– ياسين طه حافظ-
ثمّة أخطاء في كتابة القسم الكبير من أدب القرن التاسع عشر عندنا وفي دراسته. هذه الأخطاء حصرت الأدب المكتوب، وأغلبه كان شعراً، في مدى السذاجة والتبسيط. وهذه السذاجة وهذا التبسيط جعلاه فقيراً فقراً يبعدنا اليوم عن قراءته،
ياسين طه حافظ
ثمّة أخطاء في كتابة القسم الكبير من أدب القرن التاسع عشر عندنا وفي دراسته. هذه الأخطاء حصرت الأدب المكتوب، وأغلبه كان شعراً، في مدى السذاجة والتبسيط. وهذه السذاجة وهذا التبسيط جعلاه فقيراً فقراً يبعدنا اليوم عن قراءته، وفي الأقل لا نثني عليه أو نرتاح له. صحيح ان تلك الكتابة هي إرث قرون أُخرى سبقت ولكن ما يعنينا هو ما كتب من شعر في القرن التاسع عشر نفسه. لا اقتصر على قصائد التهنئة بالختان ومناسبات الأعراس والشفاء من الحمى أو الإشادة بوليمة أو ما أرَّخوا من الولادات ووفيات ولكني أعني أيضاً أن موضوعات مهمة كتبت بذلك التبسيط وبتلك السذاجة.
العمق الفكري في هذه الكتابات هو ما نفتقده. الرؤية الاعمق للامرئي هي المفتقدة. الانتباهة الذكية النافذة التي يصنعها الأدب عادةً، نادراً ما نراها.
سبب ذلك ليس قصوراً في القدرة التعبيرية، أبداً هم كانوا ضليعين وبعضهم يقربون من العلماء في اللغة ونحوها. لكن المسألة مسألة فقر فكري وافتقاد التأمل والقدرة على رؤية أو قراءة الماوراء، مما يتسم به المبدعون.
وإذا اردنا معرفة مسببات ذلك فنجد أبرزها طبيعة الدرس الادبي في ذلك الزمن ومستوى فهم الأدب. فهم كانوا يدرسون اللغة والعروض والنحو ثم تبدأ التدريبات على النظم. القدرات على النظم تأتي نتيجة لحفظ المئات من الأبيات الشعرية ليمتلكوا “سليقة” وطواعية.
نحن حتى الآن بعيدون عن التأمل والاستبطان، كما عن صنوف التقنيات، فكيف بابتداعها؟ والمشكلة الثانية ان النظم على وفق القراءات والحفظ يبقي الكتابة محدودة بالأنموذج الأصيل المختار عادة، وهذا الأنموذج غالبا ما يكون أفضل من مقلدهِ.
لذلك انتبه أصحاب القدرات الإبداعية لذلك فتجاوزوا التقليدي المألوف وبرزوا على مجايليهم وسابقيهم. ثورة الجديد وتحولاته احتفظت بالقدرة التعبيرية واغتنت بالانتباه الجديد، بخط التأمل والاستبطان والإضافة، فامتلكت بعدا فكرياً .
وفي زمننا الحاضر ما نزال نلحظ التفاوت بين مستوى للكتابة الشعرية ومستوى آخر، سواء ضمن الكتابات المحلية أو مقارنة بما نقرأ ونعجب به أو نقلده من القصائد المهمة التي يكتبها مبدعو العالم. في رأيي أن ما يميز قصيدة عن قصيدة اليوم هو الثقافة التي وراءها وما تمنحه هذه الثقافة للنص ليمتلك بعداً فكرياً أو مدى دلاليا . ما عادت العواطف كافية ولا التعابير كافية. باختصار ما عاد القريض كافياً. القريض الفقير ينقرض.
نحن لا نلتم من كثير من القصائد التي نقرأ كراهةً لموضوعاتها ولكن استياءً وأسفاً لمستوى تناول تلك الموضوعات. اعتيادية التناول لا ترضي أحداً اليوم. وأن احدا لا ينكر اليوم حقيقة ان كماً كبيراً مما يكتب شعراً ونثراً مصاب بفقر فكر. الفقر الفكري لا يجعل النص شاحبا وحسب ولكنه يُسِقطه فلا تنفعه بعد بلاغة ولا تزويق. لابدّ للنص الجيد من التماس بغنى العصر، غناه الفكري وغنى التجارب الإنسانية وتعقيدها والغنى الثقافي العام لحضارتنا:كن مثقفاً معاصراً ثم أكتب أدباً!