د. فالح بن شبيب العجمي –
الحرية والحقيقة
توجد بالتأكيد تراكمات من تصورات مفهومي «الحرية» و«الحقيقة» المختلفة كليا في الشرق عنها في الغرب، وتطورت في ضوء ما توصلت إليه كل من الكتلتين بشأن تتبع مصادر الانعتاق من القيود من جهة، واليقين عند الإنسان المرتبط بتصور الكون وعلاقاته به في كل الأزمان، ودوافع سلوك الإنسان نحو بعض المسلمات اليقينية؛ انطلاقا من العقل البدائي، ثم الميتافيزيقي، وأخيرا التجريبي. صورة من معرض فني “تعبيرات الحرية” في تونس
بالنسبة للشرق القديم كانت هناك محاولات من مفكريه بالتزام كلام الأنبياء والحكماء، وكل ما يعتقد بأن الميتافيزيقا تفرضه بوصفه إطارا لحرية الفرد، وبقيت تلك القيود مفروضة بشدة في كل الحقب المختلفة من حياة شعوب الشرق. كما أنهم، فيما يخص أطر الحقيقة، خائفون من تبني نظريات بأي شأن مهم من شؤون حياتهم ومستقبلهم؛ ومن أجل ذلك كانوا كلما تقادمت بهم العصور، ونسوا تعليمات السماء، أو تقادمت عليهم، ولم تعد تلبي حاجات عصرهم، التفوا حول نبي جديد، أو حكيم يفسر لهم أمور الكون من جديد، ويطمئنهم بأن مستقبلهم بخير.
أما في الغرب، الذي يمكن اعتبار أولى مراحله الفكرية المستقلة ما توصل إليه فلاسفة العقل في مرحلة التنوير، من أن حرية الإنسان مطلب مستقل بحد ذاته، وأن الانتقاص منها مثل الاعتداء على جسد الإنسان فيزيائيا؛ كما أن هناك علاقة وطيدة بين الاهتمام بالمعرفة وتطور آليات العقل البشري. فقد التزم كانط في «نقد العقل المحض» ببناء نظرية للمعرفة؛ تبين ما يجب أن تكون عليه بنية الشخص العارف وطبيعة الشيء المعروف، حتى تأمن موضوعية المشروع الفيزيائي، منذ كوبرنيكوس وغاليلي، وصولا إلى نيوتن ولافوازييه. هذه النظرية أدت – كما هو معروف – إلى إبراز شرعية المعرفة العلمية، ووهم المعرفة الميتافيزيقية، المعرفة التي تطمح في الوصول إلى المطلق. فقد حدد الوضع الميتافيزيقي للعلم، والوضع العلمي للميتافيزيقا؛ وهو في هذا عرض مسألة ترتبط ارتباطا وثيقا بالمنطق، أي بمصداقية الأحكام التركيبية القبْلية. فالحكم بأن لكل حدث سببا يحدث، حكم قبْلي لا يرتكز إلى التجربة. فنحن لا ندرك الأحداث التي سوف نختبرها، لكننا واثقون سلفا من خضوعها لقانون السببية الذي لا يستمد من تصور الحدث.
وقد كان كانط ينظر إلى العقل البشري المنظم للتجربة الحياتية والمشرع للطبيعة، ليس على أساس المبادئ الفطرية التي أقرها ديكارت من قبل، بل بوصفه هو نفسه جملة من القوالب القبْلية (صورتا الزمان والمكان والمقولات) التي هي مكونة من قوالب فارغة تملؤها الحدوس الحسية، فتحول إلى معرفة، هذه الحدوس التي تظل عمياء من دون تلك القوالب، حسب تعبيره.
الشرق لم يقدم بلورة جديدة لمفهوم الحرية
وإذا أتينا إلى الشرق الحديث، فإن عددا من التغيرات الهامشية قد حدثت؛ لكن الأسس الجوهرية لمفهومي «الحرية» و«الحقيقة» بقيت كما هي. فلا نجد في أي من بلاد الشرق التقليدية (وليس الشرق الجغرافي) أي بلورة جديدة لمفهوم الحرية؛ إذ بقيت في الثقافة العربية، على سبيل المثال، تعني الخروج من السجن أو المكان المحدود، أو إذا وصف بها إنسان، فتعني حالة اجتماعية تقابل من يوصفون بالعبودية. ولذلك نجد أن الناس يمكن أن يوصفوا بها على الإطلاق، سواء لعلو النسب، أو لاجتماع عدد من الفضائل لا تتوافر لمن ليسوا من الأحرار. وإذا أريد مدح امرأة بأن أخلاقها فاضلة قيل: «حرّة»؛ بل إن بعض الصقور الأصيلة يطلق عليه «حرّ». ليس هناك تنظير فكري لمبدأ «الحرية» الفردية أو الجمعية، وحتى عندما طالبت شعوب الشرق باستقلالها، فلم تكن الحرية من ضمن المطالب التي كانوا يسعون إليها، بل تركزت رغباتهم في طرد المستعمر، وأن يحكمهم مستبدون من أبناء جلدتهم. وفي شأن الحقيقة، بقيت أطر هيمنة المقولات العامة التي أسسها الأسلاف هي الثقافة، التي تُقبل على أساسها أي نظرية أو رؤية كونية أو مجتمعية. فلم تدخل أي من المجتمعات الشرقية مرحلة الحقبة التجريبية، إلا إذا كان الأمر لا يتجاوز جزئية علمية بحتة، لا تمس عناصر الكون، أو محددات الحياة البشرية. فكان كل ما يتعلق بتصورات الحقيقة منطلقا من الثابت، ويوصف بأنه مطلق بالكامل، وغالبا لا يتعرض إلى تعديلات أو مراجعة.
أما في الغرب حديثا، فإن تلك النقلة التي قام بها فلاسفة التنوير قد استمرت، وتطورت في اتجاه هيمنة الفرد على مبادئ التنظيم المجتمعي؛ وهو ما يعني إعطاء مزيد من الحرية الفردية، وعدم جواز الانتقاص منها بأي حال، وتحت أي ظرف كان. وهو ما أصبح واحدا من أركان الدساتير الغربية الحديثة، بل ومبادئ حقوق الإنسان التي أقرتها هيئة الأمم المتحدة عام 1948م. كما ترسخت فلسفة أن ما أصبح الإنسان يطلق عليه «الحقيقة» في مجال البحث المستمر ذاك، ليس انعكاسا أو نسخة من منطوقات مبثوثة في بنية الواقع؛ واقع جرى تصوره بسذاجة بما هو وجود في ذاته خاص بالوقائع المنتظمة بحسب قوانين معينة. بل إن الحقيقة، وعلى النقيض من ذلك، تعني الكيفية التي ينتظم وفقها الواقع؛ الواقع كما نمارسه انطلاقا من مصالحنا المتغيرة، وتلبية هذه المصالح ولو ظاهريا؛ يعني أنها صارت ضرورية اجتماعيا، ومفصلة حول ألعاب اللغة النوعية. وفي الواقع إن مجموع هذه القيم التعبيرية التي تشكل قوة اللغة تمثل في الوقت نفسه جزءا كبيرا من ثقافة المجتمع، وهو ما يسميه فوكو «منظومة الحقيقة»؛ حيث يرى أن الحقيقة ليست خارج القوة، بل إنها جزء من هذا العالم ينتج بواسطة صيغ متعددة من الإكراه، يؤدي إلى تحولات منتظمة من القوة، فكل مجتمع لديه منظومة للحقيقة، ما يشكل سياسته العامة إزاء الحقيقة. تتضمن هذه المنظومة أنواع الكلام المقبول، والذي يصلح أن يصبح حقيقة، كما تشتمل على الآليات التي تمكن المرء من اختيار المقولات الصائبة وتستبعد الخاطئة، والأدوات التي يعاقب بها كل من يخالف تلك المعايير؛ بمعنى أن مهمة هذه المنظومة إبراز ما يصلح أن يعد حقيقة إلى الوجود.
فما الذي نتج عن كل من المنهجين؟
في الواقع إن الشرق الحديث بقي رغم ادعاء بعض منظريه التزام الحداثة والمعايير العالمية المعاصرة، بعيدا عن التفاعل مع تلك التطورات الفكرية التي أصبحت عالمية بشأن حرية الإنسان وقدسيتها. فكان الفرد يُضطهد في أسرته، ثم توضع له القوالب المحددة لكل نظام حياته في بيئته الصغيرة، وكذلك في مجتمعه الكبير. أما ما يخص رؤية الحقيقة، فقد نتج عن تلك التصورات غير الفردية وغير الواقعية في كثير من الأحيان، أن أصبح في خصام مع العقل. وذلك لأن «المطلق» ليس قائما وفق قواعد العقل ومساءلاته، فالعقل لا يقين له على الإطلاق، كما أن اليقين مضاد للعقل. وبالتالي، فالعقل لا يقر إلا بنسبية الحقيقة، لا باليقينيات التي مجالها الذات والوجدان. وكان العقل دائما موجودا لدى البشر، لكن ليس دائما بشكل عقلاني؛ حيث تتناوبه على مر العصور، وحتى عصرنا الحاضر، معادلة المنطق والأسطورة.
ثقافة المجاز
ومن هنا يتضح أن الحقيقة في الشرق الحديث ترتبط دائما بنسق تصوري يتحدد في جزء كبير منه بواسطة المجاز؛ فهي دائما لا تكمن فيما يقال، بل فيما يضمر في نظام الخطاب، لا سيما إذا كان متصلا بالمجاز. وكثير من تصوراتنا المجازية استوطنت في ثقافتنا عبر مراحل زمنية طويلة، لكي تصبح جزءا من تصور الحقيقة. والمشكلة العظمى في مثل هذا الوضع أنها تصبح مركز استقطاب، فثم أناس يسعون إلى فرض تصوراتهم المجازية على الثقافة، ليحددوا ما الذي يجب على الناس أن يعدوه حقيقة موضوعية ومطلقة.
تصوراتنا المجازية استوطنت في ثقافتنا عبر مراحل زمنية طويلة، فأصبحت جزءا من الحقيقة
لهذا السبب على المرء أن ينظر بشك إلى أسطورة الموضوعية عند التعامل مع قضايا الحقيقة، ناهيك بمسألة الإطلاق التي تستلزم الإحاطة بكل العوامل التي تنسب إليها الحقيقة من أجل تصور كامل للحقيقة بكل أبعادها، وهو أمر مستحيل. وحيث إن الحقيقة قائمة على الفهم، وجميع التصورات المجازية التي تدخل في ثقافة كل مجتمع هي العربة الأساسية للفهم، فإن التفكير بأن ذلك المجاز سيكون حقيقة هو السبيل لجعل الحقيقة تعتمد على المجاز؛ فتصبح بالتالي حقيقة أي جملة متناسبة مع الطريقة المعتادة لفهم العالم من خلال هذا الكيان البنيوي الذي ينظر منه إلى الواقع.
وفي المنهج الغربي، كانت النتائج مزلزلة لفرضية تناسب قفزات البشر في مجال الفكر التطوري، فقد سيطر هذا الفكر الغربي على تصورات الشعوب الحديثة، وكوّن معايير المنظمات الدولية، وأصبحت جمعيات حقوق الإنسان والمنظمات غير الحكومية فاعلة على أسس من تلك المعايير. فلم يعد مجال الحرية أمرا خاصا بالفرد أو مجتمعه، أو حتى الكيان المؤسسي الذي يعيش فيه، بل أصبح كونيا يتعدى حدود المجتمعات وسيادة الدول. ومع نشأة المنظمات العالمية المعنية بهذا الشأن، وإجراءات العولمة الشاملة في كل شؤون الحياة تقريبا، وفي أغلب دول العالم المتقدم، أصبحت قضية الحرية الفردية والحقوق الإثنية والدينية على رأس أولويات تلك المطالبات.
وبالنظر إلى تأثير تلك المتغيرات الكبيرة في أحداث التواصل، فإن نظرية الفاعلية التواصلية بوصفها تجسيدا لجدل الحداثة المعيارية والأخلاق التواصلية، تؤكد على الحقيقة بأنها إنتاج عملية تبادل البراهين والحجج، وهي، بالتالي، تتويج لاتفاق ذي طبيعة جماعية، وهذا ما يسميه هابرماس: «النظرية الاجتماعية للحقيقة». وهنا يكون مفهومها قائما على كونها نتيجة فكرية وليست واقعا. بالطبع كان لهذه التطورات جوانب سلبية مصاحبة، تمثلت في تشظي الفكر الفلسفي الغربي المرتبط بمباحث الحقيقة. وهو من المتغيرات التي أصابت الدرس الفلسفي الغربي القديم في مقتل، لكنه بدأ يتعافى في حقول بينية أخرى، منها: الظاهراتية، والتأويلية، والدراسات الحجاجية في أطرها المتعددة. وأصبحت مفاهيم «الحقيقة المجردة»، التي هي مناط العقل المحض، نسبية تقوم على إعادة النظر الدائمة، فالعلوم اليوم تعتمد على البرهنة الدائمة على ما ينتقصها في سيرورة لا تنتهي في اكتناه حقائق الكون والعالم، فقد غدا تاريخ العلم ليس تاريخ الحقائق التي توصل إليها، بل تاريخ أخطائه.
الخلاصة، أنه بسبب هذه الفروق الجوهرية في مفاهيم الشرق والغرب لهذين المبدأين الرئيسين في ممارسات الفكر البشري، نجد كل منتمٍ إلى أي من الثقافتين لا يفهم، لماذا تكون لواحدة من التجارب، أو لإحدى المقولات، أهمية كبيرة عند المنتمي إلى الثقافة الأخرى، بينما لا تعني له شيئا ذا بال، فعندما تحدث البابا السابق (ابن الثقافة الغربية الحديثة، حتى وإن كان يتبوأ مركزا دينيا على رأس الكنيسة الكاثوليكية) عن ثقافة الشرق الإقصائية، قامت الدنيا ولم تقعد في الشرق، لأنهم يستدعون التاريخ، ويتصورون أن منطلقاته صليبية عدوانية، والأمر كذلك في نظرة الغربيين إلى ما يراه الشرقيون حقا لكبار العائلة على صغارها، أو لرجالها على نسائها، في حين يراه الغربيون افتئاتا على حق الفرد في العيش على أساس خياراته. قد تصدق باستمرار المقولة القديمة: الشرق شرق، والغرب غرب، ولن يلتقيا!