*كاترين بورتوفان/ ترجمة: أحمد عثمان
تخلى المثقفون عن تغيير العالم، ومع ذلك، حسبما وجهة نظر الفيلسوف زيغمونت باومان، نجد أن لا غنى عنهم لفهم المخاطر التي تهددنا.
لم يزل زيغمونت باومان محتفظاً بالأمل رغم سنه الكبيرة. كان من الممكن أن يفقده، ذلك الذي عرف توتاليتاريات القرن العشرين، قبل أن يهرب مرتين منها، الأولى من بولونيا، وطنه الأمومي، في عام 19399، بسبب النازية، والثانية في عام 1968 بسبب الشيوعية.
كبروفيسور في الفلسفة والسوسيولوجيا بجامعة ليدز (بريطانيا) منذ عام 1971، لم يكف عن مساءلة الإرث الملتبس لعصر الأنوار، معترفاً بحصة البربرية الموجودة في حضارتنا. بدلاً من المجابهة الدائرة بين الخير والشر، يعتقد بضرب من فلسفة الصلاح التي لا يمكن أن تتخلى عن التمرد على الظلم والاضطهاد. باهتمامه بالديناميات الكونية للعولمة، وصف حداثتنا «السائلة» التي تصنع أفراداً منعزلين ومذعورين. فكره غير معروف إلى حد كبير في فرنسا، حيث ترجم دوماً بصورة سيئة. وفي الخريف الأخير، صدرت ترجمة كتابه الكبير «انحطاط المثقفين» الذي كتبه في عام 1987، قبل عامين من انهيار سور برلين، وبيّن في متنه التغير العميق لدور المثقفين.
* كتبت هذا الكتاب قبل عشرين عاماً. هل ترى أن الثمانينيات كانت بحق عصر «انحطاط» المثقفين؟
– نعم، تمثل الثمانينيات نهاية عصر في تاريخ المثقفين. حلم على وشك التلاشي: حلم – كما ذكره فلاسفة الأنوار- المجتمع المثالي الذي يضمن السعادة الإنسانية. مجتمع يتصوره العقل الإنساني وسوف يرى النور بفضل إبداع الناس وعملهم. هذه الفكرة العتيقة التي ترجع لمائتي عام، انتهت في نهاية القرن العشرين نتيجة للانحطاط المشهدي للنظام الشيوعي وفقدان قوة الولايات المتحدة بما أن مشروعات المثقفين كانت موجهة إليهما. وبتلاشيه، أصبح هذا الحلم ملحوظاً: «بدأنا نرثي نهاية اليوتوبيات، نهاية الإيديولوجيات. لم يكف المثقفون عن أن يكونوا «مشرعين»، أي هؤلاء الذين يكتبون خرائط الطريق التي تفضي إلى المجتمع المثالي. تبدى أنهم غير قادرين على تصور هذا المشروع، ولكن هذا المشروع يتطلب الكثير من المشقة. تساءلت عن الدور الجديد الذي يمكن أن يضطلع المثقفون به. عصر ذاك، نقلت الفرضية التي تعادل الطموح الحديث لتغيير العالم في مواجهة تأويله، أي منحه معنى معين».
وظيفة «المؤول»
* ما هي إلحاحية هذه الوظيفة، وظيفة «المؤول»؟ هل عالمنا صعب فهمه عن عالم القرن الثامن عشر؟
◆ أولاً، نعي جيداً أن التنوع المذهل لأنماط الحياة لا يعتبر عائقاً مؤقتاً على طريق الوحدة، بيد أنه حقيقة مؤكدة. بمعنى آخر، بيئتنا الاجتماعية، التي تمنينا من قبل أن تكون متجانسة، سوف تصبح بصورة محتملة فسيفساء الشتات. لا نمتلك خياراً آخر إلا هذا العالم متعدد الثقافات، المكون من الاختلافات: بالتالي، من اللازم أن نتعلم العيش مع هذه الاختلافات. وهذا فن يتطلب القدرة على الحوار، على الترجمة بين الثقافات، ولذلك لا بد من توافر المؤولين، الممرين. ثانياً، لا تكف الهوة القائمة بين ظروف الحياة (الظروف الاجتماعية، أبعاد النمو، التحديات الجديدة، المشاكل التي تحتاج لحلول) ومن يحكمها عن الاتساع. دوماً، رافق الشك الناس عن قرب… ودوماً أخافهم. ولكن، اليوم، صور الخوف انتشرت، تبعثرت، وعرفت بصورة سيئة. من الصعب الإشارة إليها، والرجوع إلى جذورها… هو ذا ما يجعل صور الخوف المعاصر صعب تلطيفها، وأيضاً وقفها. انبعثت (هذه الصور) في كل مكان: وظائف غير ثابتة، معارف غير كافية، قواعد اللعبة متغيرة بلا انقطاع، ضعف الصلات بين الناس، الضعف التدريجي للضمان الاجتماعي، تهديد الروائح السامة أو الأغذية المسرطنة، احتمال نفي اقتصاد السوق، بل وبلغت الأمن الشخصي للمواطن في الشارع وفي بيته. هذا الشك يقتات على كل صورة من هذه الصور، ويتعمق لكي يشكل حالة فكرية ومشاعر لا يمكن إلا لمصطلحات «عدم الأمان المنتشر» وصفها. نشعر بالثقة في أنفسنا إلى حد قليل، لأننا لا نعرف مم يتأتى قلقنا، ونجهل كيفية التعامل معه… إذن، نحتاج إلى مثقفين قادرين على تعريفنا بواقعة بعض المخاطر غير المرئية بالعين المجردة، ولكن أيضاً لتحذيرنا من التهديدات الخيالية ذات الأهداف السياسية أو التجارية.
* التحذير، لماذا؟
◆ طبيعته «السائلة» تعمل على إعادة تدوير خوفنا بسهولة. الحاجة الشديدة التي يشعر الشعب بها لكي يقوم «بشيء» معين إزاء أسباب هذا القلق (المجهولة) من الممكن أن تستغل في موضوعات غير مسؤولة عن عدم الأمان بطبيعة الحال. أي انحراف لا يحقق أي علاج للقلق، ولا يقلل بالتالي من احتياطي «رأس مال الخوف» الحاضر. في المقابل، يحقق أعمال المتنافسين على السلطة وبائعي المنتجات «المرتبطة بالأمن». منذ ذاك، نفهم أن هناك قدراً من الاهتمام لدى الحكومات لنفي مصادر هذا الشك. بالنسبة للخبراء و«العلماء»، لا نمتلك أي وسيلة للتحقق من صحة التشخيص، ولا نمتلك أي خيار سوى الاعتقاد بها (مثلما كانت حالة قادتنا، مثلاً، عندما شرحوا لنا أن صدام حسين يمتلك أسلحة التدمير الشامل، أو عندما يقولون لنا إن كل همومنا ستتلاشى مرة واحدة عندما يرجع اللاجئون السياسيون والمهاجرون الاقتصاديون إلى بلادهم).
المثقفون الحديثون
* أسس فلاسفة الأنوار السلطة، ليس على الحق الإلهي، وإنما على المعرفة: تحت سلطة العقل، من يقود هو «من يعرف». هل ترى أن الرابطة بين المعرفة والسلطة اختفت اليوم؟
– الاعتقاد الحديث الذي أبدعه وبشر الفلاسفة به، يسعى لمنح الكثير من الحكمة لرجال السلطة والكثير من السلطة للحكماء. قاعدة دور «المشرع» التي رأها الفلاسفة كمسلمة، تتموضع على هذا الاعتقاد. حسبما مصطلحات الأنوار: لتأسيس مجتمع كامل، من اللازم وجود طاغية قوي قادر على فرض نمط حياة راقٍ يقترحه الفلاسفة الذين أشاروا له على الطريق السليم الواجب اتباعه. اليوم، أقول إن «رجال السلطة» فقدوا جزءاً كبيراً من السلطة التي كانت في أياديهم خلال العصر الذهبي للدولة- الأمة. تتسع الهوة أكثر فأكثر بين السلطة والسياسة: بينما أن السلطة تتبخر إلى الأعلى، في المحيط العالمي، ما وراء الحدود الدولية، نجد أن السياسة توجد في المحيط المحلي، وتتجرد من السلطة الحقيقية على التطورات التي تتجاوزها. لا يقيس السياسيون نجاحهم بإيصال المجتمع إلى الكمال، وإنما بكسب الانتخابات القادمة. والمثقفون لا يتوجهون إلى رجال السلطة لكي يحققوا أحلامهم في الواقع.
* من عصر الأنوار إلى اليوم، يتبدى أن المثقف يعاني كثيراً تحديد مكانه لدى «الشعب»، الجماهير، الثقافات الشعبية. لماذا؟
◆ بطريقة واضحة أو ضمنية، المثقفون الحديثون معرفون عبر «العلاقة الخاصة» التي تجمعهم بالشعب. وضع الفلاسفة الشعب تحت وصايتهم، بمنح أنفسهم رسالة تنويرهم وتربيتهم بصرف النظر عن ظروف جهلهم ومعاناتهم… مع موافقتهم أو من دونها. هذه الإرادة تمثل جزءاً مكملاً «لإعداد الدولة-الأمة» (تبيين فكرة «الوطن»، تحويل خليط الهويات المحلية إلى جسد وطني ومواطن)، هذا الإعداد، اليوم، على الأقل في أوروبا، متحقق كلياً. ومجتمع المواطنين تحول تدريجياً إلى مجتمع المستهلكين، وبذلك خلقوا من الشعب خزاناً للزبائن المحتملين للخيرات والخدمات الروحية والثقافية التي يقترحها المثقفون والفنانون. وكما أن الطلب الشعبي ليس عالياً ونهماً كما تمنوا، فإن «الجماهير» حلت محل الشعب لدى المبدعين وبائعي الثقافة التافهة.
* والمثقف ليس جزءاً من الجماهير؟
◆ في الواقع، فضلاً عن ذلك، الكثير من المثقفين علامة فصل، مروراً من تخوم الدولة- الأمة إلى الفضاء الافتراضي العالمي، بينما أن الشعب، المتوطد دوماً في بيئته، مهمل. إذا كانت هناك رسالة للمثقفين، فإنها تنزع إلى أن تكون عالمية عن أن تكون محلية: «العلاقة الخاصة» مع «أناس بلاده» – المواطنون –، التي تبدت في عصر بناء الأمة، قطعت. المثقفون كوزموبوليتانيون، متحدرون من ثقافات عدة. وعلى نقيض الوضع الذي وصفه السوسيولوجي بيير بورديو في كتابه «التمييز»، نجد أن الوضع الاجتماعي السامي لا يتبلور من خلال خيارات ثقافية انتقائية، وإنما من خلال «التهام كل ما هو ثقافي». الثقافة الشرعية لا تتأسس على إقامة حدود بين المستوى الأعلى والمستوى الأدنى، بين النخبة والجماهير، وإنما على أن يشعر المرء في بلاده بكل أشكال الثقافة، على اعتبار أن أياً من هذه الأشكال لا يمكن أن يكون المؤسس الوحيد لبلده.
القيم المشتركة
* ولهذا كيف يمكنك تأويل (على الأقل في فرنسا) إعادة تعريف «القيم المشتركة»، الهوية أو الثقافة القومية، التي يتمناها مثقفون؟
◆ لا يتعلق الأمر بفرنسا: في العالم بأسره، القيم التي حافظت «جماعات الانتماء» عليها وراقبتها، أصبحت في متناول شبكات ضعيفة التكوين، اصطناعية، على صلة يومية بأفراد مرتبطين وغير مرتبطين بها. هو ذو تأمل طبيعي للعمل على عودة ما اختفى، على أمل إعادة خلق – إرادياً – أفكار وقيم كان ينظر إليها فيما سبق على كونها «طبيعية». في حالة الجماعات، الأمل وهمي طالما أن «القيم المشتركة» تقوم بدورها الاجتماعي المقوم على أساس أنها ليست موضوع الخيار، وبالتالي يتبدى أنها غير واعية بطبيعتها المشتركة. منذ إعلان «كم هو رائع مقاسمة القيم المشتركة»، تم التأكيد بلا وعي على فقدان الخاصية المشتركة للجماعة.
وعد الحداثة
*«لم يزل وعد الحداثة منظماً»، كما كتبت. كيف يمكن تأسيس، بالنسبة لنا، هذا الوعد الكبير المتأتي من المشروع الوهمي للمجتمع الكامل؟
◆ فكرة المجتمع الكامل (أي مجتمع لا يحتاج إلى إصلاحات) فكرة، كما أرى، وهمية. فكرة تقوم على عامل واحد محدد (مثل عدم المساواة بين الطبقات الاجتماعية أو الأعراق) علينا التعامل معها للتخلص من كل مآسي الإنسانية. بالمقابل، ما هو غير وهمي يتمثل في إمكانية تغيير العالم وظروف حياة الناس، النضال ضد عدم الأمان، العبودية، الظلم، العنف، المعاناة، الإذلال، الإهانات… ولكن، لكي نكون قادرين على الإصلاح والنضال، نحتاج إلى فهم بصورة فضلى مكمن جذور هذا الشر وآليات إنتاجه. إيجاد هذه الجذور، تسميتها وعرضها، لا يكفي – بالنسبة لي – لجعل العالم مقبولاً للإنسان، وإنما فرص جعله أكثر قبولاً من دون عرضه ضعيفة للغاية تقريباً.
المصادر:
(*) Catherine Portevin، Entretien avec Zygmunt Bauman، Télérama، 02/02/2008.
(**) الكتاب المشار اليه:
(*) Zygmunt Bauman، La Décadence des intellectuels، Des législateurs aux interprètes، Ed. Jacqueline Chambon، 272 p.