رشيد الخيون –
طرق الباب على المعمار محمد مكيَّة موظف مِن تشريفات القصر الملكي البريطاني (بكنجهام)؛ كي يتشاور في موضوع الرسالة التي عادة تبعثها الملكة إلى مَن يبلغ من العمر مئة عام، وبعد رؤية الوثائق مِن جواز السَّفر وغيره، للتأكد مِن بلوغ القرن مِن الزَّمان، قدم الموظف سؤالاً للدكتور محمد مكية، واعتبره مِن أهم الأسئلة، وربَّما زيارته تتعلق به أولاً وأخيرًا: هل توافق على استلام رسالة ملكة بريطانية وإيرلندا الشِّمالية بمناسبة بلوغك المئة عام؟
استغرب نجله الكاتب العِراقي المعروف كنعان مكيَّة مِن السُّؤال، لماذا كان مِن أهم الأسئلة؟ كان الجواب: يوضع في الحسبان قد يكون لديه تحفظ مِن استلام الرِّسالة، فهي رسالة ملوكية، ومِن حقه رفضها. ففسرناها: لعلَّ أحدهم يستلم الرِّسالة وإن في نفسه شيئًا، فيكون هناك إحراج، عندما يُكتب أو يُقال رُفضت الرِّسالة. أما محمد مكيَّة فأجاب على السُّؤال بابتسامة واستغراب، ولعله الأكثر استغرابًا لهذا التَّصرف وهو القادم مِن بلاد يُفسر فيها رفض الرِّسالة مثل هذه بإشهار عداوة، وتُبنى عليها مواقف إذا كانت بين شخص وآخر ! فكيف إذا كانت بين حاكم ومحكوم!
بطبيعة الحال، لم يُخص المعمار محمد مكيَّة لوحده بهذه الرِّسالة، ولا بهذا السُّؤال، فكلُّ إنسان -مهما كان انحداره الاجتماعي والبلداني ووظيفته وصناعته ولونه ودينه ومذهبه وقوميته، ويعيش ببريطانيا، وبلغ القرن مِن الزَّمان- يُخص بهذه الرسالة، ويُسأل السؤال نفسه.
على حدِّ علمي أن عراقيَين اثنين، مِن الذين أعرفهم، تسلما هذه الرِّسالة، أولهما الوزير في العهد الملكي (109- 2010) عبد الكريم الأزري، الذي يعيش ببريطانيا بعد ثورة 14 تموز 1958، وشغل منذ الثلاثينيات وظائف مهمة كتشريفات القصر الملكي ببغداد، في الثلاثينيات من القرن الماضي، وإدارة المعارف، وآخر المناصب كان وزيرًا للمالية. أما الثَّاني فهو المعمار محمد مكية. أتذكر الأزري وكان يربو على الخامسة والتسعين سايرته لشراء بطاقات تهنئة يبعثها لأصدقائه في أعياد رأس السنة، وقد اختارها لمزاج كل منهم. كان يلتفت عليَّ بين الحين والآخر ويقول: أنت أقل مِن نصف عمري.
وصل محمد مكية إلى لندن العام 1935 ببعثة دراسية، سبقه إليها عبد الكريم الأزري، ورئيس الوزراء الأسبق عبد الرَّحمن البزاز (ت 1973) ووزير الزراعة الأسبق عبد الغني الدَّلي (2011)، وآخرون يربو عددهم على الخمسين، وما إن أنهوا دراستهم شدوا رحالهم وعادوا إلى العِراق، وبهم ومِن القادمين مِن بعثات ألمانيا وفرنسا وأميركا نهضت البلاد نهضتها الكبرى. وبعد دراسة العمارة في ليفربول وكامبردج عاد (1946) إلى العِراق، وتسلم هناك مهام في البلديات، ثم أسس وترأس قسم الهندسة المعمارية في جامعة بغداد منذ 1959.
عندما يتحدث محمد مكية عن الماضي العراقي الغابر يحول لك تلك الأراضي الجرداء، حيث بقايا خرائب سومر وبابل وآثور، إلى حواضر تعج بالحياة والحركة، وكأن لم يغادرها ملوكها، مِن نرام سين وحامورابي إلى آشور بانيبال، أو أن طريق الحرير مازال حيًّا مِن الصِّين إلى العِراق. يحدثك عن ساحل دجلة، بما لا علاقة له بحاضره، على أن الحاضر ظرف طارئ ويزول، وعليه تسجيل ما يُقرأ بعد خمسين أو مئة عام، المهم أن الخواطر تسجل في ذاكرة الورق قبل زوال أصحابها.
يصعب عليك متابعة حديثه، فهو معماري منظم فكره على الخطوط والزوايا لا على عبارات الكلام، يعتقد في داخله أن حديثه واضحًا. أتذكر لامني الصَّديق الباحث محمد حسين الأعرجي (ت 2010)، كوني قريبًا من مكيَّة ولمَ أكتب خواطره، وهذه الأفكار الغزيرة والعميقة لديه، وكنَّا نسمعه معًا! وكنت سجلت معه أحاديث طويلة، على أمل أن تصدر كمذكرات، لكن مكيَّة عندما يرى كلامه قد تحول إلى كلمات مكتوبة ويقارنها بما يفكر في داخله يرفضها؛ لعدم المطابقة، فتركنا الموضوع لسنوات، حتى تدخل نجله كنعان وأصدرناها على مضض تحت عنوان “خواطر السنين” عن دار “السَّاقي” (2005)، وقد أشرت في المقدمة إلى صعوبة أخذ الحديث منه.
بازار تبريز أحد المشاريع الحاصلة على جائزة الأغاخان للعمارة 2013، وفي الأطار محمد مكية
حينها قلت للأعرجي -وكان قادمًا مِن بولندا- لو تجلس أنت معه وتتولى المهمة، وبالفعل جلس معه، لكنه لم يتمكن مِن إنزال الكلام والتعبير عما في داخل المتكلم، فسلمني التسجيل معتذرًا؛ لكثرة الإيماءات في كلامه، واللازمة التي لا تفارق لسانه “والترتيب”، وعليك أن تفهم ماذا يقصد عندما يقولها. فمحمد مكية ظاهرة معمارية، يعبر بأفكاره بالخطوط والحجر والطين، وهو مِن المعماريين الذين يعملون بأيديهم لا بفريقهم عند بداية التصميم، وهنا يأتي الإبداع بين الجهد باليد لا بالمكتب.
شأنهم في ذلك شأن الباحثين، الذين يعملون بأيديهم كلَّ شيء، لا يعتمدون على موظفي المكاتب أو التَّلاميذ، فالمساعد يأتيك برواية أو خبر، لكن لا يلاحظ ما في صفحات الكتاب مِن أشياء أخرى. أجد هذا الفرق أيضًا بين استخدام الكتاب الإلكتروني بالبحث، فهو يجد لك المعلومة المطلوبة بسرعة وبلا عناء، لكن لا يسمح لك باقتناص غيرها، وهنا يتحدد اجتهادك ويتقلص علمك، ليس كالكتاب الورقي الذي تصطاد خلال البحث فيه ما ليس على البال والخاطر.
تعلق محمد مكية بمشروع جامعة الكوفة (197-1968)، وحصلت الموافقة مِن رئيس الوزراء طاهر يحيى (ت 1986)، وكان معه أكاديميون وعلماء كلٌّ في اختصاصه، وبينهم العلامة علي الوردي (ت 1995)، على أن تكون شبيهة بالجامعات الدُّولية الكبرى، فالكوفة دار حضارة قديمة، وتقع على الفرات أو ملتقى الطرق، حسب تعبير مكية نفسه، لكن انقلاب 17 تموز 1968 قضى على مشروع الجامعة الأهلية الأولى مِن طرازها، مِن حيث الاتساع في المهام، وما أقيم بهذا الاسم، في ما بعد، ليس له صلة لا مِن بعيد ولا مِن قريب بذلك المشروع.
ولأن الفكرة ظلت تراود مكيَّة، استقر بلندن وأنشأ ما سماه بديوان الكوفة (1986-2006)، كان ملتقىً للثقافات والمثقفين. عشرون عامًا كم استضافت صالته مِن ندوات ومحاضرات ومعارض تشكيلية، والبداية كانت كمكتب هندسي، آخر الجوائز (1994) التي فازت بها تصاميم محمد مكية تصميم بيت العدل بالرِّياض، أو مجمع المحاكم، بعد منافسة مع مكاتب دولية، وهو ما زال يسأل هل السُّوق الشَّعبي ظل يُجاور البناء، وكان له قصد فيه، وهي فكرة عميقة الدَّلالة، فالعدل يهم النَّاس فيكون البناء نابعًا بينهم متواضعًا لهم. أما تصميمه الأشهر ببغداد فهو جامع الخلفاء (أُفتتح 1963)، الذي شُيِّد على بناء الجامع العباسي القديم.
إن الحديث عن المعمار محمد مكية، في مئويته، -أطال الله بعمره- ذو شجون وشؤون، فصحبة ما يربو على العشرين عامًا، كنت أسمعه فيها لا تفي بها مدونة، وهو ما زال يسأل عن خرائط جديدة لبغداد والمدن العِراقية، ليضع تصاميم ربَّما ستنفذ يومًا ما، بعد أن تستفيق تلك المدن والقرى مِن خذلانها. كانت التفاتة جليلة مِن المعمار والباحث في تاريخ العمارة وفنها خالد السُّلطاني في تبني بيان بمناسبة بلوغ مكيّة المئة عام، أمضاه معماريو وباحثو وأكاديميو وفنانو العِراق، على أمل أن تُقام ندوة خاصة بالمناسبة.