الفساد ضرب من الإرهاب والخيانة الوطنية
عادل حبه
لعل حكام بلاد الرافدين الأوائل كانوا أول من توقفوا عند ظاهرة الفساد في مجتمعاتهم. فإن أوروكاجينا، وهو أحد الملوك السومريين من سلالة لگش الأولى، كان صاحب أقدم إصلاح اقتصادي واجتماعي لحد الآن، حيث يرجع تاريخ تلك الإصلاحات إلى عام 2355 قبل الميلاد. وقد اكتشفت تلك الإصلاحات في مدينة لگش عام 1878م، وترجمها لأول مرة العالم الفرنسي تورو دانجان.
وقد ظهر ان هذا الملك الجليل قضى على الفساد والمساوئ التي كانت سائدة في تلك الفترة، كما أعاد العدل والحرية للمواطنين، وأزال عنهم المظالم والاستغلال. وقاد أوركاجينا أول انتفاضة اجتماعية في التاريخ، حيث ظهرت لأول مرة كلمة حرية امارجي في وثيقة مكتوبة. وعمل أوركاجينا على تخفيض الضرائب التي كانت مفروضة على الشعب، ومنع تسلط الجباة واللصوص على الضعفاء، وتعهد بأنه: «لن يسمح بأن يقع اليتامى فريسة لظلم الأقوياء»، وبإزالة الظلم ونشر العدل بين طبقات المجتمع، ووضع حد لكبار الموظفين في ابتزاز أموال عامة الشعب.
وتعتبرهذه الوثيقة أول قانون أنساني نادى بحقوق الإنسان وحريته ومكافحة جريمة الفساد في التاريخ الإنساني. ومما يذكر في هذه الوثيقة ان اوركاجينا قد شرع القوانين التي وفرت للشعب الحرية والعدالة. إلا أن هذه القوانين لم تكتشف بعد، ولكن حمورابي كان قد استفاد منها عند صياغة شريعته المعروفة.
إن استشراء ظاهرة الفساد في العالم في المرحلة الراهنة، دفع الهيئة العامة للأمم المتحدة إلى الإعلان عن يوم التاسع من كانون الأول من كل عام “اليوم العالمي لمكافحة الفساد”، تأكيداً منها على الأهمية البالغة في مكافحة هذه الظاهرة وانطلاقاً من الدعوة التي أعلنها الأمين العام للأمم المتحدة ومفادها “أنّ الفساد لا يُولِّد إلا فساداً ويقوي من مناعة الهاربين من أحكام القانون الجزائية”. لقد أضحى الفساد بحق جريمة خطيرة يمكن أن تقوض أسس الدولة وتشل التنمية الاجتماعية والاقتصادية في جميع المجتمعات، ولا يوجد بلد أو منطقة أو مجتمع محصناً منها.
لقد وافقت الجمعية العامة للأمم المتحدة على اتفاقية لمكافحة الفساد في القرار رقم A / RES / 58/4المؤرخ 21 تشرين الثاني 2003. وأكدت هذه الاتفاقية على الفهم المتفق عليه دولياً للفساد وطبيعته، وكذلك على التدابير الواجب إتخاذها لمكافحة الفساد. وتقر اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد بأن الفساد يقوض التنمية ويضعف الديمقراطية، ويشل أي مسعى لمكافحة الجريمة المنظمة ومكافحة الإرهاب والتهديدات الأخرى للأمن في العالم. وتهدف هذه الاتفاقية إلى تطوير التعاون لمكافحة الفساد على المستوى الدولي.
وتؤكد اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد على مفهوم “الإثراء غير المشروع”، الذي يعني “زيادة كبيرة في أصول موظف عمومي تتجاوز دخله المشروع ، وهو ما لا يستطيع تبريره بشكل معقول”. ويدرك المجتمع الدولي فائدة الاعتراف بالإثراء غير القانوني “كجريمة جنائية مع سبق الإصرار”، لأن التناقض بين الدخل المعلن والنفقات الحقيقية للمسؤولين الفاسدين أسهل تبريره بكثير من ارتكابهم أعمال فساد محددة. ووفقًا لأحكام المادة 20 من اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد، يتم الاعتراف بالإثراء غير المشروع كأساس للعقوبات الجنائية. وهذا يزيد بشكل كبير من شدة معاقبة المسؤولين الفاسدين، حتى في الحالات التي لم تثبت فيها مشاركتهم مباشرة في أعمال فساد معينة، وبالتالي يخلق ويحافظ على الدوافع لرفض الفساد.
إن الفساد منتشر في كل بقاع العالم، من الصومال إلى نيوزيلندا. وأظهرت نتائج أحد الاستطلاعات التي أجريت بين رواد الأعمال في 127 دولة حول العالم أن الرشوة تحدث في كل سابع معاملة يتم التعامل معها في أروقة الإدارات الرسمية في العالم. وتقدر إحصائيات الأمم المتحدة أنّ هناك من الأموال ما يصل لحد التريليون دولار تُدفع سنوياً لغايات تقديم الرشاوي. وضمن نفس الإحصائية، وُجد أن حجم الفساد المالي في الدول النامية يعادل عشرة أضعاف ما هو مخصص من المساعدات الإنسانية الرسمية. وفي كل عام، تصل قيمة المبالغ المسروقة عن طريق الفساد إلى مايزيد عن ترليونين ونصف ترليون دولار، أي ما يعادل 5% من الناتج الاجمالي العالمي.
مما سبق، يتضح أنّ الفساد لا يمكن وصفه إلاَ بالجريمة، بل وكنمط من أنماط الإرهاب والخيانة الوطنية، بإعتبارها أداة معرقلة لعجلة التنمية الاجتماعية والاقتصادية في جميع بلدان العالم. ويمكن تعريف الفساد على أنّه ذلك السلوك الغير سوي الصادر من قبل الشخص ذو المسؤولية العامة في وظيفته، والذي يأخذ أنماطاً وأشكالاً مختلفة تتراوح بين استقبال وإرسال الأموال بقصد الرشوة، أو ربما تكون عبارة عن شكل هدايا تقدم في غير موضعها الصحيح، علاوة على المعاملات الخفية والغير مرصودة من قبل الجهات الرقابية أو التلاعب بسير الانتخابات وتحويل الأموال وغسيلها أو الاحتيال على المستثمرين. إن الفساد هو استغلال المنصب لتحقيق مكاسب شخصية، ويتخذ أشكالا عديدة. فالفاسد هو السياسي الذي يأخذ الرشوة…. وإنه عضو مجلس المدينة الذي يدفع مقابل نفقات إجازة عائلته من الأموال العامة….وهو المسؤول الذي يطلب الرشاوى من المواطنين مقابل الحصول على المياه النظيفة.
أساليب مواجهة الفساد والفاسدين
ومن بين الأسباب المؤدية إلى انتشار الفساد هو: الطمع في وصول صاحبه إلى رغبة لا نهاية لها في الحصول على المال بغض النظر عن الطريقة غير الأخلاقية. وينتشر الفساد جراء تراجع مستويات الأخلاق والمسؤولية الوطنية عند الإنسان وغياب الوازع الشخصي و النقص في التعليم والتجارب التعليمية السلبية التي يتم تطبيقها في المؤسسات التعليمية، والتدهور في المستوى الثقافي في المجتمع، وغياب الإحساس باحترام العمل عند الأشخاص الذين يعملون سواءاً في القطاع العام أو الخاص، وتجييره للمصالح الشخصية، وانخفاض الوعي بحيث شاع الخوف من مواجهة الفساد والوقوف بوجهه والتصدي له، وبالتالي يصبح المواطن العادي عبارة عن غطاء للفساد وللشخص الفاسد. كما أن وجود فلسفة ثقافية مشجعة على الفساد سواءٌ بالدفاع عن الفاسد أو التحفيز له عن طريق تصوير القيام بعملية فساد معينة بأنها نوع من الشجاعة والحنكة، علاوة على ضعف ردود الأفعال لدى الرأي العام تجاه المظاهر الفاسدة التي تبرز في المجتمع.
تقدم منظمة الشفافية الدولية أفكاراً وطرقاً محددة لإحداث انعطاف في مكافحة الفساد في المجتمعات التي يستشري فيها الفساد وفي مقدمتها:
*سلطة الشعب: الضغط الشعبي بهدف توفير آلية تمنح المواطنين الأدوات ذات الصلة للمشاركة والمشاركة في حكوماتهم، وتحديد الأولويات والمشكلات الرسمية وغير الرسمية، وهذا يعني العمل مع الحكومة وكذلك المجموعات غير الحكومية لتغيير سلوك الإداريين ومراقبة إدائهم.
* استخدام التكنولوجيا لبناء تبادلات ديناميكية ومستمرة بين أصحاب المصلحة الرئيسيين: الحكومة ، والمواطنين ، والمؤسسات التجارية ، ومجموعات المجتمع المدني ، ووسائل الإعلام ، والأوساط الأكاديمية ، إلخ. وبفضل التقنيات الجديدة، فليس هناك حاجة لرصد الكثير من الأموال واستخدام القوة لتسليط الضوء على الفساد. ومن الممكن استخدام وسائل التواصل الاجتماعي ومنصات الإنترنت، مثل I Paid a Bribe ، للحصول على المعلومات وتقديم تقارير شافية عن الفساد في أقصر وقت، حتى دون الكشف عن هويتك. فقد ساعدت تطبيقات الويب والهواتف الذكية مثل Open the Books في الولايات المتحدة على مراقبة الإنفاق الحكومي، بما في ذلك المبلغ الذي يتقاضاه المسؤولون. ويمكن استخدام هذه الأنواع من البيانات لمحاسبة المسؤولين الفاسدين والمضي قدماً في الإصلاحات.
*التوفير الأمثل للخدمات: إن التحسين المستدام في كيفية تقديم الحكومة للخدمات لا يمكن تحقيقه إلا إذا اعتمد الأشخاص في هذه المؤسسات قواعد وممارسات معقولة تسمح بالتغيير مع الاستخدام الأفضل للتقاليد والموروثات المجربة، وهذا بالتالي يؤدي إلى مد جسور الثقة بين المواطن والحكم مما يؤدي إلى دعم المواطن لكل إجراءات السلطة في مكافحة الفساد.
* توفير الحوافز المادية: مواءمة إجراءات مكافحة الفساد مع توفير وتحسين الظروف المادية للعاملين في الأجهزة الإدارية، واعتماد معايير النزاهة عند تعيين المسؤولين والموظفين، خاصة بالنسبة للإدارات الرسمية المعنية بجني الضرائب ودفع الرسوم والتعامل مع الشركات والبنوك الأجنبية والمكلفة بتوقيع العقود مع الأطراف الخارجية. فعلى سبيل المثال، يخضع موظفو الخدمة المدنية في الصين لدورات خاصة يتعلمون فيها كيفية التعامل مع إغراء تلقي الرشاوى. كما يتم تنفيذ العمل الوقائي حتى مع عائلات المسؤولين من موظفي الخدمة المدنية وأزواجهم وأطفالهم، حيث يتم ترتيب رحلات استكشافية إلى السجن ، ليطلعوا على حال المدانين بالرشوة وهم يقضون مدد عقوباتهم.
*إصدار التشريعات والعقوبات الصارمة على الفاسدين: معاقبة الفاسدين عنصر حيوي في أي جهد فعال لمكافحة الفساد. ففي العراق لا يتعرض الفاسد والراشي ولا المرتشي إلى عقوبات تتناسب مع الجريمة التي يرتكبونها. وغلباً ما يفلت الفاسد ببساطة من العقوبة بمحض انتقاله إلى محافظة مجاورة أو إلى إقليم كردستان، و يفلت الفاسدون من العقوبة جراء تسييس السلطة القضائية وتعرضها لتدخلات قوى سياسية تدعم الفساد. وهذا أحد الأسباب الرئيسية لشيوع الفساد بشكل خطير في العراق. لقد إستطاعت الحكومة الصينية، على سبيل المثال، الحد من الفساد عندما لجأت إلى تشريع وتطبيق أقسى القوانين لمكافحة آفة الفساد. وتتراوح عقوبة قبول الرشوة من عدة سنوات للهدية الخفيفة إلى عقوبة الإعدام. وعلى مدى السنوات العشر الماضية، تم إعدام 10 آلاف مسؤول، وحُكم على 120 ألفًا بالسجن لمدة تتراوح بين 10 و 20 عاماً. ولا يمكن لمقدمي الرشوة أيضاً الإفلات من العقاب، فهم شركاء في نشر هذه الآفة. وهكذا إستطاع الصينيون تقليص الفساد الحكومي بنسبة 221٪. وفي كوريا الجنوبية ، لعب قانون مكافحة الفساد ، الذي دخل حيز التنفيذ في كوريا الجنوبية في 1 كانون الثاني عام 2002، دوراً رئيسياً في مكافحة الفساد. حصل كل مواطن بالغ على الحق في بدء تدقيق ضد أي مسؤول. ألزم القانون هيئة مكافحة الفساد الرئيسية في البلاد عبر لجنة التدقيق والتفتيش. وأدت سياسة انفتاح أداء الجهاز البيروقراطي وعمل قوانين مكافحة الفساد بإنتقال كوريا الجنوبية إلى المركز الخمسين في تصنيف منظمة الشفافية الدولية في سجل مكافحة الفساد.
* العمل على تشكيل هيئات مستقلة لمكافحة الفساد إلى جانب الهيئات الرسمية المعنية بمكافحة الفساد. لقد كان الفساد في هونغ كونغ – الصين شائعاً في عقود سابقة، وشمل الفساد 90٪ من موظفي الخدمة المدنية. وفي عام 1974، تم تنظيم هياكل مكافحة الفساد وتشكلت هيئة تسمى “الهيئة المستقلة لمكافحة الفساد” التي حددت أجوراً عالية جداً لموظفيها وضباطها الذين يتابعون مرتكبي الفساد ويقدمون تقاريرهم إلى الحكم. وكان على موظفي الخدمة المدنية إثبات أنفسهم أن الممتلكات قد حصلوا عليها بشكل قانوني، إذا لم ينجحوا في ذلك، فسيواجهون الاعتقال ومصادرة ممتلكاتهم. كما برز دور كبير للمواطنين في محاربة الفساد، الذين شاركوا في عمل الهيئة المستقلة من خلال الشكاوى وإبلاغ السلطات بقضايا الرشوة والفساد. كانت النتيجة واضحة ، فقد انخفض الفساد في القطاع العام في هونغ كونغ من 94٪ إلى 2-3٪. واحتلت هونغ كونغ المرتبة 12 في مؤشر مكافحة الفساد لمنظمة الشفافية الدولية في عام 2017.
* ولابد أن تلعب وسائل الإعلام، من صحافة ووسائل الإعلام المرئية والمسموعة، دورها الفعال في درء خطر الفساد في المجتمع عن طريق نشر التوضيحات والمقالات والأمثلة والمسلسلات التلفزيونية والأفلام والتجارب العالمية في مكافحة هذه الآفة، علاوة على نشرالإعلانات والدعاية ضد هذه الآفة، ناهيك عن الاستعانة بنشر الملصقات والرسوم الكاريكاتورية في تحقيق هذا الهدف. وينبغي أن تساهم بنشاط النقابات والاتحادات المهنية للكتاب والأدباء والفنانين بدورها الفعال في حماية البلاد وشعبها من هذا المرض الخطير، عن طريق العمل بتنظيم حملة وطنية شاملة يتصدرها حملة الفكر والابداع الفني والأدبي ومنظمات المجتمع المدني التي لها تاثير غير قليل على الرأي العام في البلاد. ويمكن لمثل هذه الحملة الوطنية أن تشكل ضغطاً كبيراً على السلطات الثلاث وعلى الفاسدين من أجل انقاذ البلاد من هذا الشر، وأن تفرض على السلطات الثلاث المزيد من الضغوط لإتخاذ خطوات جدية وتشريعات ضرورية لتحقيق الهدف. ومن أجل تربية الجيل الجديد بروح المسؤولية الوطنية والحذر من الوقوع في شباك هذا الداء الخطير، يجب إضافة مواد في مناهج التربية الوطنية لفضح الفاسدين والفساد بإعتبار عاملاً معرقلاً لتقدم البلاد ورفاه الشعب العراقي. ويمكن أن تلعب وزارة الثقافة ودوائرها في المحافظات هي الأخرى دورها الفعال في رفع الوعي الاجتماعي تجاه هذه الممارسات الخطيرة.
لقد مرت شعوب ودول بنفس المحنة التي يتعرض لها العراقيون الآن بسبب الفساد وتداعياته، ولكنها استطاعت أن تتغلب على هذا الداء بعزم مواطنيها واستجابة حكامها . فعلى سبيل المثال، دولة مثل السويد التي كانت غارقة في لج الفساد في منصف القرن التاسع عش، وتحولت الآن إلى دولة تتصدر الدول في خلوها من هذا الداء الخطير. لقد أصبح الصدق والنزاهة والخبرة والوطنية معياراً مرموقاً في مؤسسات هذه الدولة، بدلاً من معايير الانتماء الطائفي والعشائري والديني والمذهبي والعائلي الذي يطغي على أقطاب الحكم وينخر في عقول الناخب العراقي ويخدع الرأي العام في البلاد.