لينا أبوبكر –
أقصر الطرق إلى سدرة المنتهى –
المحبة.. أمّ السعادة –
عليك أن تُغذي ذئبك الطيب جيدا لكي تنصره على ذئبك الشرير…
ولكن لماذا؟ أليست المحبة بشرا مثلنا؟
في عُرف قبيلة الشيروكي – إحدى قبائل الهنود الحمر – يتجه التحليل النفسي للنوازع البشرية إلى الاستعانة بالحيوان ليقرب علم الأخلاق إلى الذهن بمنظوره البدائي الطازج، وارتباطه بالطبيعة وعناصرها، ومن هنا تكون المحبة ذئبة، ولكنها ذئبة تشبه – إن أردت – صورة الإلهة الصينية (Kuan Yin)، إلهة الرحمة، التي يبدو وصفها في الأساطير أقرب إلى وصف كائن مقدس مندغم بالذات البشرية، لا بل منبعث منها، وهو طقس مونولوجي، يوحي إليك في ظاهره بأنه ممارسة شعائرية، لكنه في حقيقة أمره استجابة لنداء الوعي الباطن، في حالة تقمص الألم استدراجا لحالة الاستشفاء منه بنقيضه، متمثلا بالإعجاز الألوهي، يعني تماه مع الإنسان – الإله في العقيدة المسيحية، فهل المحبة بشر مثلنا؟
بين أن تربي ذئبا طيبا، وأن تفطر على الصلاة للرحمة، فلسفة مُعجزة تتعامل مع القيمتين من وجهتين: الطفولية أو الخارقة… يعني ضمن مستويين: عمودي وأفقي، وكلاهما قابل للذوبان في محلول تأملي مختبره العقل!
صدق إذن الفيلسوف سورين كيركغور (كيركيغارد) عندما راهن على قطبي القوة والضعف في مفهوم المحبة أو الحب بمعناه الشمولي، فمن يصاب به يصبح أقوى من العالم وأضعف من أي طفل، ولهذا أصر فريدريك نيتشه على تعلم الحب، فالحب بهذا الإصرار ليس تركة أو جينا وراثيا، إنه إرادة!
آفاتار قمر الباندورا
إنه فيلم الخيال العلمي «آفاتار» الذي أنتجته هوليوود عام 2009 للمخرج جيمس كاميرون، والذي ارتكز على صناعة كائنات بشرية بنسخ «آفاتارية» لها هيئة الكائنات الفضائية التي تسكن كوكب «باندورا» وتتمتع بالأمن والاستقرار والمحبة، في عملية غزو فضائي، أو قرصنة تهدف إلى سرقة معدن ثمين في ذياك القمر، غير أن الأمور تسير لصالح المحبة التي يصاب الآفاتار بعدواها، ويناضل في سبيلها مع سكان الكوكب، الذين اتخذوا من الكراهية عدوا لا يؤذي سوى صاحبه، فهل كان كونفوشيوس على حق عندما اعتبر أن السهولة في الكره تذلل الصعاب، بينما تصعب المحبة وتتعسر إليها السبل؟ وهو اكتشاف سياسي متأخر لآيزنهاور الذي كره الحرب كوسيلة وقائية، وسعى إلى الخلاص منها بالدعوة إلى خوضها كأنه يسخر من نظرية التجربة لاستخلاص البرهان!
أنت لا تحتاج إلى وضع يدك في النار كي تتأكد أن النار حارقة، يكفي أن ترى غيرك يحترق بها لتتجنبها، وهنا فقط تكتمل التجربة!
بين الرسالة والرسالة
يرتبط العمل الصالح في الدين الإسلامي بكسب ود الخلق، كهبة أو مكافأة إلهية ينعم بها الله على خلقه حسب الآية الكريمة «96» من سورة مريم: «إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات سيجعل لهم الرحمن ودا»، وهي بالضرورة نعمة ثلاثية الأبعاد، تبدأ من الإرادة الحرة للإنسان باختيار عمله، لينتقل إلى البعد الثاني وهو تقدير ربه لاختياره، ثم تفعيل هذا التقدير بالود، وربما يعبر عن هذا بيت الشعر الذي يرى «أن البغيض له عين يصد بها» بينما «عين ذي الود لا تنفك مقبلة»، بالتالي فإن الطبائع تدل على هيئة من تطبع بها، كأنها بطاقة هوية لصاحبها، فإما أن يكون مصابا باضطراب انفعالي ونفسي يضعف الاستجابة للقيم والمعايير الأخلاقية، ويؤدي إلى الانفصام أو التوحد والعزلة، ثم الانقطاع والعنف، كما يضعف شبكة علاقاته الاجتماعية، ينزوي في دائرته النفسية السوداء، التي تؤثر بالدرجة الأولى عليه ليتلقى كدمات الفشل واليأس والاغتراب على يديه، وهو تعبير عن مفهوم الاستغناء الذي يحيل إلى الطغيان كما ورد في الآية الكريمة: «إن الإنسان ليطغى» فيضر ويفسد حين يتجاوز حدود الخير والمنفعة لأنه وهمي قوا مه الشر الأحمق، ينجم عن خلل في التربية أو النظام الاجتماعي الذي أفرزه، ليضطرب به نموه العصبي وأنماطه السلوكية التي تشل طاقتة الإيجابية طالما أن إعاقته الذهنية تحرك ذاتويته «Autism»، وهنا تحديدا تصبح الكراهية هوسا تصل عند «نيتشه إلى درجة المرض» بالتالي التخلف والجهل وثقافة الجريمة، وإما أن يحدث العكس، فينعم بخاصية التواصل بين البشر والامتداد ضمن تحالف قيمي سام، لا يكره به سوى الكراهية على طريقة «جان كوكتو»، ويلبي دعوة الحديث الشريف إلى نبذ نقائض المحبة فـ «لا تباغضوا»، حينها يكون بمقدور الفرد أن يرى الوجه الأجمل للمحبة عند سبينوزا، إنه السعادة التي تشكل بنيانا اجتماعيا مرصوصا قوامه الوحدة والإبداع!
المنهج القرآني الذي يراعي الأسس الكلية للسعادة رغّب بالعمل الصالح لجني ثمار الطيب في الحياة، ودعا إلى المحبة في عبارات صريحة مباشرة، منتصرة لأصالة السلوك وفضائل الضمير التي لا تحث صاحبها على عقيدة حرمان الآخرين من نعمتها، لأنها من بواعث الأمل والتفاني، فـ «أما الذين سُعدوا ففي الجنة خالدين فيها».. المحبة هي طاقة الفرح التي تشرح الصدور، هي رأس الحكمة التي تعبر عن مخافة الله بحبه، وحب الآخر، لكي يحب المحب نفسه ولا يحتقرها..
المحبة إذن هي الرسالة، هي الثقة بالوجود، بالذات، بالإله، هي الكرامة، الكبرياء، إنها ماكينة روحية تشحن العزيمة بطاقة البناء وعمارة الأرض، المحبة هي أقصر الطرق إلى سدرة المنتهى…المحبة هي لغة الله، فما أعذب اللغة !
جريدة الاتحاد الاماراتية
05 مارس 2015