تمهيد
قال لي أحد الحضور من الأجانب، بعد تقديمي عرضاً عن الحضارة السومرية في المتحف البريطاني: (أرض تنجب تلك الحضارة، أكبر مدعاة للفخر والاعتزاز)…قرأت في عيونه أسئلة محيّرة: لماذا أنتم هنا؟ هل ستعودون يوماً؟ الأ تحنّون لأرضكم؟…أرى الأسئلة مرتدة نحونا كعراقيين مغتربين، فأجيب عليها، بأسئلة أيضاً: من منا من لم يتوقد في داخله يوماً ذلك التوق لجذوره؟ من منا، من لم يتقلب على جمر الحنين، الى أرض تركناها مرغمين؟ من منا لم يحلم بعودة الى ذلك المكان، بين أهله ومرابعه
وسالف زمان؟…فينا من كتب شعراً ونثرا هياما بموطن لم يبرح القلب، وبيننا من حلف بأنه سيعود زاحفاً على ركبتيه لأرض العراق….. من رحلة كلفتنا ربع قرن من تقويم وتهريم، من حسرات وذكريات وخيبات، من شباب واغتراب وأعطاب، من أشواق ومشاق وأرق وترقب…كان الوطن غنوة وجنة لأحلامنا، فهل صار مذبحاً لها؟…هل كل ما خاطرنا من أجله وما فعلناه وما قلناه عن الحرية والجمال والخير والعدل، كانت مفاهيما طوبائية غير واقعية، وأوهاماً متواصلة صحونا منها؟ كم منا من عاد متأثراً من رحلة قام بها الى العراق مؤخراً؟ ربما أصبح قدرنا في وطننا أو في خارجه كما سرتني صديقة، أن نعيش أما متسولين أو متوسلين…وربما تغير مفهوم الوطن المرتبط بالانتماء في تفكيرنا، لأننا ما عدنا نشعر بأنه ملكُنا ومنا ولنا…ليكون أشمل وأعمق من مفهومه الجغرافي…من شروط الوطن، المواطنة، وللمواطنة واجبات كما لها حقوق، ما هي واجباتنا وحقوقنا؟ وما هو مفهوم المواطنة؟…قد يختلف العراقي في علاقته وتعلقه بأرضه عن بقية الناس، هاجر اللبناني والسوري الى أفريقيا وأمريكا بدافع تحسين الموارد المالية وفرص الاستثمار والتجارة، وتشتت العراقيون في كافة أصقاع الكون لظروف قمع وقهر وحروب وفكر شمولي لا يتناسب مع الديمقراطية…ورغم مرور أكثر من ثماني سنوات ” حرية وديمقراطية “… ما زلنا هنا…واقتصر حنيننا لزمان وليس لمكان، و لربما انطفأ تعلقنا بوطننا وخبا رماداّ و صورة باهتة لا تستثيرنا ولا تهزنا كما كانت…لماذا؟ من نحن؟ ماهي هويتنا؟ وكيف نفكر؟ وكم هو عددنا؟…يصعب الاجابة على هذه الأسئلة، كما يصعب الاستناد على أرقام واحصائيات لحصر عدد المهاجرين العراقيين، لأن الإحصاءات الرسمية غير متوفرة، وفي حال وجودها، غالباً ما تكون غير دقيقة وغير مضبوطة، لعدة أسباب، منها أن العدد عنصر متحرك، حيث مازالت الهجرة مستمرة من العراق، وهناك تغير، ناتج من الولادات الجديدة والوفيات في الخارج، والكثير منها غير موثق في السجلات الرسمية العراقية…وحسب تقارير الأمم المتحدة فإن اللاجئين العراقيين هم أكثر اللاجئين تشتتا في العالم، إذ يتوزعون على أكثر من ثمانين بلد، هذا إضافة إلى البلدان الأخرى التي يقيمون فيها ولكن ليس بصفة لاجئين، مثل البلدان العربية .
توجهات رسمية لاحتواء جانب من ظاهرة هجرة العراقيين أو العراقيين في المهاجر
تنحصر توجهات الدولة في إطار الاستفادة من الكفاءات العلمية والتربوية في الخارج، باعتبارها رافدا من روافد الثروة البشرية…رغم أن هناك كفاءات فاعلة وأخرى عاطلة ولو حملت شهادات عالية حيث انها لا تمارس تخصصاتها…وانتبه المسئولون الى أهمية ذلك المورد الداعم لنهضة البلد، فعُقدت مؤتمرات واجتماعات وورش عمل، وأجريت بحوث ودراسات بجداول وأوراق عمل، وخرجت بتوصيات ومقترحات وتشكيل لجان وهيئات وإعلام، والنتيجة؟ كلام في كلام.
يقول مسئول في وزارة الهجرة والمهجرين:
(ان الوزارة تمنح العائدين 4 ملايين دينار عراقي [كيف يمكن اصدار قرارات بمنح أموال الى مهاجرين ومهجرين دون تخطيط ومعرفة دقيقة بالعدد؟] وهي تعمل على اندماج العراقيين الراغبين بالبقاء خارج العراق، ولدى الوزارة خطة لافتتاح مكاتب في عدد من البلدان التي تنتشر فيها الجاليات العراقية. ومن جانب اخر دعت وزارة الهجرة والمهجرين الكفاءات العلمية في دول المهجر إلى التواصل معها عبر موقعها الإلكتروني، و إن استمارة أعدت لغرض التواصل مع الكفاءات العلمية العراقية ومعرفة أهم المعوقات التي تواجههم، ومقترحاتهم للمشاركة في تنمية العراق، ومعرفة أسباب عزوف بعض الكفاءات العلمية عن العودة الى الوطن أن وجدت، والسبل الكفيلة في التخفيف من هذه المعوقات التي يعانون منها في بلدان المهجر).
ولأخذ فكرة عن المؤتمرات أذكر بعضها على سبيل المثال لا الحصر:
المؤتمر الدولي السنوي للمفوضية العليا لشؤون اللاجئين التابعة للأمم المتحدة والذي عُقد في جنيف 2003 / المؤتمر الأول للجالية العراقية في اوروبا 2006 / المؤتمر الأول للمغتربين العراقيين في اوروبا / في مانجستر عام 2006 / المؤتمر العالمي الأول للكفاءات العراقية في المهجر – مؤتمر بغداد2008 / مؤتمر الكفاءات العراقية الأول في برلين 2008 / المؤتمر الأول لضمان الجودة والاعتماد الاكاديمي 2009/ المؤتمر العام الثالث للمغتربين 2009 / والندوة الحوارية التي أقامتها الملحقية الثقافية العراقية في لندن قريباً / وأخيراً المؤتمر الثاني للمهاجرين العراقيين في الدول الاسكندنافية الذي سيبدأ يبدأ أعماله نهاية شهر نوفمبر2011 برعاية وزير الهجرة والمهجرين، لاستثمار العقول العراقية المهاجرة في بناء العراق…إضافة الى مؤتمر السفراء العراقيين الثالث 2011 الذي دعا رئيس الوزراء السفراء فيه الى الاهتمام بالجالية العراقية في كل وقت لأنها امتداد عراقي ووطني يحمل صورة العراق، وعلى السفارات ان لا تميز بين عراقي واخر ولا تحاسبهم على وثائقهم الرسمية أو جوازاتهم ولا تميزه حتى اذا ما كان معارضا…كلام جميل وكلام معقول، يتعلق بجانب الوثائق وأمور الجوازات والمعاملات الرسمية، غير أن هناك أمور وآفاق أخرى، روحية وتربوية لناس مهاجرين عاديين وليس من ذوي الكفاءات، أمور يمكن أن نعززها ونلفت الاهتمام اليها.
ذلك هو ما دعاني الى الشروع بتلك الدراسة المتواضعة، وهذا هو الهدف الاساسي منها، لإعادة الثقة بالروح العراقية وحب البلد والتواصل الصحي والسليم به، ولخلق تقبل ذهني لبلد الأصل، وإضفاء الانطباع الجميل عنه لدى أجيالنا القادمة، وتالياً لبناء أسس غير مرتبكة لذواتهم وانتماءاتهم…أما الهدف الآني فيتمثل في معرفة أسباب العزوف عن العودة للوطن وإلقاء ضوء على هذه الظاهرة ليس من منظور فردي فحسب.
موضوع الاستفتاء / أداة الاستبيان /الطريقة وجمع البيانات
كتبت مقالة حول موضوع العودة لبلد المنشأ أشرت فيها هل أصبحت العودة أو الوطن أمنية تتحقق بتحقيق شروط نريدها لأنفسنا، أم أن تلك الرغائب في رجوع غير مشروط للبلد أصبحت من الماضي، نظراً لاستيعابنا واقعاً آخر غير بلدنا؟…وختمت المقالة بأسئلة، أبرزها:
هل تريد العودة الى الوطن؟…إذا نعم…لماذا؟ وإذا لا…لماذا؟ (يمكن إعطاء أكثر من سبب)/ بيانات شخصية (ترفق حسب الطلب وبمعيار المعرفة الشخصية أحياناً)/ هل بمقدورنا تحسين أوضاع الجالية العراقية في الخارج؟ كيف؟ (مقترحات)
تبلورت حينها عندي فكرة الاستبيان، فبدأت بأخذ آراء عينات استطلاعية وعشوائية من العراقيين من مختلف الأعمار، نساء ورجال، عاملين وغير عاملين وطلاب علم، من هاجر في أواخر السبعينات وما بعدها، وتطرقت الى أنماط التأقلم الحضاري أيضاً…أما بخصوص وسائل إجراء الاستبيان فاعتمدت على النقاش الغير المباشر مع العراقيين في التجمعات والمناسبات الاجتماعية، لتفادي طغيان روح المواطنة وبالتالي إخفاء الحقائق، ثم على ردود المقالة التي كتبتها، وعلى الفيس بوك، والايميلات والأسئلة المباشرة وجهاً لوجه وعلى التلفون.
بيانات إحصائية
اعتمد الاستبيان على عدد 250 عينة من بريطانيا، وتنوعت بياناته على النحو التالي: الفئة العمرية، الجنس، العمالة والدراسة، التعليم، زمن الهجرة، أنماط التأقلم الحضاري، وقد توزع الجدول كالتالي:
جدول الاستبيان للعدد 250 بيانات
العدد |
الفئة |
المعيار
|
98 |
من 18- 40 سنة
|
الفئة العمرية
|
152 |
+40
|
|
114 |
ذكور
|
الجنس |
136 |
أناث
|
|
42 |
طلبة ودارسين
|
العمالة والدراسة |
150 |
غير عاملين
|
|
58 |
عاملين
|
|
12 |
شهادة ثانوية او دبلوم معهد
|
التعليم والدراسة |
123 |
شهادة جامعية
|
|
15 |
شهادة عليا
|
|
4 |
قبل 1979
|
زمن الهجرة |
186 |
1979
|
|
43 |
بعد 1991
|
|
17 |
بعد 2003
|
|
241 |
اندماج وتكيف مع ازدواج الهوية وأزمة انتماء
|
أنماط التأقلم الحضاري |
4 |
اندماج وانصهار
|
|
5 |
انعزال
|
ذرائع وأسباب العزوف عن العودة
تعددت الاسباب والذرائع، وتكررت في أكثر من إجابة، الا أنها تمحورت حول العديد من الاسباب وأبرزها:
الوضع الأمني السيء وفقدان الاستقرار وسلطة القانون/ اغتيالات ومفخخات وانفجارات وإرهاب 99%
انعدام الخدمات الأساسية 91%
سوء الخدمات الصحية 43%
المتابعة الطبية هنا وتطورها والحاجة اليها 43%
اضطهاد الاقليات والقوميات والاضطهاد الطائفي والمذهبي والديني22%
التهميش والتجاهل والتجهيل والاهمال 21%
مضايقات سياسية وتضييق حريات ديمقراطية وشخصية 29%
انعدام حقوق المواطنة السليمة 13%
انعدام تكافؤ الفرص 11%
عدم وجود فرص عمل جيدة 25%
تدني الاجور 17%
عدم وجود ثقة بالسياسيين الحاكمين في قيادة التغيير المطلوب والتشكيك بنزاهتهم 41%
وجود احتلال أجنبي عسكري ومدني 37%
الهوة بين الداخل والخارج حضارياً وعراقيل جادة امام الذين عادوا الى الوطن 9%
تغيير نفسيات الشعب العراقي نحو النزعة المادية والتخلف الفكري والبشري 37%
عدم احترام حرية المرأة ودورها في بناء المجتمع على الصعيد الشعبي والمؤسساتي، والنظرة المتخلفة اليها وتقييد المظهر الخارجي واعتبار المرأة عورة 19%
الافتقار الى أساليب التعليم الحديثة والمواكبة لتطور العصر 17%
وفاة وهجرة معظم الأهل والأقارب والأصدقاء 5%
عدم وجود دار سكنية مناسبة وشروط معيشية ملائمة وفي الخصوص للمتقاعدين 69%
تغير البيئة والتلوث 14%
معوقات ادارية ووظيفية ورشوة وفساد 4%
مواصلة تعليم الابناء 16 %
استنتاجات
* لم أستلم إجابة واحدة في الاستبيان تؤكد وقوع أو وشوك وقوع حالة عودة نهائية للوطن وقطع الاتصال بالبلد المضيف، والكل يضع مصلحته أولا على المصلحة الوطنية.
* من يغادر للوطن، يذهب بسبب استكمال اجراءات التقاعد والتعويضات المالية، أو لأسباب سياسية وحزبية ووظيفية، وتكون العودة ناقصة بالتالي، إذ غالباً ما يأتي العائد الى بريطانيا عدة مرات في السنة، لرؤية العائلة أو لاستكمال علاج أو للإستجمام.
* أبدى أغلب الجيل الأول حباً للوطن وأسفاً لما وصل اليه من أحوال متردية، أما الجيل الثاني الذي شهد الحروب وعاش حالة الحصار الاقتصادي، فلم يتعاطف مع مفهوم الوطن.
* انتفى مفهوم اللاجئ عن المقيمين العراقيين الحاصلين على الجنسية البريطانية، وأصبحوا مواطنين مزدوجي الجنسية لهم حقوق في البلد الأول والثاني
* ارتباط الجيل الأول مع الوطن يتمحور حول ذكريات، والجيل الثاني المولود خارجه، مستمع لتلك الذكريات مما ينتج عن علاقة هشة بالوطن الأم.
مقترحات لتحسين وضع الجالية العراقية في بريطانيا
هناك رؤيا مستقبلية تؤكد على:
(استثمار طاقاتهم داخل العراق وذلك بالاستناد الى خيار بقاء هذه العقول في الخارج كبديل عن خيار العودة، لاعتقادنا بأن هذا الاسلوب هو الوحيد القادر فعليا على الاستفادة من العقول المهاجرة، لأنه حل منطقي وعملي، و يستهدف اشراكهم في التدريس والاشراف على الدراسات العليا عن طريق الزيارات والتواجد لفترات قصيرة داخل الوطن او “التعليم عن بعد” وطرق ايصال المعرفة الاخرى)
أما بخصوص أفراد الجالية العراقية الموجودين في بريطانيا من غير ذوي الكفاءات، وهم كثيرون، يتوزعون بين مبدعي فن وأدب وفن تشكيلي وتربويين ومتعلمين في مجالات أخرى عديدة من المحسوبين على الطاقات المعطلة، أدرج هنا بعض المقترحات:
* تعيين مندوب في السفارة العراقية في لندن يتفرغ لأمور الجالية العراقية.
* اختيار شخصيات تمثل الجالية من مختلف التجمعات والشرائح والقطاعات والأعمار للالتقاء الدوري والمنتظم بالمندوب للتباحث في شؤون الجالية المختلفة، والإعلان عن النتائج في موقع السفارة الإلكتروني.
* فتح صفحة فيس بوك للسفارة العراقية في لندن، والقيام بحملات ذات أغراض تطويرية وتعبوية بين حين وآخر، وتطوير استخدام الانترنيت ووسائل الاتصالات العصرية لتوطيد العلاقة المتبادلة بين الجالية والسفارة ومن ثم المسئولين في الداخل
* متابعة النتائج ورفع مقترحات عنها للجهات المعنية في الوطن.
* الاستفادة من خبرات الشباب العاملين في المؤسسات البريطانية، بعمل روابط مع تلك الهيئات لتمتين أواصر العلاقة لإنهاض البلد.
* تعزيز أواصر الارتباط والتلاحم بين افراد الجالية العراقية بوطنها وذلك بتخصيص بناية تكون لديهم كمركز اجتماعي وثقافي، تجمعهم وتغدو مركز اشعاع للمبادرات ولاحتواء المواهب والإمكانيات.
* الاهتمام بالطفل العراقي المهجر والمهاجر والجيل الناشئ، حيث بات أمراً ملحّاً أن تكون هناك مدرسة عراقية تدرس لغتنا العربية فضلا عن كونها مركز لرعاية مواهبه العلمية والفنية والأدبية، وجسرا لخلق العلاقة مع الوطن الأم، مع الاهتمام بقضية تسجيلهم حتى لا يكبروا وهم ليسوا عراقيين.
* الاهتمام بالتمويل الذاتي لمشاريع خيرية والدعوة الى إغنائها.
* إنشاء قاعدة لبيانات عن أعداد الجالية عن طريق استمارة لمن يرغب في إعطاء معلومات عنه.