«يا بني أحبب الكتاب كما تحب أمك، لأنك بذلك ستسير بحرية في الطريق ولن تكون طائعاً يقوده الآخرون».. نص مصري قديم
تذكرت هذا القول وأنا أتجول بين أروقة معرض أبوظبي للكتاب هذا العام. رغم أن التجول بين أجنحة هذا العدد الهائل من دور النشر يصيبك بالدهشة والدوار أيضاً. بالدهشة لأن مشهد عناوين الكتب الهائلة التنوع والمجالات، وفتنة إخراجها وبريق ألوانها. والدوار لكثرة المترددين عليها والحائرين بين الشراء والتصفح وقراءة التعريف على الغلاف الخلفي، وضجة الفرق الموسيقية وأصوات المتداخلين والمحاضرين ورنين أصوات الشعراء المتدفق عبر السماعات المنتشرة على امتداد أروقة المعرض وزواياه، الأمر الذي يجعلك في حيرة أمام الاختيار: أتجالس لتستمع أم تتجول لتكتشف جديد الكتب أم تقف لتتبادل التحية والفرح بلقاء صديق باعدت بينك وبينه سبل الحياة واتجاهات مقاصدها. ثم تتساءل هل معرض الكتاب يساعدك على اكتساب صديق جديد ستمتد بينك وبينه أواصر علاقة حميمة ومودة ستنمو بوعد التواصل؟
هكذا كنت أتجول وأتأمل وأقرأ وأقلب الكتب وأستنير بعناوينها على مضامينها لأدرك أن المعرفة كنز يتجدد بتجدد تطور الإنسان والحضارات، وأنها لم تعد تقف عند كتاب قديم قرأناه واعتقدنا أننا نعرف. بل إن المشهد الهائل هذا الذي يحتويه المعرض ويعرضه بأبهة تزداد تقنية وفناً وتنوعاً يشعرك بأنك ما زلت في أول سلم المعرفة وأن هناك ما خفي عليك وما أنت بحاجة إلى اكتشافه، سواءً كنت قارئاً عابراً، أو مثقفاً مبدعاً، لتكتشف أن ثمة الكثير من المعارف والتنوع الثقافي في جميع مجالات المعرفة العلمية والأدبية والثقافية بتعدد اختصاصاتها، قد فاتك اكتشافه ومقاربته حتى تزور معرضاً للكتاب كهذا المعرض مثلاً. وتكتشف أيضاً أن القراءة لم تعد هواية البعض لغاية عملية يشترطها عملك المعيشي في مجال من المجالات، أو لتزجية الوقت، بل أصبحت أكثر من ضرورة لتطوير الذات والمجتمع.
وحين أردد دائماً أن (الكتاب معرفة منسية وسلوك مكتسب) أقصد أن الإنسان يستطيع بلمحة سريعة على ملامح وجه إنسان ما أن يعرف أنه قارئ مثقف أو أنه ليس كذلك. فالقراءة وما يتولد عنها من معرفة وثقافة ووعي تشف عنها تعابير وجه الإنسان وحركته وكلامه. إذ أنها تضفي على الإنسان شيئاً من السحر والإشراق ولست أقصد بها القراءة المفروضة فرضاً لسبب من الأسباب، بل أقصد تلك التي تكسب الإنسان ذلك المزاج التأملي الذي يدرك به أسرار الحياة والنفس الإنسانية والطبيعة والكون، والوعي اليقظ الذي يجعله منتبها للحياة في تفاصيلها الدقيقة والحميمة.
القراءة التي تكسب الإنسان سحراً وجمالاً في مظهره ونكهة في حديثة هي القراءة المستديمة، المتنوعة والتي هي غاية لذاتها، إذ أن السحر والجمال ينبعثان من قوة التفكير. ومن قوة التفكير هذه يكتسب الحديث نكهة المعرفة. وعادة ما يحدث حين ننصت إلى قارئ مثقف أن نستشعر ذلك الألق الغامض الذي يشع من حديثه ويهبنا الإحساس بالصدق والثقة.
إن فضائل القراءة كثيرة لا تحصى، لكن أعظمها أنها تهبنا الاستبصار والاستنارة والنفاذ إلى عمق الأحداث والظواهر وتكوّن لدينا ذلك الحس النقدي الذي يدفعنا دوماً إلى السعي للتطور والتغيير