إن مصطلح المثقف ما زالت الضبابية تكتنف مجاله الفكري والنظري ومضمونه المعرفي والاجتماعي، ومازال يعد قضية خلافية لم يتم تحديد مضمونها. فهناك العديد من التعاريف، التي بمجملها تصب في أن المثقف هو منتج نشاطات فكرية وروحية يمارس دوره في سياق المعرفة المتاحة، ويملك القدرة على التفكير، واستنباط الأفكار، وإنتاج التصورات والرؤى، ويعي دوره ويحدد ما عليه أن يقوم به في مجتمعه. وله القدرة على اتخاذ الموقف. ولكن يبقى السؤال من هو المثقف ؟ وما هو موقعه الحقيقي في التراتيبية الاجتماعية التي يتشكل منها أي مجتمع ؟ ومن ثم أين يقف المثقف في مسيرة الكفاح الشاملة ؟ وما هي معايير تحديد المثقف ؟ هل هو ذلك الفرد المنبعث من حركة المجتمع وتطوره الفكري والمعرفي والمادي. أم كما عرفه غرامشي بأن كل إنسان مثقف، وإن لم تكن الثقافة مهنة له، وذلك لأن لكل إنسان رؤية معينة للعالم، ومستوى معيناً من المعرفة والإنتاج الفكري، فيتسع مفهوم المثقف ليشمل العلماء والمفكرين والأدباء والكتاب والمبدعين والفنيين والأطباء والمهندسين والمديرين ورجال القانون والموجهين والإعلاميين والصحفيين والطلبة وما أشبه ذلك. هذا التعريف فيه مبالغة واضحة إذا جاء بهذه الصيغة بأن: (جميع البشر مثقفون)، ولكنه استدرك بأن: (جميع البشر لا يمارسون وظيفة المثقفين في المجتمع).
وبما أنه ليس أي مثقف يستطيع أن يفعل ويؤثر في حركة تطور المجتمع، فيمكن الإشارة إلى ثلاثة أنواع من المثقفين:
1- مثقف السلطة، الملتزم الذي فقد مضمون المثقف، لأنه فقد مقوماً مهماً من مقومات المثقف وهو النقد.
2- مثقف واع، مناهض للسلطة. يناضل دفاعاً عن الحقيقة بكل قواه، فمصلحة بلده ووطنه تأتي قبل منافعه الخاصة، ولا يتراجع عن مواقفه هذه، ولو كان مصيره القمع والاضطهاد والسجن، أو مغادرة الوطن، وذلك لأنه أبى أن يمنح كلمته وموقفه للسلطة.
3- مثقف يخضع لمحاولات السلطة الاحتوائية، فيروّض مواقفه ويُدجّن كلمته، فيعيش الحياة الثقافية مدّعياً الحياد والموضوعية.
ويرى أركون أن العلماء من رجال الدين هم مثـقـفون ، لأنهم يكرسون كل جهودهم وكل انتباههم لـتـفـسير معنى الوحي، ولتحديد المعاني الـدقـيقـة للنصوص المقدسة.
ويمكن القول بأن المثقفين بشكل عام، ضمن ثلاثة مستويات 1- المثقف الذي يعرف شيئاً من كل شيء (المطلع). 2- المنظر، وهو من يمتلك القدرة على فهم الفكرة وتوصيلها للآخرين. 3- المفكر الذي يستطيع انتاج الفكرة وتطويرها (المعرفي).
أما علاقة المثقف بالسطة فإنها قد قامت بمعظمها على طرفين حادين، إما في وضعية التواطؤ والتبعية والتبرير، أو في وضعية الصراع والعصيان والإدانة. وأن كلا من هاتين الوضعيتين قد اتخذت مضموناً وشكلاً خاصين بطبيعة المرحلة والعلاقات الاجتماعية التي احتضنت وأفرزت السلطة والمثقف في علاقتهما المتداخلة والمتكاملة، أو المتنافرة والمتناقضة.
وأما علاقته بالمجتمع فإنها من النوع الجدلي، ولا زالت هناك أزمة وإشكالية في تحديد الدور المطلوب من المثقف تجاه قضايا المجتمع.، لأن بين المثقف والمجتمع علاقة أكبر من مجرد علاقة بين فرد وكيان جمعي ينتمي إليه. فهي علاقة بنيوية، بين البنية الثقافية والبنية الاجتماعية، بين الحقل الثقافي والاجتماعي.
المشهد السياسي الحالي في العراق:
إن الرؤية الواقعية للمشهد السياسي في العراق اليوم تتكون من جبهتين رئيسيتن الأولى تمثل الطيف السياسي المساند للعملية السياسية، وهذا الطيف بكل تناقضاته يريد للعراق أن ينهض ويتعافى من مشاكله. أما الجبهة الأخرى، تريد إلغاء العملية السياسية، قوى ذات أهداف عدوانية، متمثلة بقوى الارهاب، القاعدة وداعش وغيرها من الأطراف التي ساندت هذا التوجه.
فإزاء هذا المشهد السؤال يطرح نفسه: ما هو دور المثقف اليوم من هذه المعادلة ؟ هل يفضل أن ينأى بنفسه ويركن في عزلته أم يشق طريقه في مجرى النضال وفق المشتركات التي تجمعه مع باقي القوى التي يهمها أن يخرج العراق من أزمته.
إن أغلب المؤشرات تشير إلى أن المكان الحقيقي للمثقف هو الشارع والعمل بين الجماهير، وإن وظيفته الأساسية هي التغيير، والتغيير المادي في المجتمع يبدأ من التغيير في منظومة المفاهيم والأفكار والقيم. والقادرون على التغيير والفاعلون فيه ثلاثة أصناف: صاحب القرار وهو رجل السلطة، والمثقف ذو الفكر النير وقوة الإقناع، والمواطن الذي يؤمن في قرارة نفسه بأحقية التغيير وضرورته.
إن ممارسة عملية الإصلاح والتغيير، تعتبر مساهمة حقيقية في سبيل إيجاد حل جذري للمشكل الإجتماعي السياسي في العراق، وخلق أرضية واعية تتفاعل مع المتغيرات المتطورة. ومن أجل أن يُحقق المثقف هذه المكانة المرجوة، عليه بالمتابعة المستمرة للمتغيرات المؤثرة، وفهم الواقع لإعطاء رؤية ناضجة تنسجم مع حركتة.
العوائق التي تقف أمام المثقف العراقي اليوم، منها:
1- إن الأزمة التي يعيشها العراق اليوم ليست وليدة الصدفة، وإنما هناك جملة عوامل تفاعلت وأنتجت الوضع الحالي، أهمها: – التركة الثقيلة من النظام الدكتاتوري السابق. – واستراتيجيات الاحتلال في إعادة بناء السلطة وفق منطق المحاصصة الطائفية والاثنية. – وممارسات قوى الاسلام السياسي التي هيمنت على السلطة ودورها في اعاقة قيام دولة المواطنة.
2- الاقرار بأن قوى التيار المدني ضعيفة في المجتمع ولا يمكنها التصدي للقوى المتطرفة من الاسلام السياسي المتنفذة لكبر مساحة تأثيرها وحجم التابعين لها. وبهذا فإن كل ما يطرحه المثقفون يضيع في لجة المتسيد من المتحدثين، في ظل اعلام وقنوات مجيرة لصالح القوى المتنفذة المستفيدة من سيادة مبدأ المحاصصة الطائفية والاثنية.
3- قوى الاسلام السياسي بشكل عام تسعى للاستحواذ على السلطة، ولهذا تعمل على إبراز قدراتها في المناورة وتغليف توجهاتها بإطار الدين، أي توظيف الدين من منطلق طائفي لأغراض سياسية. تارة تلجأ للسياق السياسي مستخدمة الدين في الوصول إلى الأهداف السياسية، وتارة في استخدام السلاح من خلال المليشيات. وأخيراً تمكنت بعض قوى الاسلام السياسي من الاشتراك مع المؤسسة العسكرية لتحقيق مكاسب سياسية.
4- غياب الفكر المنهجي الموجه لشريحة المثقفين، أي لا توجد جبهة فكرية توحدهم بمواجهة الأفكار المتطرفة.
إن الواقع الحالي لدرجة قرب أو بعد المثقفين من المجتمع يؤكد أن هذه الشريحة هي المعول عليها في تنوير الرأي العام، فالمثقف المصلح، المثقف الإيجابي، هو الذي يعيش في صلب المجتمع ويحمل له رسالة الإصلاح والتغيير، ويتحمل الصعاب في سبيل رسالته، ودفاعاً عن حقوق الناس.
وبما أن مساحة تأثير الخطاب الديني المتطرف هي الغالبة في المشهد السياسي الحالي، يتطلب من المثقف أن لا يقف مكتوف الأيدي، بل يجب أن يقوم بدوره، وعليه أن يبحث في آليات ايجاد المشتركات الوطنية التي تجمعه مع القوى الأخرى ذات النهج الوطني، والعمل على ايجاد سبل التقارب مع المثقفين من مختلف التوجهات من خلال المشتركات الكثيرة منها:
– التوعية بأهمية التعليم وكيفية القضاء على الأمية.
– حقوق الإنسان يمكن أن يتم العمل من خلالها في تقويم عمل السلطة.
– توسيع مجالات الاحتجاج الشعبي في مواجهة فساد قوى الاسلام السياسي على اسس شرعية ووطنية.
– تشجيع العمل على المشاريع الوطنية التي تسهم بالقضاء على البطالة وتعزز من مشاريع التنمية الاقتصادية والبشرية.
– تفعيل الدعم الحكومي للمزارعين وشراء المحصول الوطني من قبل الدولة.
– المطالبة بتفعيل مجلس الخدمة الوطني لمحاربة المحاصصة.
– المطالبة بتوزيع هامش من عوائد النفط للتدريب والتأهيل الوطني.
– العمل على دفع البعض من رجال الدين الصالحين للحديث بخطبهم عن البرامج الوطنية مثل ايجاد آليات استعادة الصناعة الوطنية.
– المطالبة بإجراء الاحصاء السكاني، والمساهمة بالتوعية بأهمية إصدار قانون الأحزاب، والتشريعات التي تسهم في رسم مستقبل العراق ونهج الحكومات المقبلة.
وأخيراً لابد من التذكير بأن المثقف العراقي قد نجح في بعض مساعية، فمثلاً عندما ارتفع صوته محتجاً على اعطاء أصوات الكتل الصغيرة إلى الكتل الكبير الفائزة بالانتخابات، وقد دعمت المرجعية هذا التوجه. وحينما تحركت بعض القوى من المثقفين ضد فساد الدولة، تقدمت المرجعية بمشروع خطابي غير مسبوق على رفض استيزار الفاسدين. واخيراً ارتفع صوت المثقف مع باقي القوى المطالبة بعدم التجديد لولاية ثالثة لرئيس الوزراء، فتحقق هذا الهدف. فبهذا نقول بأن أمام المثقف العراقي الكثير من الفرص التي يستطيع من خلالها إثبات دوره الحقيقي