شاعر العراق والعرب محمد مهدي الجواهري
عندما ننظر إلى مشهد الشعر الشعبي أو العامي العراقي نفرز فيه، النعيب بالكراهية والطائفية والتغريد بالتعايش والمواطنة، وما بين الصنفين هو ما بين الأغربة والبلابل، صوت يذكر بالموت والنحوس وآخر يمد بالانشراح، وكان أهلنا يقولون عند سماع تغريد البلبل مع انبلاج ضوء الفجر: إنه “يقرأ القرآن”، “وَقُرْآَنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآَنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا”(الإسراء: 78) تعبيراً عن جمال الصوت وحِسن الهيئة، أما الغراب فمعلوم أمره. هذا هو الفارق في نظري بين القصيدة الشعبية الناعبة بالبغضاء والانتقام وأخرى المغردة بالمواطنة. الفارق بين قصائد الدَّم وقصائد السلم! بين قصيدة “يا ليل البنفسج” ذات الشَّجن الجميل، وقصيدة “خل الدم يجي طوفان كلنه نخوض عبرية” ذات الانتقام والثَّأر، والشَّاعر واحد! وهو المجيد الصنعة في القصيدتين وبقية القصائد، لكن المشاعر تختلف، وبطبيعة الحال نتحدث عن يومنا هذا، ولا نحاكم مشاعر قبل خمسين أو ستين عاماً.
يلعب الشعر العامي أو الشعبي العراقي دوراً مؤثراً في الحياة الثَّقافية العراقية، محبباً عند طبقة واسعة؛ يعبر عن أحزانها وأفراحها، وشاع كثيراً في المجالس الحسينية ومواكبها، وفي الذِكر الصوفي، وهو على أنواع: القصيدة، والموال (الزهيري) والأبوذية والدارمي، وكل واحد من الثلاثة الأخيرة يعتبر قصيدة كاملة، أما الدرامي فهو بيت واحد من شطرين يعبر عن قصة أو حدث، مثلما هي تغريدة التويتر، حسب ما سمعته مِمن أُعجب بهذا الضرب مِن الشِّعر مِن الإماراتيين.
كان يُسمى في الفترة العباسية المتأخرة بـ”الكان كان”، على أنه أدب العامة لا شأن للخواص به، حسب مقدمة مصطفى جواد(ت 1969) لكتاب «الجامع المختصر» لابن الساعي (ت674هـ) أن ابن الأثير (ت630هـ) ذكر في كتابه «المثل السائر» قائلاً: «إن العامة ببغداد ينظمون شعراً عامياً، فيأتون بمعانٍ لا يقدر عليها الفصحاء من الشعراء».
وهذا ما جاء به ابن الجوزي (ت597هـ)- قبل ابن الأثير- قال: «مَن خالط أهل بغداد وعلماءها عرف فضلهم ولطفهم، ومَن تأمل لطافة العوام بها في مجونهم وحديثهم وإشاراتهم، التي لم يفهمها أكثر علماء غيرها من البلاد، حتى أن يفهم مَنْ يقول الشعر المسمى: كان وكان، فيأتي بمعانٍ لا يقدر عليها فحول الشعراء»(مناقب بغداد). حتى تلك السنوات لم يدخل الشعر الشعبي إلى الملحمة الحسينية، فمجالس رثاء الحسين كانت قبل الصفويين (مطلع القرن السادس الميلادي) تقتصر على النَّياحة والمدائح بالفصحى، وكذلك الحال بالنسبة للمولد أو الذِكر الصوفي.
قال ابن الساعي في ترجمة ابن نقطة (ت597هـ)، أحد الشعراء العاميين أو الشعبيين حسب لغة العصر: «مُجيد صنعة الغناء، وعمل كان وكان، غاية في ذلك، يأتي بالمعاني اللطيفة، وكان أخوه الشيخ عبد الغني زاهداً، صاحب معاملة، منقطعاً إلى زاوية ليعبد الله فيها، وله مريدون منعكفون عليه، يعتقدون فيه ويتبركون به، فعل أبو منصور هذا: أنا مغني وأخي زاهد/ عمل مره/ بيرين في دار ذي حلوه وذي مره» (الجامع المختصر). كان ابن نقطة مسحراتي، ويصنع خفاف النساء، وكلا العملين يشير إلى شخصيته ومعاني شعره، قال عنه الذهبي (ت1031هـ): «مزكلش ينشد كان وكان، ومواليا في الأسواق، ويسحر الناس في رمضان، فقيل له: أخوك زاهد العراق، وأنت هكذا، فأنشد مواليا…»(شذرات الذهب).
ومع حصر قول هذا النَّوع من الشعر في العامة فقط، إلا أن ابن الفوطي(723 هـ) ذكر شعراً عامياً لأحد الخواص، وهو ابن الطراح (ت690هـ)، يحرض فيه كاتب الدولة على قتل مهذب الدولة ابن الماشعيري، قال: «جمال الدين العلي يا ملك من يا ملك/ عجل بقتل المهذب قبل أن يقتلك.. وأنظر إلى صاحب الديوان ومجد الملك»(الحوادث الجامعة/ ظهر منسوباً له).
غير أن أفضل منْ أرخ لهذا الفن هو الرحالة ابن سعيد الأندلسي (ت685هـ)، في «المقتطف من أزاهر الظرف». قال صاحب «نفخ الطيب من غصن الأندلس الرطيب» في ترجمته: «الشهير بالمغارب والمشارق، العجيب الشأن في التجول في الأقطار». زار ابن سعيد بغداد في زمن آخر خلفاء بني العباس المستعصم بالله (قتل 656 هـ)، وسافر عبر دجلة من بغداد إلى البصرة، وسجل الكثير من لسان الملاحين، وجعل كتابه على خمائل، خص الشعر العراقي بالخميلة الحادية عشرة. وقد ربط الشعر الشعبي بالأهوار فالبطائح هي الأهوار. قال: «ويعرفونه أيضاً بالبطائحي لِتَولُّع أهل البطائح به، وأكثر ما حفظته من الملاحين في دجلة»(المقتطف…)، وهو مازال كذلك.
ومما سجله في رحلته: «أيا قاصد الحِلاَّ بالله إن جيت إلى بابل/ سَلهُم مما سَحروني للسِّحر أنا مُعْتَاد .. وكلَّ سِحر يُطبُّو المَاهر الحاذق/ إلا الذي باللَّواحِظ مَنُونُ في الأجياد».
حسب ما لاحظناه من تاريخ الشعر الشعبي، في الربع الأخير من العهد العباسي، أنه شعر العوام لا الخواص، يعبرون به عن هواجسهم وأحاسيسهم، وبلغتهم السهلة التي تجري مفرداته من دون تكلف وتقعر. ومن الخطأ أن نعدَّ العامية بعيدةً عن أُصول لغوية، بل مِن دون معرفة النَّحو والصرف تجد العامية، في عدد من النَّواحي، أصح كثيراً من كتابة الفصحى الحديثة، والمنحوتات العجيبة، من قبيل المأسسة والتمسأس، ويعني قيام المؤسسات!
فلا يجر لسان العامي المدن أو البلدان إلا بحرف “الباء” مثلما ورد في القرآن، وأدب الجاحظ (ت 255 هـ)، وأبي حيان التوحيدي (ت 414 هـ)، فمن الثقل والتعذر أن يُقال: «في بغداد» أو «في العراق» إنما السهل والجاري: «ببغداد»، و«بالعراق»، مثلما جاء في القرآن: «ببابل»، و«بمكة». إلخ. ومَنْ يرصد وجود الألفاظ والمفردات الآرامية والسريانية والفارسية والتركية سيجد الكثير منها، بمعنى أنها لغة حيَّة تؤثر وتتأثر.
عبود الكرخي
لقد أمست اللغة الشعبية مؤثرة، ليس في أهلها حسب، إنما في ما كان يُعرف بالخاصة، والسبب أنها لغة تلقائية تعبر من دون مواربة، ويتجلى من مفرداتها الصدق، ولها حيلها أيضاً في التكني والتورية، ويكفيها أن «الحسجة»(التورية) من اختصاصها، إضافة إلى أنها لغة السواد الأعظم. لهذا أنها لغة مخيفة في السياسة والاجتماع، فلابد من أخذ الحذر في ما يؤذي المجتمع منها، من قبيل الطائفية وإشاعة الكراهية.
لقد حرمت السلطة السابقة نشر أو مهرجانات «الشعر الشعبي»، وحينها فسرنا القرار لأن معظم شعرائه كانوا من أهل اليسار، وأن الحزب الشيوعي العراقي شجع كثيراً ظهور هذا الفن ودخوله في السياسة، وفي صحيفته الرسمية “طريق الشعب” صفحة خاصة تنشر لشعراء محترفين وهواة، وفيه عبر سجناء الرأي أو السياسة به عن مطالبهم، إلى جانب ذلك ما يقتضيه العزاء الحسيني من الرثاء في هذا الضرب من الشعر. غير أن بلدة مثل النَّجف، وعلى الرغم من عظمة عاشوراء هناك، إلا أن صادرها الأول كان القصيدة الفصحى، بل ومن أعاظم الشعراء هم من دائر النَّجف. لكنها لم تحرم ما يناسب إعلامها، فقصيدة فلاح عسكر (قُتل 1991)، المملوءة بالتحريض على العنف والممجدة لحزب السلطة كانت شائعة.
لا نحسب الشعر الشعبي عامل تخلف وتراجع إلا بمحتواه، لكن أن يغزو مناحي بغداد العلمية والأدبية اليوم، يتطلب وقفة وتأمل، فما نستغرب له أن جامعة “الحكمة” تقيم مهرجان الشعر الشعبي! وأن بالجامعة المستنصرية يجري تذكار انفجارات بغداد، من أحد دامٍ، أو ثلاثاء دامية، عبر الشعر الشعبي، وما في طيات القصائد من رمزيات سياسية، يلعب الشاعر فيها على الأحاسيس، فهو يعتمد المفردة الجارحة والإلقاء المسرحي، ولو فحصت قصائد الغالب منهم لوجدتها ليست بالقصائد.
أرى أن تبادر السلطات المسؤولة لإبعاد مهرجانات الشعر الشعبي عن المؤسسات العلمية بالذات، فقد ينسجم هذا النَّوع من الشعر مع رئيس هذه الجامعة أو تلك، وهم ليس من الأكفاء علمياً وأكاديمياً، إلا أن منابرها لا يجب أن توظف رغبة لرئيسها، هناك نقابة للشعراء الشعبيين، ومهرجانات دورية تتولى أمره.
لسنا ضد الشعر الشعبي، وهو النبطي مثلما يسمى بمنطقة الخليج والجزيرة العربية، بل على العكس نحفظ منه الكثير، وفي فترة مضت لنا قصائد، بل تجده مشاعاً بمناطق جنوب العراق حتى لا تكاد تميز فيها شاعراً فالكل يقوله، مع اختلاف الدرجة، وهو أيضاً محبب جداً عند أهالي أعالي الفرات وممَن يحسنون العربية بالمناطق الشِّمالية، وعلى وجه الخصوص ما يُلقى منه باللهجة الجنوبية. لكن ما نراه اليوم أنه ابتعد عن أغراضه الإنسانية، كالعاطفية والوطنية، وأخذ العديد منه يعبر عن مشاعر طائفية وبألسنة مؤثرة في العوام، ومعلوم أنه بعد أن منع في أواسط السبعينات، من القرن الماضي، قد عاد إلى الساحة خلال الحرب العراقية الإيرانية، واستخدم في تمجيد السلطة آنذاك، بل هناك مَن استخدمه لتكريس العنف والكراهية ضد المخالفين، وأخذت القصائد تذاع على الجمهور، وبالمقابل استخدمه المعارضة آنذاك ضد السلطة.
لم يكن الشعر الشعبي سهل النظم، بمعنى له أوزانه وأُصوله، وربما أعظم شاعر عراقي في القصيدة الفصحى ليس بمقدوره أن يقول بيت “أبو ذية” أو “دارمي”، أو بضعة أبيات، فقد ذُكر لي أن محمد مهدي الجواهري (ت 1997) قد سمع بيتاً من الأبوذية، وهو يعيش حينها بمدينة علي الغربي، وأُعجب به أيما اعجاب، واعتبره بيتاً فلسفياً، وسهر الليل محاولاً أن يجاريه ببيت إلا أنه عجز، فقال: “الشعر ما لم يقدر عليه الجواهري”! على أية حال، ما زلنا نردد قصائد الشَّاعر الشعبي عبود الكرخي (ت 1946)، ذات النقد اللاذع للاجتماع والسياسية، باللهجة البغدادية، وما زلنا نتذوق قصائد كبار شعراء الشعر الشعبي بلهجة أهل الجنوب والفرات الأوسط، وأجمل الأغاني تلك التي نصوها قصائد شعبية، القصائد التي نسمعها في الشحن الطائفي مخيفة، خلعت عن هذا الشعر جماله، وحرفته عن التعبير عن المشاعر الإنسانية، قصائدة تجرح الذائقة وتكرس الكراهية! أقول عسى أن لا يسود نعيب الأغربة على تغاريد البلابل.