جدل الهوية والابداع
استضافت مؤسسة الحوار الانساني بلندن يوم الاربعاء 6 سبتمبر / ايلول 2017 الكاتبة والروائية سلوى جراح في أمسية ثقافية تحدثت فيها عن جدل الهوية وتأثير ذلك على الابداع .
سلوى جراح كاتبة ولدت في فلسطين وعاشت وتربت ودرست في العراق واختارته وطنا قبل أن تنتقل لوطن آخر هو بريطانيا، فهي من مواليد فلسطين – حيفا عاشت عائلتها في مدينة عكا قبل ان تغادرها الى العراق ،نشأت وترعرت في العراق واكملت دراستها في بغداد وتخرجت في جامعة الحكمة عام 1969 بعد ان درست الأدب الإنكليزي والفلسفة وأساليب التعليم ،عملت بعد ان غادرت العراق في هيئة الاذاعة البريطانية حيث قدمت العديد من البرامج المهمة أشهرها “ساعة حرة، رأى المستمع، موزايك، ندوة المستمعين، البرنامج المفتوح، شارع الذكريات”، والعديد من البرامج الثقافية والموسيقية مثل برنامج الواحة الذى كان لقاءً لنصف ساعة مع شخصية أدبية أو فنية معروفة. و بعد أن تركت العمل فى هيئة الاذاعة البريطانية تفرغت لكتابة الرواية، فأصدرت روايات (الفصل الخامس، صخور الشاطئ، أرق على أرق، بلا شطآن، صورة فى ماء ساكن، أبواب ضيقة). إضافة إلى انشغالها بكتابة الرواية عملت سلوى الجراح في المجال الفني وتحديدا المسرحي حيث قدمت العديد من المسرحيات مع الفنانتين العراقيتين مي شوقي وروناك شوقي نذكر منها مسرحية (ريح الجنوب) و(سماء أخرى) و (على أبواب الجنة) واخيرا مسرحية “كان ياما كان في حلم” في ذكرى الراحل الكبير خليل شوقي.
وقد التقى الاستاذ الياس نصر الله بالاستاذة سلوى جرّاح بلندن واجرى معها حوارا صحفيا نشره في جريدة طريق الشعب البغدادية ومواقع وصحف فلسطينية بعنوان (سلوى جراح تتساءل: هل ستعرفني بلادي حين أعود إليها بعد سنين؟) وقد انصب الحوار على موضوعة الهوية والابداع وتوزع الهم الابداعي لدى سلوى جراح بين الموضوع العراقي والموضوع الفلسطيني كما كان للمهجر البريطاني حصة في اعمالها الابداعية ،وقد ارتأينا نشر الحوار لانه غطى اكثر الجوانب التي تناولتها الاستاذة سلوى جراح في امسيتها:
(سلوى جراح تتساءل: هل ستعرفني بلادي حين أعود إليها بعد سنين؟)
إلياس نصرالله / لندن
في رواياتها العراقية كشفت سلوى عن حسّ ديمقراطي رفيع ورفض للظلم والتعصب القومي والقبلي والطائفي، وأوضحت أنها رفضت في سن مبكرة الانغلاق أو الانعزالية وتصنيفها على أنها غريبة في العراق، وروت خلال المقابلة معها أنها فيما كانت في أحد الأيام تدافع عن جمال عبد الناصر خلال محادثة مع زميلاتها في المدرسة تضايقت منها إحدى الزميلات التي كانت تكره عبد الناصر وتهزأ منه وفاجأتها قائلة “هَمْ نِزل، وهم تدَبِّج”، أي ما معناه أنه لا يكفي أنها ضيفة غريبة بل تتدخل في أمور أهل البيت وتفرض رأيها تدبك، فصفعتها سلوى على وجهها وتشاجرت معها، فتدخلت مديرة المدرسة التي غضبت عندما علمت سبب الشجار..
** عكا والقدس
فرحت جدًا عندما زارت فلسطين عام 1996 رغم أنها لم تتوقف عن البكاء طوال زيارتها إلى عكا والقدس، وقالت إنها وجدت أن ما كتبته عن فلسطين ووصفها للأماكن فيها “كان دقيقًا”، وقالت أن “الصورة التي يحملها اللاجئ الفلسطيني عن وطنه تكون عادة قاتمة”، لكن الصورة التي رسمتها في “صخور الشاطئ” عن فلسطين لم تكن قاتمة أبدًا. وأوضحت سلوى”لأنني لم أعش في فلسطين تعمّدت أن أزورها لكي أكتب عنها، فهي عندي من شمالها إلى جنوبها وحدة واحدة وجميع المدن والقرى سواسية”، وأضافت “لا يوجد كاتب يحترم نفسه يكون قادرًا على الكتابة عن شيء أو مكان من دون أن يراه“.
برز في السنوات الأخيرة على الساحة الأدبية في العالم العربي اسم الكاتبة الفلسطينية سلوى جرّاح ابنة مدينة عكا التي أبصرت النور في 15 كانون الأول 1946 في أحد مستشفيات حيفا قبل أقل من عامين من النكبة التي حولتها مع أفراد عائلتها إلى لاجئين. لكن من يقرأ أدب سلوى يجد أنها ليست كاتبة فلسطينية فحسب، بل تتعدى هويتها حدود فلسطين لتشمل أماكن أخرى في الشتات، خصوصًا العراق الذي عاشت فيه معظم سنوات طفولتها وشبابها، فقدّمت للقارئ العربي مادة غنية عن طبيعة الحياة في العراق وعن الصراعات السياسية والاجتماعية والفكرية التي اجتاحت هذا القطر العربي وأوقعت فيه نكبة أخرى غير نكبة فلسطين وما زالت فصولها مستمرة إلى اليوم.
من يقرأ أعمال سلوى جرّاح الأدبية يجد أن هذه الفلسطينية، التي أصبحت لاجئة في طفولتها، لم تقف موقف المتفرج على ما كان يجري في الساحة التي لجأت إليها، بل انخرطت فيها بعمق لدرجة قد تدفع من يقرأ رواياتها التي تدور أحداثها في العراق إلى الاعتقاد أنها كاتبة عراقية أصلًا وفصلًا، ولن يصحح له هذا الاعتقاد سوى قراءة الروايات الأخرى التي تتحدث فيها سلوى عن فلسطين. فسلوى جرّاح بحق، نموذج للفلسطيني الذي حافظ على هويته الفلسطينية، رغم اندماجه في حياة البلد أو المجتمع الذي لجأ إليه، وهذا بحد ذاته دليل قاطع يثبت عدم صحة ما ذهب إليه البعض، خصوصًا في لبنان، من أن الفلسطيني إذا مُنح جنسية أخرى وأتيحت له فرصة لتحسين ظروف معيشته سينسى فلسطين وينخرط في حياته الجديدة، وأبرزت سلوى جرّاح وضع الفلسطينيين في لبنان في روايتها “أرق على أرق”، أثناء الحديث عن سبب إنشاء مؤسسة “صامد” الفلسطينية في لبنان، حين قالت الفلسطينية ليلى عطوان لبديعة الفتاة التي هربت من العراق “طبعًا تعرفين أن الفلسطيني لا يحق له العمل في لبنان” (أرق على أرق، صفحة 160).
كلا، لم يحدث هذا لعائلة جراح التي تبناها المجتمع العراقي ومنح أفرادها الجنسية العراقية، فظلوا متمسكين بفلسطينيتهم، بل على العكس نتج عن هذا التبني رفدٌ للحركة الأدبية والفكرية في العراق بطاقات جديدة أغنت هذه الحركة وأنعشتها، كما هو واضح في أعمال سلوى جراح الأدبية ونشاطاتها الفنية، إذ أن سلوى فنانة متعددة المواهب، فهي بالإضافة إلى كونها روائية، اشتهرت كمقدمة برامج إذاعية وتلفزيونية، وبعد تخرجها من جامعة الحكمة في الزعفرانية في بغداد عملت في الإذاعة والتلفزيون العراقي، ولاحقًا بعد انتقالها للعيش في بريطانيا عام 1977 عملت في القسم العربي لهيئة الإذاعة والتلفزيون البريطانية (بي. بي. سي) وقدمت برامج أكسبتها شهرة واسعة في العالم العربي، ولها باع طويل في التمثيل المسرحي، مع أنها تقول أن التمثيل بالنسبة لها هواية فقط وليس احترافًا، حيث لعبت أدوارًا رئيسية في عشر مسرحيات كان آخرها دورها في مسرحية “كان يا ما كان في حلم” تأليف المخرجة والممثلة روناك شوقي، وهي عبارة عن حوارية بين السيد والعبد لعبت فيها سلوى الدور الرئيسي للخادمة على خشبة مسرح “كيستورز” في لندن.
* أعمالها الفلسطينية
في كتابها “صخور الشاطئ” تروي المؤلفة قصة عائلة عكية تتطابق تفاصيل حياة أفرادها إلى حدٍ كبير مع تفاصيل حياة أفراد العائلة التي وُلدت فيها سلوى جرّاح، خصوصًا والدها ذا النون جرّاح ووالدتها إسعاف نجم الدين توفيق جرّاح.
ومع أن المؤلفة تجعل شخصيات الرواية تنتقل من مكان إلى آخر في أرجاء فلسطين لتعطي القارئ صورة عن تلك الأماكن، إلا أن مدينة عكا هي الساحة الرئيسية التي تجري فيها أحداث الرواية، حيث جاءت هذه الأحداث تحمل صورة واضحة عن طبيعة المجتمع المدني الفلسطيني الذي كادت تدمره نكبة عام 1948 عندما أخليت غالبية المدن الفلسطينية من أهلها وحُولوا إلى لاجئين عندما احتلها اليهود عام 1948 مثل حيفا وعكا ويافا وبئر السبع وبيسان وطبريا وصفد وغيرها. فرغم وجود تلك المدن الفلسطينية منذ زمن بعيد ورغم وجود مجتمع مدني متواضع فيها، ظلّت فلسطين بلدًا زراعيًا يعتمد على الفلاحة مصدرًا رئيسيًا للدخل، غير أن سقوط الامبراطورية العثمانية ووقوع فلسطين تحت سيطرة بريطانيا عام 1918 أدى إلى تحولات اقتصادية واجتماعية مهمة، إذ أصبحت فلسطين ورشة عمل لدعم المجهود الحربي البريطاني استعدادًا للحرب العالمية الثانية وخلالها، مما ساعد على نشوء طبقة عاملة وطبقة برجوازية صغيرة ساهمتا في دعم المجتمع المدني الفلسطيني وتوسيع قاعدته. لكن هذه العملية لم تكتمل وبُترت بقسوة عام 1948 لدى احتلال فلسطين.
ما فعلته سلوى جرّاح أنها قدّمت في”صخور الشاطئ” صورة نادرة عن ذلك المجتمع المدني الفلسطيني الذي شُتِّت أفراده وتوزعوا على البلدان المجاورة وفي أنحاء أخرى من العالم. فعلى الغلاف الخلفي للطبعة الأولى من “صخور الشاطئ” ورد التعريف التالي أن الرواية “صرخة حنين إلى الجذور وتأكيد على عمقها ورسوخها. هي محاولة لتحويل شيء من الذاكرة المحكية إلى ذاكرة مدوّنة من خلال أحاديث الأهل مع شيء من البحث في الحقائق التاريخية المرتبطة بها“.
في لقاء خاص أجريته معها لمقتضيات كتابة هذا الموضوع، اعترفت سلوى جرّاح أن شخصية يونس بطل “صخور الشاطئ” مستمدة من شخصية والدها ذا النون خبير الاتصالات في شركة نفط العراق (آي. بي. سي)، الذي انتهى به المطاف بعد النكبة عام 1948 لاجئًا في مدينة البصرة العراقية على الخليج العربي وأقام في العراق مع عائلته المؤلفة من زوجته إسعاف وبناته الأربع سلوى البكر وآمنة ولينا وأسماء وابنه ناصر. ففي الرواية أعطت سلوى صورة عن الخلفية العائلية ليونس، وعن علاقته بقرية كسرى في الجليل، التي اتضح خلال المقابلة مع سلوى أن أراضي كسرى كانت في العهد العثماني مسجلة على اسم أخوال والدها ذا النون، كما أعطت صورة عن صبا يونس وسني مراهقته في مدينة عكا، وانتقاله للدراسة في مدرسة (مستر سامبل الاسكوتلاندية) في مدينة صفد وتعرفه على زملائه الجدد في المدرسة الذين قدِموا من مدن وقرى فلسطينية أخرى للدراسة ومن ضمنهم نقولا بركة من مدينة الناصرة، فيما التحق شقيقه خالد بكلية الشرطة في القدس. وعندما أنهى يونس دراسته الثانوية عثر على وظيفة في شركة نفط العراق بفرعها في فلسطين واحتك بالموظفين البريطانيين الذين كان يعمل معهم في مصفاة تكرير النفط في خليج حيفا واطلع على أفكارهم ونواياهم.
تستهل سلوى روايتها “صخور الشاطئ” بإهدائها الكتاب:
“إلى روح أبي الذي ولد في عكا وعاش فيها سني شبابه، وظل عاشقًا لها طوال سني غربته يُحمّل موج البحر الأبيض المتوسط أينما حلّ على شطآنه التحايا لسورها وصخورها. أبي الذي علمني عشق الأوطان والحنين اللامتناهي لكل ما فيها. أبي الذي لقمني حب النغم. أبي الذي عاش بعيدًا عن فلسطين ودُفن في منفاه. أبي ذا النون أنيس جراح“.
عندما قرأت روايات سلوى الجراح وجدتها مُطعمة بالكثير من الأغاني الجميلة لكبار المغنين والمغنيات العرب وأخرى تراثية، فظننت أن ذلك راجع لتأثر سلوى بعملها الإذاعي، لكنها أوضحت أن ذلك يعود لتأثرها بوالدها، إذ كان ذا النون يعزف على العود ويغني وكان على اتصال مع كبار الموسيقيين والمغنين طوال الفترة التي عاشها في العراق.
وتعطي “صخور الشاطئ” صورة عن أفراح عائلة يونس وأتراحها، ومغامرات خالد وأخيه يونس الغرامية في المدينة وفي القرية، والأمور الأخرى التي تشغل بال أفراد العائلة في الوقت الذي احتدمت فيه النقاشات السياسية في البيت انعكاسًا للاضطرابات التي كانت تجري في البلد وتأثرها بالصدامات المستمرة بين الفلسطينيين من جهة والمستوطنين اليهود والسلطات البريطانية من الجهة الأخرى، والتي أدت إلى اندلاع ثورة عام 1936 الشهيرة، ثم الجدل حول الانضمام إلى الثورة، وهل هي ثورة فلاحين أم أن لأبناء المدن دورًا فيها. وبالتالي انضمام المدنيَيَن خالد ونقولا بركة، زميل يونس في المدرسة، إلى الثوار، وتَعرُّض خالد للإصابة واستشهاد نقولا أثناء مواجهة مع الجنود البريطانيين. لم ينضم خالد إلى الثورة في شكل عشوائي، بل تم توزيع المسؤوليات العائلية في شكل محسوب، حيث واصل يونس عمله ووقع على عاتقه عبء إعالة العائلة.
حرصت سلوى على أن تكون صادقة في ما روته عن عكا وفلسطين، وقالت أنها فرحت جدًا عندما زارت فلسطين عام 1996 رغم أنها لم تتوقف عن البكاء طوال زيارتها إلى عكا والقدس، وقالت إنها وجدت أن ما كتبته عن فلسطين ووصفها للأماكن فيها “كان دقيقًا”، وقالت أن “الصورة التي يحملها اللاجئ الفلسطيني عن وطنه تكون عادة قاتمة”، لكن الصورة التي رسمتها في “صخور الشاطئ” عن فلسطين لم تكن قاتمة أبدًا. وأوضحت سلوى”لأنني لم أعش في فلسطين تعمّدت أن أزورها لكي أكتب عنها، فهي عندي من شمالها إلى جنوبها وحدة واحدة وجميع المدن والقرى سواسية”، وأضافت “لا يوجد كاتب يحترم نفسه يكون قادرًا على الكتابة عن شيء أو مكان من دون أن يراه”. لم تكتف سلوى بزيارة فلسطين مرة واحدة وتعددت زيارتها لتشمل أراضي فلسطين التاريخية، ومن ضمنها الأراضي التي احتلتها إسرائيل عام 1967، أي قطاع غزة والضفة الغربية التي أقيمت فيها السلطة الفلسطينية عقب اتفاق أوسلو بين إسرائيل ومنظمة التحرير الفلسطينية. ولا تخفي سلوى صدمتها من مشاهداتها لما يجري في مناطق السلطة الفلسطينية، فقامت بكتابة رواية جديدة من وحي تلك الزيارة.
في الواقع رواية “أرقٌ على أرقٍ” هي العمل الأدبي الفلسطيني الثاني لسلوى جراح، فهي بالأساس تحكي عن هموم الفلسطيني المُشرد خارج وطنه، وتفكيره بالعودة، وتناقش مسألة زواج الفلسطينيين من أجانب، أي غير عرب، والحفاظ على الهوية الفلسطينية. فالهوية خطٌ أحمر لدى سلوى جراح، وعلى سبيل المثال روت قصة الأستاذ في مدرسة مخيم اللاجئين الذي صفع التلميذ على وجهه حين أجاب على سؤال من أي بلد هو فقال “برج البراجنة”، بدلًا من عكا (أرق على أرق صفحة 77).
حاولت سلوى تصوير الصراع الداخلي لدى اللاجئَين حسين ومسعود اللذين رغبا بالعودة ومخاوفهما من أن يُصدما عندما يشاهدان الواقع في فلسطين (أرق على أرق، صفحة 79)، فصوّرت كيفية الوصول إلى فلسطين والشعور الغريب الذي ينتاب الفلسطيني العائد إلى وطنه عندما يصل إلى مطار اللد.
“فالعودة”، كما تقول سلوى “معناها البدء بحياة جديدة”. فعندما أتيحت أول فرصة لعودة عدد قليل من الفلسطينيين إلى وطنهم بعد توقيع اتفاقات أوسلو بين منظمة التحرير الفلسطينية وإسرائيل، سارعت سلوى إلى زيارة فلسطين. فعلت ذلك عدة مرات كانت آخرها في نيسان/أبريل الماضي، فتكوّنت لديها فكرة واضحة عمّا يجري في فلسطين وبالذات في مناطق السلطة الفلسطينية، حيث انعكس ذلك جليًا على روايتها “أرق على أرق”. فضايقتها مظاهر الفساد الإداري والمالي الذي شاهدته في غزة ومناطق السلطة الفلسطينية، فلم تتردد في التصدي لهذه المظاهر التي رأت فيها إجهاضًا لحلم العودة بالنسبة للاجئين الفلسطينيين، فكرست جزءًا كبيرًا من هذه الرواية لمحاربة الفساد لدى الفلسطينيين ليس فقط داخل فلسطين، بل حتى تلك النماذج الفاسدة من الفلسطينيين في الخارج التي قدّمتها سلوى لنا في “أرق على أرق”. أهدت سلوى هذه الرواية إلى “فلسطين وابنها الذي أرّقه حبها، الدكتور تيسير عاروري” ويستطيع القارئ بعد انتهائه من قراءة “أرق على أرق” أن يفهم سبب إهداء الرواية إلى طيب الذكر تيسير عاروري، المناضل الفلسطيني اليساري والتقدمي الذي قاوم الاحتلال الإسرائيلي بصلابة وناضل من أجل بناء دولة فلسطينية مستقلة وديمقراطية خالية من الفساد.
**الأعمال العراقية
كما أشرت سابقًا ليس من السهل التمييز بين أعمال سلوى الجراح الأدبية التي تتناول كلًا من فلسطين والعراق، فهي فلسطينية حتى النخاع عندما تتناول موضوعًا فلسطينيًا، وعراقية حتى النخاع عندما تتناول موضوعًا عراقيًا.
بل عندما تحدثت عن العراق ووصفت منازل عائلات أبطال وشخوص رواياتها في بغداد والبصرة والموصل فعلت ذلك بدقة متناهية تشي بأنها تكتب عن تجربتها الشخصية وحنينها إلى الأماكن التي نشأت وتعلمت وعملت فيها أو زارتها، تمامًا كما لو أنها تكتب عن وطنها الأصلي فلسطين.
في رواياتها العراقية كشفت سلوى عن حسّ ديمقراطي رفيع ورفض للظلم والتعصب القومي والقبلي والطائفي، وأوضحت أنها رفضت في سن مبكرة الانغلاق أو الانعزالية وتصنيفها على أنها غريبة في العراق، وروت خلال المقابلة معها أنها فيما كانت في أحد الأيام تدافع عن جمال عبد الناصر خلال محادثة مع زميلاتها في المدرسة تضايقت منها إحدى الزميلات التي كانت تكره عبد الناصر وتهزأ منه وفاجأتها قائلة “هَمْ نِزل، وهم تدَبِّج”، أي ما معناه أنه لا يكفي أنها ضيفة غريبة بل تتدخل في أمور أهل البيت وتفرض رأيها تدبك، فصفعتها سلوى على وجهها وتشاجرت معها، فتدخلت مديرة المدرسة التي غضبت عندما علمت سبب الشجار، فأنبّت الطالبة العراقية على ما قالته، وطلبت من سلوى ألا تستخدم الضرب مرة أخرى. تقول سلوى أن تصرف تلك الطالبة كان شاذًا ولم تكن تمثل سوى قلة قليلة من العراقيين. فلم تتأثر سلوى بهذا النمط من التفكير الضيق، وانخرطت بعمق في المجتمع العراقي الذي أحب فلسطين والفلسطينيين لدرجة أنها تزوجت مصباح غازي عسكر، العراقي المتخصص في الاقتصاد وأنجبت منه أحمد ومروان.
وظهر تأثر سلوى جليًا بالأحداث التي وقعت في العراق خلال الفترة التي عاشتها فيه، وكانت شاهدة عيان على أحداث خطيرة ومصيرية مثل ثورة 14 تموز 1958 وسقوط نظام الحكم الملكي الرجعي، وتحول الحكم في العراق إلى جمهوري بقيادة عبد الكريم قاسم، ومحاكمة رموز العهد الملكي التي أشرف عليها فاضل عباس المهداوي، وانقلاب عام 1963 ضد عبد الكريم قاسم وصعود عبد السلام عارف إلى الحكم بمساندة البعثيين والمذابح التي نفذها الانقلابيون فقتلوا الوطنيين والشيوعيين الذين ساندوا حكم عبد الكريم قاسم، ولاحقًا مقتل عبد السلام عارف بتحطم طائرته وصعود أخيه عبد الرحمن عارف إلى الحكم، ثم انقلاب البعثيين على عارف وتسلم أحمد حسن البكر للحكم في عام 1968. ومع أن التقلبات السياسية لم تنته عند البكر، إلا أن سلوى عاشت في ظل حكم البعث طيلة تسع سنوات، تحول خلالها إلى نظام حكم ديكتاتوري رهيب تمت في ظله تصفية أعداد كبيرة من المعارضين السياسيين جسديًا، وتدهورت الأوضاع الداخلية في العراق على نحو دفع مئات الآلاف من العراقيين إلى الهرب والبحث عن مكان للجوء في الخارج. فهذه كانت الخلفية للروايات التي أنتجتها سلوى جرّاح عن العراق، ويصعب فهم قصص الحب التي أوردتها والصراعات النفسية لدى شخوص هذه الروايات إذا لم يأخذ القارئ هذه الخلفية في الحسبان.
في منتصف عقد الستينيات الماضي انتقلت سلوى للعيش في بغداد، فتحدثت عن هذه الخطوة في رواية “صورة في ماء ساكن” فأخذت القارئ في رحلة داخل أحياء هذه المدينة التاريخية، مثل حي المنصور وباب المعظم والكرادة ومدينة الثورة وكامب الصليخ والرصافة وغيرها وكذلك سكان هذه الأحياء، والتعددية الطبقية والدينية والإثنية فيها. ومن خلال صداقة بديعة بطلة رواية “صورة في ماء ساخن” مع سورغول الكردية تقدم الرواية صورة عمّا تعرض له أكراد العراق من ظلم واضطهاد وتمييز عرقي وتدمير قراهم بغارات جوية.
وكشفت بديعة بطلة الرواية الطالبة في كلية الفنون الجميلة عن حس طبقي مرهف ولم تتردد في حبها لجواد الشيوعي ذي الخلفية العائلية الفقيرة من جنوب العراق، رغم أن أخيها سامي كان عضوًا في حزب البعث، لكن القمع السلطوي البعثي يُرغم جواد على الهرب إلى شمال العراق ومنه إلى الاتحاد السوفياتي، فتنقطع العلاقة بينه وبين بديعة، مما اضطر بديعة إلى الزواج لاحقًا من المهندس عماد عبد الواحد. لكن تدهور الأوضاع الداخلية للعراق يصل حدًا لا يطاق، خصوصًا بعد فشل تجربة الجبهة الوطنية بين حزب البعث والحزب الشيوعي، وفقًا للرواية، واتضاح أن الاتفاقية بين الحزبين لم تكن سوى “كلام وبس، وحبر على ورق” (صورة في ماء ساكن، صفحة 142). فيبدأ الشباب في الهروب إلى خارج العراق ومن ضمنهم بديعة وزوجها عماد وعدد من أصدقائهما. ففي معرض وصفها لسطوة نظام الحكم الديكتاتوري والفئة المتنفذة فيه تتحدث بديعة عن الذين يتبوؤون المناصب الإدارية في العراق وتصفهم بـ”الجهلة” (المصدر السابق صفحة 189)، وتأتي على ذكر أخيها سامي العضو في حزب البعث فتقول “أخوي ابن أمي وأبوي أخاف أغلط بالكلام أمامه” (المصدر السابق صفحة 191).
وطاب المقام لبديعة وعماد في باريس، حيث تعطي سلوى جرّاح صورة واقعية عن حياة الجاليات العراقية المنتشرة إلى اليوم في الغرب والتي هرب أفرادها من سطوة الحكم القمعي في الوطن ومن الحروب وحقيقة مشاعر أبناء هذه الجاليات. وتتحدث بديعة بتأثر شديد عن همومها كمغتربة فتقول “هل ستعرفني بلادي حين أعود إليها بعد سنين؟ هل سيأتي يوم لا يعرفني فيه العراق؟ كم هو مؤلم أن لا تعرفنا الأوطان، لكن الأكثر إيلامًا هو أن لا نعرفها نحن، حين نعود إليها بعد غياب” (المصدر السابق صفحة 196).
ولم تبخل سلوى عن تقديم نماذج عن مظاهر الفساد الذي استشرى بالعراق في ظل الحكم الديكتاتوري فتروي أن صباح عبو زوج وفاء، صديقة بديعة، أصبح مليونيرًا “لأنه ماشي مع التيار” (المصدر السابق صفحة 204). ولم تقتصر النماذج الفاسدة التي أوردتها على رجال نظام الحكم، بل تسارعت أحداث الرواية وسقط نظام الحكم الديكتاتوري في العراق، فإذا بها تلتقي صدفة في أحد مقاهي باريس بحبيبها الأول جواد، وقد بدت مظاهر التحول واضحة عليه، فصُدمت عندما أبلغها أنه أصبح رجل أعمال ويسعى لعقد صفقات تجارية في العراق، مستغلًا تبدل الأحوال، فغضبت بديعة وغادرت المكان على عجل وفارقت جواد إلى الأبد (المصدر السابق صفحة 216).
تتميز أعمال سلوى جرّاح الأدبية بواقعيتها، وتتعمد في روايتها “أبواب ضيقة” أن تنفي على لسان نوار، بطلة الرواية، أن تكون “أحداث هذه الرواية من وحي الخيال، وأي تشابه في الأسماء والأحداث غير مقصود” (أبواب ضيقة، صفحة 38). وتضيف نوار “تشابه الأحداث فيما أكتب، متعمّد ومقصود بل مطلوب. فالعراق مذ وعيتُ، مسرح لأحداث وحكايا أغرب من خيال معظم مشاهير الروائيين، مهما جنح بهم الخيال” (المصدر السابق صفحة 38). وتمضي نوار قائلة “سأكتب عن الطبقة التي عرفت، وأتركهم يقولون ما يقولونه، فأنا لم أختلق زمنأ ومكانًا وحياة. كل ما أكتب عنه كان موجودًا ومعاشًا. كل ما أرويه يعرفه العديد من أبناء وبنات جيلي، في العراق” (المصدر السابق صفحة 57 و58).
وسرعان ما يكتشف القارئ أن أحداث رواية “أبواب ضيقة” تجري على نفس الخلفية التي جرت عليها أحداث رواية “صورة في ماء ساكن”، لكنها مأخوذة من زاوية مختلفة بعض الشيء. وتروي نوار أن ماسير جان في مدرسة الراهبات كانت تسأل الأطفال عن قدر محبتهم للملك، ولاحقًا بدأت ماسير جان ذاتها تسألهم عن قدر محبتهم للرئيس عبد الكريم قاسم (أبواب ضيقة، صفحة 21). ثم تتحدث نوار عن التغيير الذي طرأ على مناهج التعليم بعد سقوط الملك (المصدر السابق صفحة 50)، ولاحقًا اختلاف الشعارات بعد سقوط قاسم (المصدر السابق صفحة 52). وتصف الصراعات الحزبية والتصفيات الجسدية وتتساءل “من يقرر أن شخصًا ما خائنًا؟ ماذا فعل ليصبح خائنًا” (المصدر السابق صفحة 62).
لم تخف سلوى ضيقها من حزب البعث، ففي حوار بين نوار وفاتن، صديقتها وزميلتها في الجامعة تقول فاتن “نواره هل لاحظت أن كل مرحلة دراسية جديدة بحياتنا لازم يكون فيها حكومة جديدة؟ شنسوي هاي هي”. فردت عليها نوار قائلة “اسكتي فتون الوضع لا يتحمل المزاح. هذه المرة الجماعة لن يسمحوا بالمزاح، جاءوا ليحكموا” (المصدر السابق صفحة 107). وعندما طلب ممثل الاتحاد الوطني من نوار المشاركة في احتفال للحزب الحاكم في الجامعة رفضت نوار، إذ أنها كانت منتمية سرًا للحزب الشيوعي وعلى علاقة بطالب شيوعي اسمه صالح. ونتج عن انتسابها إلى الحزب الشيوعي حرمانها من الحصول على وظيفة في مجال تخصصها، إذ قيل لها أن “التخصص بالترجمة الفورية مقصور على الحزبيين” (المصدر السابق صفحة 132). وعندما أيقن صالح أن حياته أصبحت مهددة في العراق أبلغ نوار أنه سيهرب إلى لبنان واقترح عليها أن تلحق به. كان حبها لصالح جارفًا فوافقت ووصلت إلى بيروت مع اندلاع الحرب الأهلية في لبنان عام 1975، حيث وجدت أن صالح التحق بالحركة الوطنية اللبنانية والمقاومة الفلسطينية اللتين تحالفتا ضد القوى الرجعية والانعزالية في لبنان، وهنا أخطأت سلوى في تصويرها الحرب الأهلية اللبنانية على أنها حرب طائفية (المصدر السابق صفحة 160)، لكنها انضمت إلى صالح وتزوجته شرعًا وعملت في مؤسسة “صامد” الخيرية التابعة لمنظمة التحرير الفلسطينية. لكن صالح أصيب بوعكة صحية واضطر للسفر إلى براغ في تشيكوسلوفاكيا لتلقي العلاج، فرافقته نوار وبقيت معه إلى أن تعافى. فقرر العودة إلى لبنان، لكنها رفضت وأصرّت على السفر إلى بريطانيا، فافترقت عنه وتسلمت منه لاحقًا بالبريد وثيقة الطلاق.
في معالجتها للعلاقة بين نوار وصالح انحازت سلوى الجراح إلى جانب نوار، ربما لكونها امرأة. ففي رواياتها الفلسطينية والعراقية على حدٍ سواء دافعت سلوى عن المرأة المظلومة، وهو موقف يُحسب لها، وعبّرت عن موقفها هذا تجاه المرأة في أكثر من مناسبة في أعمالها الأدبية، ففي روايتها “صورة في ماء ساكن” التي صدرت عام 2014 تقول سلوى “لا أحد يقسو على المرأة مثل المرأة. المرأة تستطيع أن تلغي وجود امرأة أخرى ببضع كلمات” (صورة في ماء ساكن، صفحة 17)، وتضيف لاحقًا “نساء الديكتاتوريين يصبحن مثل أزواجهن” (المصدر السابق صفحة 18). لكنها في “أبواب ضيقة” وبالذات في تصويرها للعلاقة بين نوار وصالح تخطت سلوى حدود الحس الدمقراطي وانحازت في شكل واضح إلى جانب المرأة، وأيدت قرار نوار بالانفصال عن حبيبها الثوري صالح، لأن نوار فضلت البحث عن حياة هادئة بعيدًا عن الحروب والقتل والدمار، وهو أمر مشروع. فعلت ذلك من خلال تصوير قرار صالح بالعودة إلى بيروت على أنه خاطئ وسخرت منه، في حين أن صالح ظل أمينًا لمبادئه وانتمائه الحزبي ووضع هذه المبادئ والانتماء في مرتبة أسمى من علاقات الحب والسعي من أجل حياة هادئة ومرفهة.
فشتّان ما بين الموقفين اللذين صورتهما سلوى جرّاح في روايتيها العراقيتين “صورة في ماء ساكن” عندما انتفضت بديعة ضد جواد لأنه خان مبادئه وسعى لجمع المال، وموقفها من صالح الذي ظل متمسكًا بمبادئه.