ادريس هاني
كم بات مثيرا للشّفقة أن ننعت المثقّف المشتبك مع قضايا المجتمع بالانعزالية والسكنى في الأبراج العاجية، وكأنّ هناك من هو أكثر حضورا منه في الميدان، حيث يُمَكِّنُ الخطاب اليومي للكفاح بمفهمة تداولية لا يمكن الاستغناء عنها. سيكون من باب المفارقة أن نستعمل عبارات المثقفين أنفسهم في محاولة استبعادهم، ونتهجّى المفاهيم التي خرجت من جّبتهم ضدّهم. هذه موضة بالية تجعل المثقف، وأعني به المثقف المناضل غير الانتهازي، لا يلجأ للبرج العاجي إلاّ حين يُبتلى ببيئة يحتل الجهل المركب فيها دور المخلّص من الجهل البسيط.
يستطيع المثقف المناضل أن يبارز المثقف المزيّف بأدوات المعرفة وفلسفة الحقيقة، لكن ماذا حين يحاول سقط متاع التاريخ البشري أن يستهين بدور المثقف ورسالته وحتى المفاهيم والمنهجيات التي يتكبّد وعثاء السفر إليها؟ إنّ واحدة من مؤشّرات الأمم هو هذا الاستهتار، لم تكن مجموعة من النخب المثقفة المناضلة في فرنسا مخطئة حين أهدت ساركوزي يوما باقة من كتب لفلاسفة فرنسيين ليتعلم أن يقرأ نظام الخطاب وقواعد التفكير حتى فيما يعتقد أنّه قطاع إقطاعي للسياسة المجردة من كل وعي ومفهوم. تُعرف قيمة الأمم بمقدار المسافة التي تبعدها من التّوحّش، ويعتبر فعل الاستهتار بالمثقف علامة على بقايا التوحّش في أذهان أكثر من يحاول كالبهلوان امتطاء حلبة التحاجج بقبضات رخوة مع مثقف معني بقواعد الحجاج ومكامن المغالطة.
في تجارب الأمم، كان المثقف يوجد في الطليعة، ليس طليعة إنتاج المفاهيم فحسب، بل وأيضا في طليعة التغيير، لكن خصوم المثقف هم أكثر بكثير من خصوم المناضل المجرد، فخصوم المثقف قد يكونون من داخل البيئة نفسها، ومعاناته مضاعفة، لأنّ مرض السّباق على المواقع أفسد العقول أيضا وليس النفوس فحسب.
الاستهانة بالمفاهيم هي واحدة من تجلّيات الجهل المركب، وتجلي للضحالة، حيث من أبرز المفارقات أيضا أن يتم التعاطي مع المثقف – بمن فيه المناضل – كفاقد للرشد أو عديم الخبرة، في محاولة مخاتلة لتمجيد الجهل والزّيف. يستعمل البعض وصف البرج العاجي لحشر المثقف خارج حقيقة الواقع وواقع الحقيقة، جاهلا وليس متجاهلا أن هذا الوصف نفسه خرج من قريحة المثقف، من شارل أوجستان سانت بيف في إحدى قصائده في بدايات القرن التاسع عشر ، وقد استعمل قبله في سفر نشيد الإنشاد حيث يقول سليمان: “عنقك يشبه برج عاجي”، واستعملت فنيا في إيقونات حصن مريم الحصين، وتشير إلى النّقاء.
وأعني بالمثقف من يخضع الأشياء والأحوال لمفهمة دقيقة ولرؤية تختزل الآماد البعيدة للحدث، يتحرك في الآماد التاريخية للحدث، ما كان عللا من قبل ومآلات في المستقبل، ويسافر قدر ما أمكنه حدسه وخبرته المعرفية في تعقيد الظاهرة ولا يسمح بملامستها عنوة من دون اختبارها في غرفة عمليات العقل المحض، ووفق نظام مقولي اجتمعت في تطويره الجماعة الأكثر استيعابا للحدث.
الواقع في نظر المثقف المناضل يُدْرَكُ من أكثر من زاوية، والمنظور المستعمل متطور يرصد ما يقع في المدى البعيد، والأدوات التي يبني بها استنتاجاته من الدّقة والشمول ما يفوق غيره. وطبعا، تتفاوت نظرة مثقف عن آخر، بل المثقف المعني هنا ليس من تأبّط معارف تتيحها المؤسسة التعلّمية التي جعلت فعل احتياز المفاهيم غير مشروط بحسن تدبيرها، بل أعني المثقف الحقيقي الأكثر ارتباطا بالواقع، لأنّ الواقع يهمّه أكثر من غيره. هذا المثقف قد يصعد البرج العاجي لينظر إلى الأبعد، وقد يتفادى التشويش الذي يحدثه القطيع لينصت أكثر لصوت الحقيقة، وأحيانا يصعد البرج العاجي ليعتزل بيئة غير قابلة للوعي، في محاولة للنجاة بوعيه بعيدا عن عدوى الاضمحلال، وقد يفعل ذلك ليعيش وعيه وحده بعد أن يعجز عن تقاسمه مع من يشعرون بالاستغناء المُغالط عن دور المثقف في الحياة العامّة، مع أنهم أكثر استهلاكا لما ينتجه من مفاهيم.
ادريس هاني:13/3/2021