرورًا بمأساة كربلاء وحزن النَّاس النبيل عندما يمر هذا الاسم، على مسيحييه وعلى يهوده الذين مازالوا يحملونه في أفئدتهم. حتى لو نفترض أن ملقناً أفاض على مؤلفة الرواية بالألفاظ والحكايات، لكن هل العاطفة تُلقن أيضًا؟
أكتب هذا، وأعتذر مِن صاحبة الرواية، العِراقية وما هي بالعِراقية، لأنني لا أُجيد النَّقد الأدبي، ولا أريد التجريب بهذا الشَّأن، كي أتوقف عند فنها في السّرد، بقدر ما أقول: بدأت بقراءتها ولم أتركها حتى انتهيت منها. بلقيس الملحم تستفزنا، نحن العِراقيين، في روايتها بقولها لنا: بلادكم ليس مثلها بالبلاد، أوقفوا خرابها! ليس مِن أجلكم فقط بل مِن أجل مَن يحبكم ويحبها! فالعنوان صارخ بالحب، وصارخ بالخوف والقلق أيضًا: “حريق الممالك المشتهاة”!